بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث يدور حول الرشوة وتحديدها موضوعا, وانه هل يمكن الاستفادة من الروايات المتواترة والتي صرحت بلعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للراشي والمرتشي فحرمت الرشوة، لتحديد الموضوع؟ ذكرنا أن هناك قرائن يمكن أن يستند إليها من الناحية المبدئية في ذلك، وكان رابع هذه القرائن هو مزيج من الاستناد إلى اللعن الوارد في الروايات المتواترة ومن النهي الوارد في قوله تعالى (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، و أشكلنا على ذلك بإشكال أول،
و حاصله: إن هذا الاستدلال بالقرينة المزدوجة – من الآية والرواية - لا ينقح موضوع الرشوة، وذكرنا أن هناك ثلاثة إشكالات كبروية تفيد أن هذه الآية المباركة لا تجدي في تنقيح الحكم أيضا,وعليه فالاستدلال بها لا يجدي نفعا من جهة الموضوع ولا من جهة المحمول والحكم أيضا – لوتم احد هذه الإشكالات الثلاث-، وهذا على عكس ما ذهب إليه البعض من إمكانية الاستفادة من الآية في جهة التنقيح الحكمي.
وعليه فلا يصح ان نقول: إن بذل الشخص المال أو غيره للقاضي أو غيره، ليحكم بالحق هو حرام استنادا لهذه الآية من حيث كون الإعطاء إثما والمعطي آثما، وذلك لوجوه وإشكالات ثلاث ، ذكرنا الوجه والإشكال الأول فيما سبق وهو انصراف النهي في الآية عما كان الإثم أثم القابل دون الفاعل....
الإشكال الثاني: عدم صدق (التعاون على الإثم) على البذل للحق، إذ المدار هو (المصب) لا غير
وفي هذا الوجه والإشكال الثاني نترقى ونقول:
إن عنوان (التعاون على الإثم) في الآية الكريمة لا يصدق على البذل المزبور,
والوجه في ذلك: إن ملاك صدق (التعاون على الإثم) – وغيره[1] – هو كون الإثم هو المصب فان كان كذلك فهو تعاون وإعانة ومساعدة على الإثم وإلا فلا، أي أنه لو كان المصب غير ذلك, فانه وإن كان الإثم لازما للمصب أو نتيجة طبيعية له، فانه لا يصدق عليه عنوان (التعاون على الإثم).
بيان ذلك :
ويتضح ذلك بمثال في حالة المرابي والمضطر إلى الربا، فانه لو اضطر شخص لأخذ الربا (من اجل إجراء عملية جراحية لازمة مثلاً) وقام آخر بإعانة المقترض على الاقتراض من اجل إنجاح العملية وإجرائها فانه مصداق للتعاون على البر وليس تعاونا على الإثم، وأما لو قام شخص بإعانة المرابي على إجراء عملية الربا، فانه تعاون على الإثم من هذه الجهة حيث ان المصب هو الإثم، ومنه يتضح ان المدار والمحور هو المصب، لا لازم المصب أو نتيجته وان كانت إثما؛ وذلك ان المحور في الفهم العرفي والبناء الشرعي وفي الحمل الشايع الصناعي في صدق عنوان الإثم هو المصبّ لا النتيجة[2].
وفيما نحن فيه نقول: إن الباذل للمال لاستنقاذ حقه، فان المصبّ في هذه الحالة هو استنقاذ الحق وليس تقوية القاضي أو إعانته على المعصية، نعم لازم ذلك ونتيجته هو التقوية والإعانة على المعصية ولكن المناط والمدار في الصدق هو المصب لا النتيجة[3].
الإشكال الثالث:
وهنا نذكر إشكالا ثالثا على الاستدلال الآية المباركة, فنقول:
ان بذل المال من اجل الحكم بالحق ليس منهياً عنه وليس مشمولاً لآية (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) لعدم صدق الإثم عليه[4] بالحمل الشايع الصناعي لوجهين:
الوجه الأول: قصدية العناوين مانعة من صدق الإثم على البذل
ان (الإثم) متقوم بالقصد فلو قصد إعانة الراشي المضطر فلا يصدق على فعله هذا انه (إثم) عكس ما لو قصد إعانة المرتشي، وبعبارة أخرى إن العناوين التي تصب عليها الإحكام هي على قسمين:
احدها: العناوين التي ينطبق العنوان عليها بما هي من دون اخذ قيد القصد فيها, ثانيها: العناوين التي لا ينطبق عنوانها عليها إلا لو قصدها الفاعل، وهي ما نعبر عنه بالعناوين القصدية، وما نحن فيه هو من قبيل القسم الثاني لا الأول، أي من العناوين القصدية فان الإثم منها، وكذلك المعصية والطاعة وما أشبه من هذه العناوين، فكلها القصد قد اخذ فيها؛ فانه لا يصح إطلاق الإطاعة، إلا لو قصد المكلف هذه الإطاعة في عمله، فلو كان نائما وفعل ما أراده المولى فلا يقال ان ذلك طاعة منه إلا مجازا، وكذلك لو قصد القيام فقد يكون هذا القيام بملاك الاحترام فلا يطلق عليه الاحترام (وانه قام احتراماً) إلا لو قصده، وكذلك قد يكون بملاك الاستهزاء، والمدار مدار القصد[5],
إذن الموضوع له ثبوتا (في لفظ الاحترام والاستهزاء، وكذا الإثم والمعصية والطاعة) هو ما كان القصد جزءا منه، ولو جرد من ذلك لكان الإطلاق مجازيا، كما لو صدر من شخص شرب خمر لكنه كان غير قاصد لذلك فانه لا يطلق على فعله انه فعل إثم ولا عليه انه آثم، وكذلك لو صلى قاصدا أداء الحركات الرياضية والانتفاع منا فلا يصدق عليه انه أطاع الله تعالى، بل لا يصدق عليه انه (صلى) إلا مجازاً أو على القول بالأعمي لا الصحيحي.
وفي صغرى المقام نقول: ان الشخص الذي دفع المال لاستنقاذ حقه كان قصده هو استخراج الحق من القاضي، لا تقويته على ظلمه وإثمه, واستنقاذ الحق جائز - ان لم يكن واجبا -، فليس بإثم، هذا هو الوجه الأول من وجهي الإشكال الرابع[6]
وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - كـ(التعاون على البر).
[2] - وهذه مسألة سيالة ولها مصاديق متعددة كما في تدريس الطالب علوم أهل البيت ع فهو اعانة وتعاون على البر وان كان الطالب لا سمح الله بعد ذلك قد ينحرف عن الصراط المستقيم كأن يستخدم علومه لإغواء الناس مثلا، وهذا بحث مفصل يترك لمحله
[3] - والمصب هو إنقاذ الحق لا إعانة القاضي على المعصية
[4] - سيأتي ان عدم صدق الإثم على هذا الفعل (البذل) قرينة عقلية على ان المنهي عنه في الآية، غير هذا.
[5] - وهناك عناوين تكون قصدية بلحاظ محمولاتها فتارة تكون كذلك وتارة ليس كذلك ولنضرب مثالين : الاول الضرب مؤلم والثاني الضرب قبيح فان في المثال الأول الضرب مؤلم سواء أقصد الضرب أم لم يقصد وسواء أقصد الإيلام او لا، واما في المثال الثاني فان الضرب قبيح اذا قصده وأما اذا لم يقصد الضرب بل وقع منه غفلة فلا تصح نسبة القبح الى الفعل، إذن حتى الأفعال يمكن ان يفصل فيها بلحاظ محمولاتها
[6] - ولعل عنوان القصدية في هذا القسم من هذا الوجه في الإشكال الرابع هو ملاك التفكيك عن الإشكال الثالث فتأمل. |