بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
التبعيض في التقليد
(34)
دعوى انه لا يمكن الردع عن سيرتي العقلاء والمتشرعة
سبق ان سيرة العقلاء وسيرة المتشرعة حسب مجموعة من مناشئها ووجوهها لا تحتاج إلى الإمضاء المستكشف بعدم الردع أو غيره؛ وذلك ان السيرة ان كان منشأها الفطرة أو العقل أو كان منشأ حجيتها قاعدة اللطف أو برهان الغرض أو شبه ذلك فانها لازمة الاتباع ولا يمكن الردع عنها ولا تتوقف حجيتها على الإمضاء لضرورية حجيتها عندئذٍ، كما لا تحتاج الأحكام المنكشفة بها أو المجعولة بها (بناءاً على كون العقل حاكماً وكذا الفطرة) إلى إمضاء.
الجواب بان السيرة لا تزيد على مقتضَيات مودَّياتها
لكن قد يورد عليه: بان السيرة لا تزيد على مقتضَيات مؤدَّياتها فان مؤدَّى السِيَر وما انعقدت عليه السيرة أما الاحكام أو الحجج: اما الأحكام فبين مباح ومستحب وواجب وكيف يُلزم المكلف باتباع المستحب أو المباح؟ وكيف يزيد الحاكي عن مقتضَيات المحكي؟
واما الحجج فان السيرة لا تزيد دلالتها على كون ما انعقدت عليه كخبر الثقة وقول الخبير حجةً أي كاشفاً نوعياً عن الواقع ولا تفيد كونه كاشفاً تام الكاشفية ولذا كان من الظنون النوعية كما انها لا تزيد على كونه حجة لا بشرط ولا تفيد الحجية بشرط لا أي لا تفيد عدم وجود قسيم آخر أو عدم إمكان جعل بديل آخر([1]).
وعليه: فان من الممكن وإن كان منشأ انعقاد السيرة على حجية خبر الثقة أو قول الخبير هو الفطرة أو العقل، أن يجعل المولى – والشارع سيد الموالي – طريقاً آخر حجةً على مقاصده كأن يجعل البيّنة هي الحجة على مقاصده لا خبر الثقة الواحد بل خبر العدلين الموثوق بهما، كما ان من الممكن ان يجعل الحجة في الحدسيات قول خبيرين معاً لا الخبير الواحد، خاصة وان أحكام الشرع من أخطر الأمور حتى صغارها فانها ترتبط بالأمر والنهي الإلهي وأصغر أمر أو نهي منه لا يعدله أكبر أمر أو نهي من أي مولى آخر كما انها ترتبط بالسعادة الأبدية أو الشقاوة الأبدية فالمقتضي للتشديد في الحجج عليها موجود.
ويتفرع على ذلك: انه حيث امكن للشارع ان يجعل طريقاً آخر أو ان يشترط في الطرق والحجج العقلائية شروطاً([2])، فان سيرة العقلاء والمتشرعة تتوقف حجيتها على الإمضاء إذ حيث أمكنه جعل البديل والردع عن الطريق كان ثبوت حجية الطريق العقلائي لدى الشارع موقوفاً على الإمضاء ولو المستكشف من عدم الردع.
الرد: الفرق بين عدم المقتضي ووجود المانع
ولكن يمكن الجواب عن ذلك بان ذلك وإن صح – على تفصيل – إلا ان السيرة مع ذلك لا تتوقف على الإمضاء مادام منشؤها الفطرة أو العقل أو مادام وجه حجيتها الغرض أو اللطف وإن أمكن الردع عنها بالوجه المذكور، وذلك للفرق الواضح بين عدم كون الطريق تام الاقتضاء للحجية([3]) وبين كونه تام الاقتضاء إلا انه عارضه معارض أقوى، ففي الصورة الأولى المشكلة تكون في مرحلة المقتضي وفي الصورة الثانية تكون المشكلة في مرحلة المانع والأصل في كليهما لدى الشك العدم إلا إذ النتيجة متعاكسة.
الاستشهاد بالفرق بين العام والمطلق
ويتضح ذلك بالإشارة إلى الفرق الذي بنى عليه المشهور في مبحث العام والخاص فانه رغم أن العام يمكن الردع عنه بنصٍ يتقدم عليه إلا انه لا يقال ان حجية العام موقوفة على عدم الردع وذلك لأنه تام الاقتضاء للحجية إذ انه وضع للدلالة على الشمول والعموم فالمقتضي تام الاقتضاء فإذا شك في المانع – وهو الأظهر أو النص كمعارض أقوى – فالأصل عدمه بعد الفحص ولا يقال ان حجية العام تتوقف على الإمضاء أو عدم الردع.
أما المطلق فانه لا مقتضي له للشمول مع وجود قرينة على الخلاف، بل حتى مع عدم كون المولى أو عدم إحراز كونه في مقام البيان، فعدم القرينة على الخلاف تصنع المقتضي للاطلاق وبدونها([4]) لا اقتضاء وليس ان اللفظ المطلق تام الاقتضاء للشمول لولا القرينة على الخلاف.
والحاصل: ان القرينة على الخلاف تأتي في مرحلة الاقتضاء في المطلق فتدفعه لكنها لا تكون إلا في رتبة المانع في العام فترفعه ولذا يقال: ان المطلق يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة دون العام مع ان القرينة على الخلاف في كليهما هي دليل على عدم الشمول لكن الفرق انها في العام مانع وفي المطلق جزء السبب اي المقتضي.
وبعبارة أخرى: القرينة على الخلاف تمنع الإرادة الجدية في العام دون الاستعمالية، لكنها في المطلق تمنع انعقاد حتى الإرادة الاستعمالية. فتأمل([5])
والمقام من قبيل العام لا المطلق إذ كان منشأ السيرة هو الفطرة أو العقل فانها مقتضية تامة الاقتضاء للحجية ولا مشكلة في مرحلة ذاتها إنما المشكلة تنشأ من الطارئ الخارجي لذا لا يصح القول بان حجية السيرة تتوقف على عدم الردع أو الإمضاء بل حجيتها بمنشأها إلا انه قد يرفع اليد عنها نظراً لوجود المعارض أو المزاحم الأقوى كالعام تماماً، فتدبر جيداً.
الدليل الخامس: الروايات الحاكمة بالتخيير
سبق الاستدلال على صحة التبعيض في التقليد بالإطلاقات والعمومات وسيرة العقلاء وسيرة المتشرعة، وقد أضاف السيد العام في بيان الفقه([6]) الأخبار العلاجية فقال (لبعض الأخبار العلاجية الحاكمة بالتخيير في باب الروايات الشاملة لاختلاف الفقيهين أيضاً، مثل: ((بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم))([7]) ونحوه.
بتقريب: أنّ الحكم هنا يشمل اختلاف الفقيهين أيضاً، وذلك: إمّا لأنّ اختلافهما جلاً مبني على اختلاف الأخبار، فيكون اختلاف الفقيهين من اختلاف الأخبار حقيقة – كما هو الغالب -.
وإمّا لفهم عدم الخصوصية في ذلك، فلو أُلقي مثل هذا الحديث على العرف، ثمّ عرف العرف بأنّ الأخبار لوجود العلاجات فيها تحتاج إلى استنباطات الفقهاء، ثمّ رأى العرف اختلاف فقيهين في مسألة، لا يرى في العمل بالأخبار العلاجية فيها، كونه خروجاً من موضوع إلى موضوع آخر.
ويؤيّد ذلك كلمة: ((من باب التسليم)) فإنّه يستشعر منها العلّية، بأنّ علّة السعة في الأخذ بأيّهما كان، إنّما هي كون ذلك من باب التسليم، الجامع بين الأخبار، وفتاوى الفقهاء).
أقول: والوجه الأول – بعبارة أخرى – يفيد ان مرجع اختلاف الأنظار إلى اختلاف الأخبار فان من يفتي بان العشر رضعات محرمة يستند إلى خبرٍ ومن يفتي بان الخمسة عشرة رضعة محرمة يستند إلى خبر آخر وكذا من يفتي بان الكر ما كان 3×3×3 أشبار ومن يفتي بانه ما كان 3.5×3.5×3.5 فاختلاف الفقهاء في واقعة صغرى اختلاف الأخبار غالباً.
الوجه الثاني: وبعبارة أخرى أيضاً: ان وجه حجية إخبار الثقات عن الأخبار وجه حجية الفتاوى ليس لنكتة تعبدية بل لكون كليهما كاشفاً ظنياً نوعياً عن الواقع فإذا كان الحكم لدى تعارض أخبار الثقات عن الأخبار هو التخيير كان الحكم في تعارض الفتاوى كذلك لا لفهم عدم الخصوصية فحسب بل لكشف الملاك الحقيقي وهو الحجية من باب الكاشفية الظنية وان مقتضاها عند التعارض هو التخيير. وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) بعبارة أخرى: تفيد كونه منجزاً معذراً لكن إن لم يجعل المولى بديلاً عنه أو لم يردع عنه.
([2]) (شروطاً) ذات مدخلية في اقربية الإصابة للواقع أو اقوائية الظن، أو حتى ذات مصلحة سلوكية.
([3]) أي ليكون لازم الاتباع أو منجزاً معذراً.
([4]) أي بدون هذه المقدمة وهي عدم القرينة على الخلاف.
([5]) إذ قد يفصل في العام بين المخصص المتصل والمنفصل. وفيه بحث يوكل لمظانه.
([6]) بيان الفقه ج2 ص170.
([7]) الوسائل: الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح19. |