بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث يدور حول الاستناد إلى الروايات المتواترة في لعن الراشي والمرتشي وحول مدى إمكانية الاعتماد عليها من خلال القرائن الداخلية او الخارجية لتنقيح كون الرشوة موضوعة للأعم أو الأخص، وقد ذكرنا ثلاثة قرائن قد يقال بإفادتها للاعمية، وقلنا ان القرينة الأولى تامة، هذا ما مضى.
القرينة الرابعة[1]: القرينة الداخلية مع الخارجية تدل على العموم
انه قد يستند إلى مزيج من قرينة داخلية وأخرى خارجية لإثبات المطلوب وهو الاعمية المدعاة، فإما القرينة الداخلية فهي كلمة اللعن الواردة في الرواية، وأما القرينة الخارجية فهي قوله تعالى (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ), ومورد البحث هو: ان بذل الشخص المال او غيره للقاضي المرتشي او غيره ليحكم بالحق هل هو رشوة أو لا ؟ هذه مسألة، وأما المسألة الأخرى فهي لو لم تكن رشوة فهل هي محرمة او لا؟[2]
فلعله يدعى ان بذل المال من اجل الحكم بالحق هو تعاون على الإثم ؛ لأنه من طرف القاضي القابل هو إثم قطعا، والآية منطبقة من هذه الجهة وعلى هذا المصداق بلا شك،
ولكن ولبيان هذه القرينة أكثر سنذكر ذلك ضمن ست حلقات متسلسلة لتحصيل المطلوب.
الحلقات الست في هذه القرينة :
وكما بينا إن هناك حلقات ست لو رتبت بأجمعها وثبتت فان الاستدلال تام بهذه القرينة وإلا فلا،
وهذه الحلقات هي: بذل المال له، هو تعاون على الإثم – وهي الحلقة الأولى –، وهو منهي عنه - وهذه هي الحلقة الثانية -، فهو أثم – وهي الحلقة الثالثة[3] – فحق لعنه – أي الراشي والباذل واستحق اللعن وهذه هي الحلقة الرابعة –، فشملته الروايات المتواترة في اللعن – وهذه هي الحلقة الخامسة –، وهذه خمس حلقات، وأما الحلقة السادسة فهي النتيجة النهاية: فتكون دلالة (الراشي) على الأعم وكونه موضوعاً له، على القاعدة
إشكالان في المقام، وردهما:
وهنا قد يورد إشكالان في المقام : الأول ان هناك دَوْرا بين الحلقة الأولى والثالثة، والثاني هو انه قد يكون المورد في الحلقة الأولى من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وكلا الإشكالين مندفع وذلك لأن الإثم الأول هو غير الإثم الثاني؛ لان الإثم الأول وهو المتعلَّق للنهي في الآية المباركة (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ) هو (إثم) محرز حيث ان الكلام في إثم القاضي والقابل وهو آثم وعمله – أخذه الرشوة - مصداق للاثم بأخذه المال على حكمه وإن كان بالحق وهذا مما لا كلام فيه، وأما الإثم الثاني - المذكور في الحلقة الثالثة - فانه قد تولد من كون المورد صغرى لكبرى التعاون على الإثم، فان (التعاون على الإثم) وهو الإعطاء للقاضي في المقام، إثم، حاله كحال من يقدم الخمر لأخر كي يشربه فهو مصداق للتعاون على الإثم وصاحبه آثم، والحاصل ان أخذ القاضي المال أثم، واعانته عليه والتعاون معه عليه إثم آخر.
والنتيجة: انه لا دور في المقام ولا توقف ولا يوجد هناك تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فهذه الحلقات الثلاث الأولى تامة،
وأما الحلقة الرابعة والخامسة فهي (صح لعنه) فان الآثم ملعون ومطرود من رحمة الله تعالى حين الإثم وبلحاظه (فتشمله الروايات), فتكون النتيجة من ذلك هي الحلقة السادسة وهي كون (الراشي) دالا على الأعم وكون وضعه له على مقتضى القاعدة كما سبق.
القرينة الرابعة والإشكالات عليها :
ولكن قد تورد على هذه القرينة أربعة إشكالات، والإشكال الثاني والثالث والرابع يتضمن البحث الموضوعي العام في تحليل معنى الآية.
الإشكال الأول :الصلاحية والامكان غير الوقوع
وهذا الإشكال هو إشكال صغروي خاص بالمقام، وهو منصبٌّ على الحلقة السادسة وهو انه قد حدث الخلط بين الإمكان والوقوع او بين الحسن والصلاحية وبين الوقوع
وبتعبير آخر: كل المقدمات الخمسة المذكورة إنما تجدي في جهة المحمول والحكم لا الموضوع أي إنها لو تمت فإنها ستفيد الحرمة، ولكنها لا تعمل على تنقيح موضوع الرشوة وانه الأعم، نعم غايتها ان هذا الباذل حيث كان منهيا عن ذلك, فهو آثم وملعون وتشمله روايات اللعن والآيات كذلك، فهو نتيجة ذلك كله (قابل) لان يطلق عليه عنوان (راشٍ) وتوجد صلاحية لوضعه للجامع الأعم منه[4]، ولكن الكلام ليس في الصلاحية وإنما هو في وضع هذا العنوان - أي (الراشي) – للجامع.
وبعبارة أخرى: هل ما ذكر من مقربات تصنع ظهورا عرفيا ارتكازياً للوضع؟ فهنا مورد الكلام فلو استظهر الفقيه ذلك فبها وإلا فلا، ونحن نرى إن هذا الإشكال تام حيث ما ذكرناه من مقربات لا تصنع ظهوراً, فهذه القرينة غير مجدية من هذه الجهة وهذا الوجه[5].
الإشكالات الثلاثة الأخرى :
وأما الإشكالات الثلاثة الأخرى فهي إشكالات كبروية وهي تعتمد على فقه الآية الشريفة، وسننتزع الإشكال الأول من النهي المستفاد من (لا)، وأما الإشكال الثاني فمن كلمة (تعاونوا), وأما الإشكال الثالث فننتزعه من كلمة (الإثم)
الإشكال الثاني :التفكيك بين القابل والفاعل
وهو بلحاظ النهي الوارد في (لا تعاونوا) وهنا نقول :
انه لا يعلم شمول (لا تعاونوا) والنهي الوارد فيها لما لا يكون إثما (بلحاظ الفاعل) وان كان إثماً (من طرف القابل)؛ - لصحة التفكيك بين الطرفين فانه من جهة القاضي آثم فهو بأخذه آثم ومحرم عليه ذلك الأخذ، ولكنه ليس إثماً ان نسب إلى المعطي وهنا نقول: ان (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ) منصرفة عن ما لا يكون آثماً من طرف الفاعل, وان كان آثماً من طرف القابل.
ويتضح ذلك بالمثال: فلو ان شخصا اضطر لعملية جراحية مثلاً وكان لابد من أن يقترض قرضاً ربوياً - حيث لا مصدر آخر له - فان هذا القرض من جهته ربا موضوعاً محلل حكماً وان كان من جهة المصرف والمرابي هو ربا محرم، ووجه الحلية ان أدلة تحريم الربا – كـ: (وَحَرَّمَ الرِّبَا) منصرفة عن المضطر[6] لكونه ذا خصوصية ثانوية عارضته
والأمر في المقام كذلك فان أخذ المال وان كان إثماً بحد ذاته من جهة القاضي ولكن بذله من جهة الفاعل وان فرض صدق الإثم عليه[7] فان دليل (لا تعاونوا) لا يشمله للانصراف، أو لورود العنوان الثانوي الطارئ عليه وهو الاضطرار، وللكلام تتمة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - وهذا بحث له موضوعية بحد نفسه وهو مهم ولم نجد من طرحه مع شدة الابتلاء به
[2] - وهنا سيكون البحث ملتقى البحثين الموضوعي و المحمولي الحكمي، وان كان كلامنا حول تنقيح الموضوع في الوقت الحاضر
[3] - والإثم الثاني هو غير الإثم الأول فلاحظ
[4] - أي الجامع بين بذل المال للقاضي ليحكم بالباطل وبذله له ليحكم بالحق.
[5] - وسيأتي وجه آخر فانتظر
[6] - أو هي شاملة له، لكنها محكومة بدليل الرفع (في المضطر وشبهه).
[7] - وسيأتي انه غير صادق، فالكلام هنا على فرض الصدق. |