بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
التبعيض في التقليد
(17)
دعوى الشيخ مانعية التخيّر من التبعيض
سبق ان الشيخ قال: (واستصحاب التخيير غير جار، لأن الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخير، فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضوعه)([1])
وحاصله: ان الاستصحاب هو (إبقاء ما كان) وهو أسدّ التعريفات واخصرها حسب ما قاله الشيخ أو (أو الحكم ببقاء حكمٍ أو موضوعٍ ذي حكم شك في بقائه) – حسب تفسير الآخوند له، وليس المقام منه إذ تخيير من تخيّر غير تخيير من لم يتخيّر([2]) فكيف يستصحب؟
تأييدٌ: القاضي منصوب لفصل الخصومات
ولنا ان نؤيد كلام الشيخ ونقويه بانّ القاضي([3]) نصب لفصل الخصومات وذلك متوقف على علل معدة وأمور منها كسب ثقة الناس به([4])، فلو شَرَّع الشارع ما يلزم منه سلب ثقة الناس به كان نقضاً للغرض، وتشريعُ جواز العدول للقاضي يوجب سلب ثقة الناس به إذ يرونه قد حكم في واقعةٍ بحكم ثم حكم في واقعةٍ أخرى مشابهة لها تماماً لكونهما فردي كلي واحد، بحكم مضاد أو مناقض([5]).
الجواب: التخيّر لا مدخلية له ولا خصوصية له
والجواب: اما عن أصل كلام الشيخ فبأن (التخيّر) لا مدخلية له في الحكم الواقعي ولا في الحكم الظاهري وهو التخيير ولا في الحجية، فالموضوع المشكوك إذاً هو نفس المتيقن السابق لا غيره ومتعلقه (أي المكلف) هو نفسه بخصوصياته فهو إثبات للحكم في نفس موضوعه الأول.
لا في الحكم الواقعي
أ – اما عدم مدخلية (التخيّر) في الحكم الواقعي فلوضوح ان الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات وهي أمور ثبوتية ولا مدخلية لاختيار القاضي أو الوالي لأحد الطرفين في تغيّر واقع الموضوع ومصلحته ومفسدته؛ ألا ترى ان القاضي لو اختار محرِّمية العشر رضعات لما أوجب ذلك انقلاب العشر رضعات عما هي عليه من المفسدة أو المصلحة الثبوتية في التزوج بها أي بمن ارتضعت معه عشراً نظراً لأن الرضاع لحمة كلحمة النسب؟
ولا في الحكم الظاهري (التخيير)
ب- اما عدم مدخلية التخيّر في الحكم الظاهري وهو التخيير فلأن ملاك التخيير هو (التوسعة) و(التسليم) على ما صرح به في الروايات ولا ريب في ان هذا الملاك عام للتخيير الاستمراري، فتدبر في قوله ( عليه السلام ) (فموسع عليك بايهما أخذت) و(بأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً) وقد جمع الملاكين قوله ( عليه السلام ) (بايهما أخذت من باب التسليم وسعك) فهذه الروايات والكثير من نظائرها تصرح بان ملاك التخيير هو التوسعة على المكلف أو اختياره لاحد الطرفين من باب التسليم، وهو أعم من الحدوث والاستمرار، بل لو ألقي هذا التفصيل([6]) للأذهان العرفية لاستغربوه بحسب نظرتهم العرفية وهم المخاطبون بالروايات ومن ألقي إليه الكلام.
ولا في الحجية
ج- واما عدم مدخلية التخيّر في الحجية فلأن قوام الحجية بالكاشفية ولا ريب في ان تخير القاضي لأحد الطرفين لا يؤثر في درجة كاشفية الرواية – سواء أكانت معارضة أم لا - عن الواقع أبداً.
أجوبة ثلاثة عن التأييد
واما الجواب عن التقوية:
فأولاً: لئن تمت فانما تتم في (العدول) – كما هو مورد كلام الشيخ – لا في (التبعيض) كما هو مورد الكلام؛ فان الحكم في مسألةٍ على ضوء رواية أو فتوى والحكم في مسألة أخرى لا ترتبط بها على ضوء رواية أو فتوى أخرى (فيما لو تعارضت في المسألتين الروايات أو الفتاوى فأخذ بالموجب من احدهما والسالب من الآخر مثلاً أو حكم بالأسهل من كلا الفريقين) لا يقتضي سلب الثقة أبداً.
ثانياً: لئن تمت في القاضي (في العدول أو حتى في التبعيض فرضاً) فانها لا ترتبط بمورد البحث من تبعيض العامي في عمل نفسه بين فتاوى الفقهاء كأخذه بالأسهل من كل منهما: بان يسبح بالتسبيحات الثلاث مرة واحدة فقط وبأن يرى المتنجس الثاني ليس بمنجس مثلاً على ما ذهب إليه البعض أو ما ذهب إليه البعض من التفصيل في المتنجس الثاني بين ملاقاته للماء أو المائع وغيره([7]).
ثالثاً: - كبرى – بان ثقة الناس بالقاضي مناطٌ مستنبطٌ ولا يعدو كونه استحساناً ظنياً فلا يقاوم المناط المصرح به في الروايات وهو ما سبق من (التوسعة والتسليم).
خاصة مع لحاظ ان نفس (ثقة الناس) لم يعتبرها الشارع على إطلاقها ملاك حكمه في كثير من الأحكام ومنها التعزيرات فانه أوكل أمرها إلى نظر الحاكم مع ان الكثير من الناس قد يعترض ويحتج ويستنكر انه لِمَ عزر فلان بعشرين جلدة والآخر بخمس جلدات مع ان جرمهما واحد؟
وبذلك ظهر ان فصل الخصومات وإن كان ملاكاً مسلماً إلا انه بنحو الحكمة لا العلة وإلا لنقض بمثل إيكال أمر التعزير للحاكم فانه قد يسبب عصيان المجرم وطغيانه إذ يرى اختلاف درجة التعزير ونوعه فلا يلتزم بالحكم ولا يتم فصل الخصومة. فتدبر
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) فرائد الأصول ج4 ص44.
([2]) والأدق المطابق لكلامه ان يقال: إذ من تخير هو غير من لم يتخير فكيف يثبت الاختيار الثابت للثاني، للأول؟
([3]) وهو محل كلام الشيخ هنا.
([4]) إذ لو لم يثقوا به، لعصوا وخالفوا حكمه فلم يتم فصل الخصومة.
([5]) كما لو حكم على من راجعته وقد تزوجت من ارتضع معها عشراً، بكونها زوجته استناداً إلى رواية محرِّمية الخمس عشرة رضعة، ثم حكم على أخرى راجعته بعد قليل أو كثير بانها ليست زوجة الآخر استناداً إلى رواية محرمية العشر رضعات.
([6]) انه مخير ابتداء لا استمراراً وان من لم يتخير مخيّر لا من تخيّر.
([7]) راجع المسألة 11 من العروة الوثقى – كيفية تنجس المتنجسات – مع حواشي الأعلام. |