بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(10)
الإشكال بضياع كثير من الأحكام
لا يقال: لعله لم تصلنا مجموعة من أوامره تعالى نتيجة إحراق الكتب أو رميها في الأنهار أو شبه ذلك؟ فلا يمكن التمسك بالإطلاق المقامي ويبقى برهان الغرض قائماً على قوته؟
الجواب: أولاً: لا علم بضياعها بل صِرف احتمال غير منجز
إذ يقال: أولاً: المناقشة صغرى بانه لا يعلم وجود أحكام إلزامية في الكتب الضائعة إذ لعلها كانت كتب سيرة وتاريخ أو تفسير أو آداب وسنن، ولعلها كانت أحكاماً إلزامية مكررة أي مكررة عما هو موجود في الكتب الباقية، والأصول الاربعمائة وإن فقد أكثرها إلا انه لا يعلم ان ما فيها من الأحكام الإلزامية – إن كان فيها – هو غير الأحكام الإلزامية الباقية لدينا، ويؤكده ان مثل الكليني المتوفى 329 والذي تصدى لجمع الأحكام كلها لا يعقل ان يكون قد اغفلها إلا لو وجدها مكررة أو متضمنة آداباً وسنناً وشبه ذلك([1]).
ثانياً: على فرض إحراز ضياعها، فقد رفع الشارع يده عنها
ثانياً: سلمنا قوة احتمال وجود أحكام إلزامية فيها (ليكون احتمال الغرض منجزاً) بل حتى لو سلمنا وجود أحكام إلزامية فيها، لكن الشارع رفع يده عنها وأطلقها بالنسبة إلينا في مرحلة التنجز لمسلّمية أحاديث الرفع([2]) كـ(رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعٌ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَمَا لَا يَعْلَمُونَ وَ...))([3]) و((مَا حَجَبَ اللَّهُ عَنِ الْعِبَادِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ))([4]) و((كُلُّ شَيْءٍ مُطْلَقٌ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ نَهْيٌ))([5]) و((كُلُّ شَيْءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ وَذَلِكَ مِثْلُ الثَّوْبِ... وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَةُ))([6]) وغيرها على مناقشات في بعضها، لوضوح ان الأحكام المفقودة – على فرضها – لا نعلم بها ولا طريق لنا إلى العلم بها وقد حجب الله علمها عنا ولم يرد إلينا فيها أمر أو نهي – أي لم يصل إلينا – فهي مرفوعة، إضافة إلى قوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)([7]) إذ سبق ان الرسول كناية عن (الحجة الواصلة).
ثالثاً: (الحجج) على الحجج، لا يعقل ضياعها
ثالثاً: ان الأحكام وان فرض عدم وصول بعضها، إلا ان الكلام في الطرق والحجج وهي معدودة على الأصابع([8]) ولا شك في انها لو كانت للشارع حجة جديدة أو لو كان نفى حجة عقلائية لوصل ذلك إلينا رغم ضياع ما ضاع لشدة توفر الدواعي على إيصال مفاتيح الحجج والأحكام، بل ولكون خلاف ذلك([9]) مخالفاً للحكمة ونقضاً للغرض مع وضوح سهولة إيصال حجية طريق من الطرق أو عدمه بانحاء متعددة جداً بحيث تصل إلينا حتى مع إتلاف أضعاف ما قد أُتلف.
وحيث نجد انه لم يصلنا من الشارع حجة وبيان على تعين تقليد الأعلم مع انه لو كان قد حكم بتعيّنه لوجب إيصاله إلينا بما يقطع العذر ويكون واضحاً للعالم والجاهل([10]) لا بالمناقش فيه مناقشات واضحة جلية كالمستدل به على تعيّنه من الروايات لوضوح انها في الحكم وليست في الفتوى([11]) وعلى أي فسياتي بحث ذلك.
الإشكال بالفرق بين الاحتمال النوعي والاحتمال الكمي
وقد أشكل بعض الطلاب الأفاضل على ما ذكرناه من عدم منجزية اكثرية احتمال الخطأ في المفضول لموهوميته وانه في بدو النظر واحد بالمائة([12]) لكنه حيث تردد بين المائة ألف وحيث كانت أكثر المحتملات خارجة عن مورد الابتلاء فلا تنجيز، بالبيان السابق، بإشكال جدير بالبحث والتدبر، بقوله (ان هذا الجواب يصح فيما لو كان إحتمال الواحد بالمائة إحتمالاً كمياً لا نوعياً؛ وان دائرة الاحتمال تقل كلما توسعت دائرة الأحكام التي هي مدار التفاضل بين الاعلم وغيره – أي أن النسبة عكسية بينهما –
ولكن الظاهر ان تنجيز إحتمال الواحد بالمائة مبتنى على الواحد النوعي لا الكمي والذي تكون النسبة بينه وبين سعة دائرة الأحكام نسبة طردية أي كلما زادت الأحكام وتوسعت دائرتها وتوسعت دائرة الإحتمال.
ذلك ان السبب في تفاضل الأعلم مع غيره هو سبب سيال ينطبق على أكثر الأحكام غير الواقعية والتي هي مدار التفاضل، فمعنى كون المفضول قريباً من الواقع بنسبة 98% مثلاً ليس انه يخطأ في حكمين من كل مائة حكم؛ بل معناه أنه يقرب من الواقع بهذه النسبة في كل حكم من المائة حكم، وعليه فان احتمال التنجيز يرتفع وتزداد قيمته كلما زادت دائرة الأحكام وليس العكس.
إذ باستقراء كافة المباني في تشخيص الأعلم من غيره لم نجدها تخرج عن منشأين تقريباً يمكن ان تندرج تحتها كافة تلك المباني، وهما إما القابليات النفسية والذهنية لدى الأعلم ونقصها في المفضول أو متانة آليات الاستنباط لدى الأعلم خلافاً لغيره، وكلاهما قابل لأن يؤثر في الاقربية من الواقع في جميع الأحكام غير الواقعية مما يوسع دائرة احتمال تنجز الاحتمال كلما زادت دائرة التكاليف).
جوهر الإشكال: الاحتمال النوعي منجز
أقول: وجوهر الإشكال – مع قطع النظر عن بعض التفاصيل التي ترد عليها إشكالات أخرى لا حاجة لذكرها – هو:
بعبارة أخرى: ان احتمال الواحد بالمائة الكمي لضعفه غير منجز لكن الواحد بالمائة الكيفي أو النوعي منجز لقوته والاحتمال النوعي([13]) متحقق في كل قضية قضية وكل مورد مورد وذلك لأن الفرض أن الأعلم (أجود فهماً) أو (أكفأ آليةً) أو هما معاً وهذه الصفة تمنحه مزية كون رأيه أقرب للواقع في كل قضية قضية فيتعين تقليده في كل قضية قضية ولا يصح عزل احتمال الخطأ في الواحد بالمائة (وقد يكون الواحد الأخير) إلا لو كان الاحتمال كمياً.
الجواب:
والجواب بوجوه سابقة وأخرى جديدة:
1- مقتضى الاحتمال النوعي التفصيل
الاول: ما سبق من ان أجودية نظر الأعلم واكفأيته – على فرضها – لا تجدي نفعاً إذا طابق رأيُ المفضول رأيَ الأعلم([14]) من الأموات، اي هي معارَضة بالأقوى منها، فيلزم على هذا القول التفصيل بتعين تقليد المفضول إذا طابق رأيه رأي الأعلم من الأموات إذ نظره أجود من هذا الأعلم من الأحياء لفرض انه أعلم من الأعلم الحي، فقد تميّز رأي المفضول لمطابقته لرأي الأعلم الميت بمزية الاحتمال النوعي الأقوى.
2- المدد الخارجي المجهول مخلّ بالواحد النوعي أيضاً
الثاني: الاجودية لا موضوعية لها ولا مصلحة سلوكية فيها، بل انما يتعين إتباعها والدوران مدارها لو انتجت اقوائية إيراث الظن أو اقوائية احتمال الاصابة، ومع وجود المدد الخارجي المجهول لا يعلم ذلك، كما فصلناه فلا نعيد.
3- انحلال العلم الإجمالي مخلّ به أيضاً
الثالث: انه مع انحلال العلم الإجمالي بل عدم وجوده من رأس في الدائرة الصغرى([15]) لا يعلم تحقق ذلك في موارد الابتلاء إذ لعل الأجودية أنتجت في غير دائرة الابتلاء.
4- الكيفية طريقية ولا تجدي لو لم تنتج الكمية
الرابع: ان الكيفية (أو النوعية) لا محالة تنقلب إلى الكمية في معادلة الإصابة وعدمها ولو لم تنقلب كمية لما أفادت شيئاً أبداً وذلك لفرض ان الواقع واحد لا يتعدد ولفرض ان الرأيين متناقضان أو متضادان ولو في بعض الجهات (إذ الكلام في صورة التخالف) ولفرض ان الاكفأيّة الذهنية والنفسية واستحكام الآليات، ليست موضوعية بل هي طريقية لأكثرية الإصابة أي للإصابة فعاد المدار الواقع وكمية الإصابة فتدبر.
وبعبارة أخرى: ان الكيفية لو لم تنتج الكمية لما أفادت شيئاً، والاجودية لا تستلزم الإيصال أو غلبته في موارد الابتلاء بل هو مجرد شك بدوي فانه يحتمل كون اجودية الفهم موصلة في غير موارد الابتلاء، أكثر إلى الواقع من موارده، أي ان (الاجودية الموصلة) – وهي التي عليها المدار لا صِرف الاجودية وإن لوحظت غير موصلة – غير محرزة في الدائرة الصغرى.
بعبارة أخرى: الكيف في الطريق والحجة (وهو اجتهاد الأعلم ونظره باعتباره اجتهاداً أرقى وأفضل) لا ينفع إلا لو انتج كمّا في المودَّى بأكثرية الإصابة إذ كيفُ الاجتهاد([16]) ونوعيته لا يُقصد ولا يطلب إلا لما له من المدخلية في الايصال إلى ذي الطريق فلو فرض مساواته مع فاقد الكيف في الإيصال للمؤدّى أو كونه أقل إيصالاً، لما صح القول بتعيّنه إلا على المصلحة السلوكية والموضوعية، هذا خلف. وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) وقد كان كثير من الأصول موجوداً حتى عام 448 فاحرقت عند ورود طغرل بك إلى بغداد مما كانت في مكتبة سابور بالكرخ وكان قسم من الأصول موجوداً حتى زمن ابن ادريس الحلي المتوفى 598 والذي استخرج جملة منها وأودعه في مستطرفات السرائر بل كان جملة منها عند السيد بن طاووس وقد ذكرها في (كشف المحجة).
([2]) وقد رواه الصدوق في الخصال بسند صحيح / باب التسعة ج2 ص417 ح9((رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةٌ الْخَطَأُ وَ النِّسْيَانُ وَ مَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَ مَا لَا يُطِيقُونَ وَ مَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَ الْحَسَدُ وَ الطِّيَرَةُ وَ التَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِشَفَة))
([3]) تحف العقول ص50.
([4]) الكافي (ط – الإسلامية) ج1 ص164.
([5]) من لا يحضره الفقيه ج1 ص317.
([6]) الكافي (ط – الإسلامية) ج5 ص313.
([7]) الإسراء: 15.
([8]) كحجية الظواهر وخبر الثقة والفتوى، وعدم حجية القياس وقول اللغوي والشهرة – على فرضها – وما أشبه وواضح ان الحجج على الأحكام ليست إلا معدودة محدودة جداً وكذا الامارات والحجج على الموضوعات كاليد والبينة والإقرار.
([9]) أي عدم احتياط الشارع بإيصالها إلينا بمختلف الطرق.
([10]) لفرض ان الخطاب هو للجاهل بتعين تقليد الأعلم عليه. فتأمل
([11]) مثل ((الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا... )) الكافي (ط – الإسلامية) ج1 ص68.
([12]) أي واحد بالمائة زائداً على احتمال خطأ الأعلم.
([13]) أو الواحد بالمائة النوعي.
([14]) اي الأعلم من هذا الحي.
([15]) وهي دائرة موارد الابتلاء.
([16]) وهو طريق للوصول إلى الواقع.
|