بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
حرمة اللهو واللعب واللغو والعبث
(5)
تتمة مناقشة فقه الصادق ( عليه السلام )
سبق استشهاد فقه الصادق، بالآيات الكريمة على ان اللهو هو من أفعال النفس قال (ان الظاهر ان اللهو من افعال النفس، بمعنى انه عنوان منطبق عليها، ولاربط له بالافعال الجوارحية، وليس كاللعب منطبقا على تلك الافعال كما يظهر لمن تدبر في مشتقات هذا اللفظ، لاحظ قوله تعالى (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)([1]) اي ساهية غافلة مشغولة بالباطل عن الحق وتذكره، وقوله تعالى (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ)([2]) اي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة المال عن الاخرة، وقوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)([3]) وقوله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)([4]) ولذا قيل في قول لهو الحديث: ان الاضافة بمعنى من، لان اللهو يكون من الحديث وغيره، واطلاقه على بعض الافعال الجوارحية كالغناء انما هو من باب اطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب)([5])
أقول: يرد عليه
أولاً: ان إثبات الشيء لا ينفي ما عداه وان الاستعمال في الحقيقة أي كون الاستعمال في معنىً حقيقياً أعم من انحصار الحقيقة فيه.
المراد باللهو في بعض الآيات الأعم
ثانياً: انه قد يقال إن بعض الآيات يراد باللهو فيها الأعم من لهو الجوارح أو لا أقل الآية مجملة محتملة للطرفين فلا تصلح شاهداً على التخصيص.
فقوله تعالى: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) قد يقال ان المراد ألهى قلوبَكم وجوارحَكم التكاثرُ؛ لوجهين:
الأول: ان حذف المتعلق يفيد العموم فالهاكم أي ألهى قلوبكم وجوارحكم أو لأن الضمير (كم) يشمل الجوارح والجوانح.
الثاني: قرينة (التكاثر) فان التكاثر يلهي القلوب والجوارح معاً فانه تفاعل من الطرفين ويفيد طلب كثرة الأموال والأولاد ومن الواضح ان طلب الكثرة أو تكاثر هذا على ذاك وبالعكس([6]) يتطلب انشغال الجوانح وانشغال الجوارح بالبيع والشراء والأخذ والعطاء والذهاب والإياب، فالظاهر ان المراد بالتكاثر ما هو ظاهره([7]) لا خصوص التفاخر والتباهي الذي فسره به في التبيان على انه لو أريد فأنه أعم أيضاً فان التفاخر والتباهي لفظي وقلبي بل هو أظهر في اللفظي منه فتأمل
وقال في (الصافي): (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) شغلكم التباهي بالكثرة وقيل الهاكم التكاثر بالأموال والأولاد مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم وهو طلب الآخرة)
ومن الواضح ان إضاعة العمر في طلب الدنيا تشمل الجوارح كالجوانح معاً، وان التباهي بالكثرة هو لفظي.
وقوله تعالى: ( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) الظاهر ان المراد به الأعم من القلب ومن الاعراض بالوجه أو الجسد كما يدل عليه المورد فإن عثمان اعرض بوجهه عن الفقير وجمع ثيابه.
كما قال في الصافي (تلهى: تلهو ولا تلتفت إليه) والالتفات ظاهر في الوجه، وقال في التبيان (أي تعرض عنه).
وقوله تعالى: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)
قد يقال ان المراد من (ذكر الله) الأعم من ذكره باللسان ومن تذكره بالقلب؛ ذلك ان التجارة والبيع تلهي القلب كما تشغل وتلهي عدداً من الجوارح كالعين واللسان والسامعة واليد والرجل بالذهاب والإياب.
ولذا قال الشيخ الطوسي في التبيان (أي لا تشغلهم ولا تصرفهم التجارة والبيع عن ذكر الله وتعظيمه) فإن التعظيم جسمي وبدني كما هو قلبي. ونقل في تفسير الصافي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) (لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها) ولعله ظاهر في العمل أي الانطلاق إلى الصلاة أو الانشغال بها في مواقيتها.
وقال الصافي (وفي الفقيه: كانوا أصحاب تجارة فإذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة وهم أعظم أجراً ممن لا يتجر).
القرينة في بعض الآيات خصصت اللهو بالقلب
ثالثاً: وبعض الآيات احتوت على قرينة معيِّنة([8]) كقوله تعالى ( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) فتفيد تخصيص اللهو بالقلب لذلك والقرينة المعينة لا تنفي الحقيقة عن غيرها عكس الصارفة وإذا ترددت القرينة بينهما فلا دلالة فيها على المجازية لإجمالها.
ولذا لم يكن يمتنع ان يقول (لاهية عيونهم أو ألسنتهم) خاصة وان الآية بتمامها ربما تشهد على القرينية (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
وصف الحديث باللهو حقيقي
رابعاً: ان الظاهر ان وصف الحديث باللهو حقيقي، يدلك على ذلك وصفه بالجاد بلا عناية فيقال كلام جدي أو جاد([9]) وهازل أو لاهي، والظاهر الحقيقة بدلالة صحة الحمل والإطراد وعدم صحة السلب إلا بعناية.
والظاهر إضافة إلى ذلك، ان الغناء والرقص والشطرنج توصف – عرفاً - بانها لهو حقيقةً لا مجازا ودعوى ان ذلك من باب إطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب، بلا دليل، بل الدليل على العدم للصدق العرفي وصحة الحمل والإطراد وغير ذلك كما سبق، بل قد يقال ان إطلاق اللهو على ما عبَّر عنه بالمسبب هو المجاز، فتأمل
ويؤكد ذلك كله كلمات اللغويين، كما سيأتي
وعليه فالظاهر ان الإضافة بيانية أي لهو هو الحديث لا بمعنى (من) فهي كـ(قول الزور) حيث استظهرنا ان الإضافة بيانية.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) الأنبياء 3.
([2]) التكاثر 1.
([3]) النور 37.
([4]) عبس 10.
([5]) فقه الإمام الصادق ( عليه السلام ) ج21 ص339.
([6]) أو طلب الشخص الأشياء وبالعكس، مجازاً في أحد طرفي الطلب لكنه بعيد.
([7]) أي يطلب أكثر فأكثر مقابلاً للآخر كذلك أو بدون هذا القيد (مقابلاً...).
([8]) نقصد بالمعيِّنة الأعم من تعيينها أحد معاني المشترك اللفظي أو أحد أصناف المشترك المعنوي.
([9]) ولا يراد: جادُّ صاحبُه، أو يؤدي إلى الجد، إلا بتعمل وعناية. |