بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول مسائل الرشوة المتنوعة المتفرعة على البحوث الاستدلالية السابقة، ووصلنا إلى المسائل الأربعة الأخيرة وان المبلغ المدفوع فيها هل هو رشوة ومحرمة؟ ذكرنا أن عمدة الأدلة على حرمة اخذ المال في مقابل فعل الواجب هو الإجماع، ولكنه مخدوش صغرى، ولو سلمنا بتماميته فان الكبرى يمكن أن يتأمل في إطلاقها؛ إذ الإجماع دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وذكرنا انه توجد أربع صور في المقام، ونعيد عنونه هذه الصور بعنوان أوضح مع بعض الإضافات فنقول:
الصورة الأولى: أن يأخذ المال ابتزازاً[1]
إن الشخص قد لا يصلي ابتزازا، وهنا فان المال المأخوذ في قبال هذا الابتزاز هو رشوة موضوعا ومحرم حكما وان فرض انه ليس برشوة أو شك في صدق الاسم عليه فان اطلاقات (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) تشمله.
الصورة الثانية: ان يأخذ المال في مقابل أداء الواجب
ان يصلي في مقابل المال, أي إن أداء واجبه – الصلاة- هو من اجل اخذ المال، وهذه الصورة هي القدر المتيقن من الإجماع، على فرض ثبوته.
الصورة الثالثة: ان يأخذ المال لرفع المانع
أن لا يصلي الشخص بسبب الانشغال فيبذل له المال كي ترتفع العلة فيصلي أي في مقابل رفع المزاحم أو تركه (كالعمل أو اللعب أو الدراسة)، وقد مضى إن هذه الصورة لا يصدق عليها أنها رشوة وليست من أكل للمال بالباطل فان المال لم يبذل له ليصلي، بل بذل لإزالة المزاحم والمانع، وهو أمر عقلائي.
والحاصل: انه حيث لم يكن المصب لإعطاء المال هو العبادة وفعلها, ولم تكن هذه الصورة مورد الإجماع، فانها لا تحرم إذ لا تشملها اطلاقات او عمومات (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) فتأمل.
الصورة الرابعة: أن يأخذ المال من اجل التغلب على الكسل ونظائره
أن يدفع المال له كي يتغلب على كسله فان البعض قد يتكاسل عن الصلاة فيكون الدفع لرفع الكسل كمقدمة للصلاة, او في مثال آخر أن يدفع المال له كي يجاهد نفسه فيكون دفع المال بنحو الداعي على الداعي للصلاة، وهذه الصورة هي خارج معقد الإجماع من حرمة اخذ الأجرة على الواجب فانه لا ينطبق على المقام ولا إطلاق له يشمله ولا يصدق عليها عرفاً انها رشوة فهذه صور أربعة[2].
المسألة السابعة عشرة: لا فرق بين كون المبذول له هو القاضي الشرعي او قاضي التحكيم
لا فرق في حرمة المال المبذول لكونه رشوة، بين ان يبذل للقاضي – كما أسلفنا-، وبين ان يبذل لقاضي التحكيم، فقاضي التحكيم يختلف عن القاضي فالأخير هو المنصوب من قبل الإمام عليه الصلاة والسلام، وأما قاضي التحكيم فهو ذلك الشخص غير المنصوب إلا إن المترافعين تراضيا به حَكَما[3]، كما هو المشاهد كثيراً بين الناس في العشائر والمجتمعات
وعليه: فلا فرق في صدق الرشوة على المال المبذول لقاضي التحكيم بين ان نقول بنفوذ حكمه او لا وبين ان نقول بلزوم استجماعه للشرائط أو لا، وسواء كان منحصراً تحقق وجوده في زمن الإمام عليه الصلاة والسلام او لا – على ما بحث في محله -.
المسألة الثامنة عشرة: لا فرق بين كون القاضي منصوباً جامعاً للشرائط أو لا
لا فرق في كون المال المبذول رشوة ومحرمة بين صور أربع وهي:
أولا: ان يكون القاضي مستجمعا للشرائط ومنصوبا من قبل الإمام عليه الصلاة والسلام.
ثانيا: ان يكون فاقدا للشرائط غير منصوب من قبل الإمام عليه الصلاة والسلام، بل من قبل الحاكم الجائر.
ثالثا: ان يكون مستجمعا للشرائط، ولكنه كان منصوب من قبل الجائر.
رابعا: ان يكون فاقدا للشرائط ولكن نصبه الامام العادل لوجهٍ وضرورة.
وبذل المال له في مقابل الحكم في كل هذه الصور هو رشوة ومحرم
توهم ودفعه[4]: الحرمة في الصورة الأولى فقط
وقد يتوهم التفصيل في هذه الصور، بدعوى إن الرشوة المحرمة هي تلك المدفوعة للقاضي المستجمع للشرائط المنصوب من قبل الإمام عليه الصلاة والسلام، وأما غيره فلا،
ووجه التفصيل المتوهم هو: ان القاضي المستجمع للشرائط والمنصوب من قبل الإمام عليه الصلاة والسلام وظيفته وواجبه ان يفصل بين المترافعين فيحرم عليه اخذ المال على أداء الوظيفة فلو اخذ المال فسيكون مندرجا تحت الكبرى الكلية السابقة، أي حرمة اخذ المال على الواجبات – بناءاً عليها -.
ولكنه لو لم يكن منصوبا فانه ليس من وظيفته أن يحكم، وكذلك لو لم يكن عادلاً ومستجمعا للشرائط فانه لا إشكال في أخذه المال، وأثمه في حكمه لا في أخذه
ردّ التوهم:
ولكن هذا التوهم مردود؛ لان منشأ الإشكال هو صدق الرشوة في هذه الصور المختلفة، وليس من جهة اخذ المال على فعل الواجب ليقال بان القاضي المستجمع للشرائط والمنصوب هو الذي فعله واجب لا غيره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينطبق على كل هذه الصور انه أكل المال بالباطل وما أشبه
المسألة الثامنة عشرة: يحرم بذل المال للعامل أيضا
كما يحرم بذل المال للقاضي، كذلك يحرم بذل المال للعامل أيضا، أي العامل من قبل السلطان، والعامل يشمل من هو من دون السلطان من رئيس الوزراء إلى الموظف والشرطي في الشارع مثلاً
وقال صاحب المسالك: (اتفق المسلون على تحريم الرشوة على القاضي والعامل)[5], والحرمة هنا لصدق الرشوة قطعا. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - أو فقل: ان لا يصلي ابتزازاً.
[2] - وهذا رأي صناعي مبدئي بحاجة إلى مزيد من الأخذ والرد فتدبر
[3] - وهنا بحوث مفصلة كثيرة الابتلاء ولم تنقح جيدا، قد ذكر شطراً منها صاحب الجواهر والفقه وغيرهما فراجع
[4] - وهذا ما قد يستشم من كلمات بعضهم
[5] - والرشوة غير الهدية، وقد ادعى حرمة الهدية للعامل أيضاً لوجود روايات تدل على ان هدايا العمال غلول وفي بعضها سحت، على نقاش في سندها نوكله لمحله. |