• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دراسات وقراءات .
              • الموضوع : قراءة في كتاب (نسبية النصوص والمعرفة .. الممكن والممتنع) .

قراءة في كتاب (نسبية النصوص والمعرفة .. الممكن والممتنع)

 

 موقع الامام الشيرازي

هذا الكتاب حلقة من سلسلة واعدة في سياق الحراك العلمي والبحثي لسماحة السيد المؤلف, كما أنه يعد من النتاجات الفكرية المتفردة في الساحة العلمية والثقافية لجملة من العوامل, الذاتية والموضوعية, مما يستدعي الحاجة لعرضه وتقديمه مفصلاً للقارئ الكريم.

 (1)

تأثيرات معاصرة

استجابت الساحة الفكرية المعاصرة من خلال الدعوة الى التجديد والتغيير للكثير من أدوات المناهج البحثية المستحدثة, والنظريات الفلسفية التغريبية, التي من شأنها الدعوة الى قراءات تأويلية, للنصوص النقلية الدينية, موغلة في المعاصرة والحداثة, تستلهم في ذلك, مقتبسات الفكر والفلسفة النسبية, التي ترفض الثوابت المطلقة في المعتقدات والسلوك الفردي والجمعي, وسائر متبنيات الإنسانية. وقد استجابت فكراً وتأصيلاً, الى أدوات البحث والمناهج الهيرمينوطيقية, التي تعتمد مذاهب التأويل التفسيري, للنصوص الدينية, مبنية أحياناً على استدلالات القياس المفرط, ويعتقد المشتغلون على الأدوات "الهيرمينوطيقية", أنها تشكّل تأويلات نمطية, في تفسيرات النصوص الدينية, وأحيانا تستند الى إيحاءات شخصية ورؤى مزاجية, وهذه التداعيات الفكرية - القديمة منها ثم المعاصرة - هي بمجملها ابتداعات فكرية غريبة عن روح الإسلام, خاصة ما يتعلق في الممتنع فيها, لا سيما وإن في كل عنوان فكري مساحة من الممكن, لا غضاضة في قبوله. وإن مخرجات هذه النظريات وإسقاطاتها في العقل العربي والإسلامي, وفي امتدادات فكرية واسعة, أصبحت تتناولها منهجاً وتأسيساً عقدياً, حتى باتت تتجاوز الخيط الفاصل, بين الحقيقة والزيف في الفهم الإسلامي, مما دعى نخبة من أعلام الفكر الإسلامي, الى مواجهتها, وفق منهجية, تمسك بزمام السجال الفكري في استخدام أدوات علمية لدحض متبنيات الآخر, وفق قواعد المعاصرة, وبما يستجيب لفضاءات التحضر الفكري.

حراك فكري

يعدّ المفكر الإسلامي سماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في مقدمة الأصوات والأقلام التي تقدّمت الى واجهة هذا السجال الفكري وفق خصوصية منهجية, عبّر عنها في محاضراته وكتاباته, التي أثرت الفكر الإسلامي بما تميّز فيه من شجاعة فكرية في رفض العقائد الدينية المتطرفة, التي تتعارض وروح الإسلام ومنهج مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) الفكرية والسلوكية في السماحة واليسر وقبول الآخر, ومحاورته بالتي هي أحسن, وبما يضمن حقوقه, مختلفاً كان في الدين أو المذهب دون سلب لإنسانيته, وحقه في الحياة والمواطنة, في دولة الأكثرية المسلمة. فكانت كتابات سماحته في العدل والحكم الرشيد المبتني على الأمانة, والوكالة الشعبية للحاكم, بما يحدد سلطته وصلاحياته في الحكم, ونطاق فعاليات السلطات المتعددة في الدولة, فضلاً عن كتابات سماحته, في الدعوات الفاضلة, الى تفعيل قاعدتي "الإلزام والإمضاء", وفق اشتراطات الفقه الإسلامي بما يضمن حقوق الجميع, مسلمين وغير مسلمين, وعلى اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم, في معاملالتهم وعباداتهم, وفق التزاماتهم وإمضاءاتهم, العقدية والفقهية، كما قدم سماحته في هذا الحراك الفقهي والعلمي والفكري القراءات الإسلامية الموثقة, في النصوص المقدسة, وفق منهج نقلي وعقلي منفتح, مستعرضاً الآيات القرآنية المعبرة عن التسامح الديني, والحرية الفكرية, واحترام حقوق الآخر وعقله ومعتقداته من خلال مجموعة من النتاجات العلمية والفكرية والفقهية والثقافية.

منهجية علمية

اعتمد سماحة السيد المؤلف رؤية علمية في مخاطبة المسلم المتدين وغير المتدين, وكذا غير المسلم، لذا فهو ينتهج المنهج الاستدلالي النقلي الشرعي في مخاطبة المتدين, الذي سيقبله حجّة في الإقناع, لزعمه التدين, وقبوله النص المقدس في الكتاب الكريم والسنة الشريفة, وقد يكون المسلم غير المتدين, مستجيباً لهذا المنهج في الاستدلال كذلك, لكونه في النهاية مسلماً, يقبل النصوص المقدسة, وإن لم يلتزم بها سلوكاً أو في العبادات أو في المعاملات. أما غير المتدين الرافض للنص المقدس, وكذا الآخر غير المسلم, فهو يقدم له خطاباً آخر, مستنداً الى المنهج العقلي, لكونه منهجاً يخاطب العقل الإنساني عامة, وحجته مستندة الى أدوات الذهن والإقناع المنطقي, والتي لا يختلف فيها الإنسان مع الإنسان, مهما كانت مدركاته, باستثناء المنغلق والمتزمت.

 (2)

إشكالية منهجية

تحقيق الفهم الإسلامي بأشكال تغريبية معاصرة تتعكز على أدوات بحثية غريبة عن المنهج الإسلامي يرفضه مؤلف الكتاب شكلاً وتفصيلاً لجهة كونه مناقض لكل من المنهجين النقلي أو الشرعي كما يصفه سماحته, فهو يقاطع الأحكام المستنبطة من النص المقدس في الكتاب والسنة, كما هو يناقض المنهج العقلي الذي لا يختص بالبحث الإسلامي, وإنما هو متحرك في مساحات واسعة من الفكر الإنساني عموماً, عليه فإن المؤلف في احتجاجاته على هذا الشكل من الفهم الإسلامي من خلال مخاطبته للرؤى الفلسفية فيه, يمسك بأدوات منهجية بحثية هي غير مختصة بالفكر الإسلامي ومنهجياته حصراً, كونها امتداداً للنتاج التاريخي في الفكر والتراث الإنساني, ونعني بها المنهج العقلي المنطقي والتحليلي.

مخاطبة الآخر

المنهج العقلي المنطقي في رؤية المؤلف البحثية يستدعى لمخاطبة الآخر غير المسلم, أو لمحاججته, فضلاً عن صلاحية هذا المنهج لمخاطبة المسلم غير المتدين, أو الذي لا يتخذ الرأي الشرعي إلزاماً في الجوانب الفكرية الثقافية أو السياسية, والتقنين العلمي "الإبستيمولوجي", فيمكن مخاطبته وفق المنهج العقلي, فضلاً عن النقلي لجهة كونه مسلماً, على زعمه وإلزامه. وقد وصفهم المؤلف بأنهم "مسلمون من أصحاب التوجه الغربي", حيث يحتج عليهم بما هو ضروري من العقل. وبذلك يكون المؤلف قد جمع كلا النمطين من الاستدلال النقلي والعقلي, وأضاف لهما في مباحثه, احتجاجاً ثالثاً, وهو منهج الوجدان والفطرة, وهو مذهب قديم, قد استخدمه أوائل العلماء الفقهاء لمخاطبة النفس والوجدان في الإنسان, وبالتأكيد فإن الفطرة, كانت إحدى الاستدلالات المهمة في إثبات الإيمان والدعوة للإسلام, وقد تعامل المؤلف مع هذا المنهج, وفق ما جرت عليه مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم), إذ اعتمدوه منهجاً تكميلياً، وليس أساساً في الحجة والاستدلال, كونهم قد خاطبوا الآخر وفق الأدلة العقلية أصلاً ثم أكملوه بدليل الفطرة. وهكذا قد سلك المؤلف في مباحثه, فهو لم يترك منهج الوجدان والفطرة, لكنه لم يعتمد عليه, أو يستند إليه حصراً, كحجة في دعم رؤيته الفكرية, خاصة لجهة نقد "النسبية", من خلال دعوته الى "ضرورة الإيمان بالحق والحقيقة الواحدة المطلقة, الذي يعتبر الخطوة الأولى لتأسيس أي بناء معرفي, لبداهة القول.

تجاوز العنوان

يبين الباحث في مقدماته, أن النسبية عموماً, متحركة في ثلاث مناطق فكرية, تتعلق أولاً بعالم العين, أو ما يعرف بالكون المادي, وهي النسبية في عالم الحقائق, ثم النسبية المتعلقة بعالم الذهن أو الكون الحسّي, وهي النسبية في منطقة العلم والمعرفة, ثم النسبية في العالم الرابط بين العالمين العيني والذهني, وهي التي أطلق عليها المؤلف بالجسور والكواشف والدالّات والمفاهيم الذهنية واللغة المعبرة عنها, ثم هنالك منطقة رابعة, وهي التي تجمع بين المفاهيم في أركانها المختلفة, والتي يطلق عليها بالنسبية المطلقة. وقد أفصح المبحث الافتتاحي في الكتاب عن هذه المفاهيم في "النسبية" ومدلولاتها, وقد أجرى تصنيفاً لهذه المفاهيم التي تشكّل الرؤى المختلفة للنسبية, والتي يمكن أن تعبّر عن هذه المقولة فرداً أو جمعاً, بمعنى أن المفهوم الفرد منها, يمكن أن يعبّر عن مقولة ومفردة "النسبية", كما أن المفاهيم المذكورة جميعها, يمكن أن تعبّر عنها أيضاً. وعليه فإن نطاق الكتاب, متحرك في سائر مفاهيم النسبية ومدلولاتها, بما يتجاوز عنوانه. فيما بينت المقدمة في متنها كيفية ولادة الكتاب ومرجعيته, والبنية التي تأسّس عليها, حيث إن سماحة المؤلف قدم مادته بشكل محاضرات بحثية خاطبت النخبة العلمية، ويتبين ذلك من خلال نصوصه ومبانيه والأدوات العلمية التي يسلكها المؤلف في عرض الأفكار, ثم المنهجية التحليلية في استنباط النتائج. على أن الكتاب – أيضاً – يتضمن خطاباً ميسراً لغير المختص, أو غير المهتم وغير المطلّع على الحقول العلمية التي اعتمدها المؤلف في الكتاب.

(3)

أثبت مؤلف الكتاب في فصول كتابه مجموعة من التداعيات الخطيرة التي أفرزتها وتفرزها النظريات النسبية, وآثارها في الواقع المجتمعي والإنساني, فضلاً عن تأثيرها في اتجاهات أنسنة العلم والمعرفة, والأخلاقيات المهنية في البحث العلمي, وأيضاً في السياسة والاقتصاد, وهي بمجموعها تشكل (العامل الأول), لضرورات الجهد العلمي والبحثي الذي يضطلع به المؤلف لنقد النسبية وتبيان تداعياتها وانعكاساتها الخطيرة بصفته مفكراً عقلانياً, وداعية للقيم المجتمعية الفاضلة. أما (العامل الثاني), فهو في تحول نمط النسبية في التفكير إلى قلق حقيقي عندما أصبح له امتدادات فكرية في الوسط الإسلامي، العلمي والمعرفي, من النخبة المثقفة التي تأثرت بهذا الفكر ومتبنياته ومدركاته من كتاب وأدباء ومفكرين, وهم يحاولون تسويقه بوسائل عديدة الى الوسط المجتمعي الإسلامي من خلال مزج الممكن فيها مع الممتنع, وهو ما يشكل تهديداً معرفياً للعقل العربي الإسلامي ومتبنياته العقدية وثوابته الإيمانية, ما ينذر بأزمة في الفكر الإسلامي. ولقد تنبّه السيد المؤلف لهذا الاختراق الفكري، في الوقت الذي يغفل أو يتغافل عنه غيره, لاعتقاده بضرورة المواجهة الفكرية والعقلية في محاكاة الفلسفة النسبية بأدوات علمية ومنهجية, وعبر الاستدلال بالحجج لنقضها وتكذيبها لجهة الجوانب "الممتنعة" فيها من خلال الأدلة النقلية الشرعية والعقلية.

تسريب التشكيك

في مقدمة الكتاب تم وضع اليد على النشاط اللين الذي يضطلع به دعاة التجدد والتغريب الفكري من خلال تسويق الاتجاهات الفكرية التي تلقى قبولاً واسعاً في أوساط المثقفين المعاصرين، والداعين الى الحداثة في قراءاتهم الحفرية "الإركيولوجية" للنص النقلي الديني بما يتلاءم وتطلعاتهم ونزوعهم الى التفسير والتأويل, وفق هيرومينيطيقا انتقائية تبدو على انسجام مع الحاجات المجتمعية المشروعة في مجالات رفض التعصب, وإحياء نهج التسامح, وثقافة اللاعنف. غير أن مباحث الكتاب في مبانيها واستنتاجاتها ترى أن هذه الدعوات وفق المسميات المذكورة والعناوين اللينة فيها "تمر تحتها النزعة التشكيكية التي لا تبقي للدين معنى ولا رسماً مما خلق نوعاً من الاستفزاز للمؤسسة الدينية, وبخاصة الحوزة العلمية، ما جعلها ملزمة بالوقوف أمام هذا الطرح بوصفها المؤسسة المسؤولة والجهة المقصودة لرفع ما التبس, وتوضيح ما أشكل". وقد بينت المقدمة في مبانيها أن القليل قد انتبه إلى هذا الخطر, وتعرض له بالنقد والتوضيح. وقد تمكن سماحته, من إيصال الحقائق بأسلوب سهل لا يفتقد الدقة والعمق، وقد حاصر فكرة النسبية بكل دلالاتها ومعانيها المفترضة, ولم يمنعه نقده الشديد لفكرة النسبية من أن يكون منصفاً في تبيين المعاني والمباني المعقولة والمقبولة فيها التي صنّفها الكتاب بين الممكن من متبنيات النسبية أو المساحات الإيجابية فيها.

تأسيس موسوعي

بالرغم من أن عنوان الكتاب يدل على البحث في موضوع فكري وفلسفي ومنهجي أكاديمي بامتياز, لكن المؤلف قد سلك فيه أيضاً, مسلكاً ينسجم مع قواعد البحث والتأليف الفقهي في شكله وموضوعاته, كونه يقارب في الكثير من مبانيه لقواعد التحقيق الفقهي الاستدلالي, والتحقيق الفقهي الأصولي, وعليه فهو يعد امتداد لموسوعة المؤلف التي تتشكل بهدوء في نطاق البحث الفقهي, وفي الجوانب غير التقليدية، لجهة أنها تتعدى أبواب فقه العبادات وفقه المعاملات التي تتحدد بها الرسائل العلمية، الى ما يمكن تصنيفه في فقه الجوانب الفكرية والعقدية, وما يتشكل منها في السلوك الإنساني الفردي والجمعي ومتبنياتهما ومدركاتهما الإسلامية. وقد كانت كتابات الفقيه المؤلف في موضوعات فقه التعاون في جوانبه العقدية والشرعية والسلوكية وفق آية "البر والتقوى", ومن ثم موضوعة الحكمة وعلاقتها بالسلوك الإنساني في جوانبها الإيمانية والعقدية وفق آية "يؤتي الحكمة", وكذلك البحث في فقه الإلزام والإمضاء, وفي آية "لكم دينكم" في نشر ثقافة التسامح, وقبول الآخر واحترام الاختلاف, وقبلها كان قد أسس للجوانب القانونية والتأصيلية لمبادئ "شورى الفقهاء", تأسيساً على التراث الفكري للمجدد الثاني الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره الشريف). وشرعت كتابات السيد المؤلف الفكرية والفقهية في جوانب العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وبين الدولة والشعب وفق آية "الأمانة", وبعد ذلك فهو يناقش في هذا الجزء من سلسلة الموسوعة الفكر النسبي في كونياته وعوالمه العينية والذهنية والتعبيرية وفق آية "الصراط المستقيم" الى جانب بحوث ودراسات فكرية وفقهية أخرى, وفي جميعها وحدة المنهج بحيث تتأسس مبانيها على البصائر المعتمدة على النص القرآني الشريف.

(4)

تمتد جذور الفكر النسبي الى الفلسفة اليونانية القديمة, عندما عبر عنها أفلاطون بأن "الأشياء تظهر لي، كما توجد بالنسبة لي، وتظهر الأشياء للآخرين، كما توجد بالنسبة لهم", فالنسبية تقرر أنه لا يوجد هناك حقيقة موضوعية، فما أراه هو الحقيقة بالنسبة لي، وما تراه أنت هو الحقيقة بالنسبة لك، فلا يوجد خطأ, ففي النسبية ليس هناك منهج هو المنهج الصحيح الوحيد, لذا لا يتوجب أن يتفوق منهج ما أو طريقة معينة. ويتمخض عن مدركات النسبية رفض الإدراك المطلق, لأن مقياس السلوك هو الذات البشرية، فما هو الحق والعدل في عين شخص, ربما لا يكون حقاً وعدلاً في عين شخص آخر, ولا أحد يستطيع أن يزعم أنه هو على الحق والصواب أو الحقيقة المطلقة, وإن الاختلاف في الحقائق يعود إلى اختلاف الرؤية والوضع الملائم للشخص.

جذور النسبية

فتح كتاب (أبحاث منطقية) للألماني إدموند هوسرل (1859- 1938) اتجاهاً جديداً في الفلسفة, أطلق عليه اسم (الفينومينولوجيا), وقد مارس هذا الاتجاه الجديد تأثيراً على الساحة الفلسفية من خلال العديد من الفلاسفة الذين يعتبرون أنفسهم منتمين إلى هذا الاتجاه، فإن كثيراً من القضايا والاتجاهات الفلسفية هي نتاج لـ(الفينومينولوجيا) بشكل مباشر أو غير مباشر، وإن تأثير (الفينومينولوجيا) لم يبق منحصراً في مجال الفلسفة، بل امتد إلى حقول معرفية عديدة. وتعني (الفينومينولوجيا) في أصلها اللغوي "علم الظواهر", وتترجم الى العربية بـ(الظاهراتية) أو (الظواهرية), ويقصد بها العلم الذي يكتفي بدراسة الظواهر المتبدية في الشعور دراسة وصفية مع تحليل الشعور, وكشف حقيقة الأفعال والإدراك ومكوناته. وهذا المصطلح الفلسفي حديث نسبياً, فقد استخدمه الفيلسوف (كانت) من قبل, حين فرّق بين ظاهر الشيء وباطنه، ثم استخدمه بعد ذلك (هيجل), وأطلقه على علم فلسفي خاص به, هو "علم ظواهر الروح".

تأويل النص

تشير الهرمينوطيقا Hermeneutics الى فرع من علم الفلسفة يدرس مبادئ التأويل والإدراك, والمفردة ذاتها تحمل اسم نظرية معروفة في علم المنهجيات "الميثودولوجيا" تنصرف الى "تأويل" النصوص المقدسة وتفسيرها, وخاصة في نصوص ما يعرف بـ(الكتاب المقدس) بعهديه القديم والجديد، بما يتصل بالتأويلات اليهودية للتوراة, والتفسيرات المسيحية للغوامض من الإنجيل والأسفار المعاصرة له. وتقوم الهرمينوطيقا بتأويل الخطاب عبر تحليل قواعد الصيغ اللغوية المولدة لمعاني النصوص, وهو علم معني بتحليل أشكال الكتابة في الآداب وتأويلها، وأيضاً في العلوم التطبيقية أو الإنسانية. وتعني (التعبير) باليونانية القديمة, وتكتب في أبجديتها ερμηνεια  ermeniea))، ويعبر عنها في الإنجليزية Interpretation) Explanation), وهي النطق والكلام والترجمة, أو التأويل بمعنى التفسير أو الإيضاح، أو الترجمة بمعنى النقل والتعويض والألفاظ, وقد تحمل المفردة في التداول المعاصر معنى التفسير المنسجم مع ميول القائم به. وتهتم الهرمينوطيقا بفهم ما يقوله البشر وما يفكرون به، وعلاقة ذلك بأفعالهم, وهي عبارة عن نظرية في التأويل، بمعنى أنها تأمّل فلسفي وتفكير فينومينولوجي حول نشاط عملي يتخذ طابع التفسير أو التأويل.

نهايات الى النسبية

مع التوجه الأوروبي العلماني في العصر الحديث تنوعت المدارس الهرمينوطيقية فطرحت فكرة العقل الإبداعي, مدعومة بالنسبية الإدراكية التي يدعمها الطب الحديث, ثم احتدّت نبرة المدرسة النقدية, فدعت إلى الطرح الفلسفي المتسم بالشك المطلق في تأويل أي نص ديني, وبهذا اتخذت نظرية التأويل منحى آخر لا يشترك مع أصل الفهم اللغوي للمفردة, فأصبحت ذراعاً للفلسفة الهرمينوطيقية التأويلية, ثم كان الحديث عن توجيه الهرمينوطيقيا توجيهاً اجتماعياً, بحيث يتم دراسة النصوص الدينية في سياقها الاجتماعي بأدوات ممنهجة, وبأصول البحث الاجتماعي والإنساني وآلياتهما. أما الفينومينولوجيا في إطارها الفلسفي والأنطولوجي (الكينوني الوجودي) فتعني تحديد بنية الظواهر وشروطها انبثاقها بما يتصل بوعي الإنسان, ويمكن تشبيه هذه المسألة بأول وميض يثير انتباه البصر إليه, وبذلك جرى ربط البحث الهرمينوطيقي بعلم الفينومينولوجيا, حيث تعد النظريات الفلسفية في "النسبية" من نتاجاته المعرفية, وقد تناول كل ذلك كتاب (نسبية المعرفة والنصوص .. الممكن والممتنع) لسماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي, إذ بين في مضامينه أن الهرمينوطيقا تعد من الأدوات المنهجية التي تشكّل نهايات بحثية الى "النسبية" كون أن "فلسفتها تؤدي الى النسبية بشكل خاص".  

(5)

النسبية وانتشارها     

أصبحت الفلسفة النسبية منتشرة في ثقافة الفكر الغربي المعاصر حتى اكتسبت لها مكانة رفيعة في المجتمع الغربي الحديث. ولتفكيك العوامل التي ساهمت في قبول النسبية وانتشارها في المجتمع الغربي لابد من الإشارة الى: أولاً. النجاح العلمي (التكنولوجي) الذي زاد في الاعتقاد بفكرة الإجابات الحقيقية في العلم, أدى الى أن يسود الاعتقاد بأن كلّ ما يقولونه العلماء هو صحيح, وإذا لم يستطع العلم أن يجد جواباً لشيء ما, فإن الحقيقة ستكتشفه لاحقاً, وأصبح الإيمان بالعلم المطلق فقط فيما هو المعروف المعاصر والذي ربما يكون غير حقيقي لاحقاً, وهذا يقوض الحقيقة المطلقة التي ترفضها مدركات النسبية. ثانياً: مع انتشار القبول لنظرية التطور، أصبحت المتبنيات العقدية خارج المنظومة الفكرية، وبدون اعتقاد وجود المنظومة الإيمانية بات الإنسان يقرر بنفسه ما يعتقده، وما هو الحق وما هو الباطل, وكذلك النظرة الى الأخلاقيات التي باتت تنسب الى المكان والزمان, والمدرك الاعتقادي والفكري, والتفسير والذائقة الفردية, والمتبنيات الشخصية والمجتمعية للأشياء, والرؤى التاريخية الإبستيمولوجية. ثالثاً. أصبح المجتمع الغربي في مواجهة ثقافات متنوعة ومتفاوتة، وهذا الاتجاه يجعله أكثر انسجاماً وقبولاً لفكرة وجود أكثر من طريق لعمل شيء ما, والإيمان بتعدد الثقافات لا يشترط ببطلان هذه الفكرة, لكنه يعمل على تقويض أو إنكار الحقيقة المطلقة, وهو ما تشتغل عليه الفلسفة النسبية. رابعاً. انتشار الفلاسفة النسبيين, وخصوصاً المنتمين إلى حركة العصر الجديد, الذين لا يقولون بوجود الحقيقة المطلقة، ويقرون أن كل شيء, بإمكانه أن يخلق واقعه, وأن ينتج إدراكاً لذاته, فيما لا يكون لغيره, ولا إطلاق في تقييم مخرجاته, ولا مرجعية منهجية ثابتة للتحليل والتقييم, فيما هو واقع مقبول أو لا قبول فيه. خامساً. نزعة المجتمع الغربي المعاصر الى التحرر من القيم الأخلاقية، وأثقال القيود الاجتماعية, وأعباء المنظومة القيمية والسلوكية, قد استجابت لمدركات النسبية, و"تسهيلاتها" الفكرية, لتيسّر للمجتمع نزوعه, الى مذهب "دعه يعمل ما يشاء".

قراءة تمهيدية

يبين الكتاب في صدر مباحثه الافتتاحية في إطار التعرف على النسبية, واستظهار مكنوناتها ودواعيها, وأسباب الفشل في طروحاتها, أن التميّز الذي يحققه الإنسان ويجعله كائناً متفرداً إنما لكونه صاحب علقة معرفية تؤسس لعملية الفهم التي تربطه بالآخر، فالمعرفة والإدراك والفهم, هي من لوازم الإنسان العاقل، وإن التخلي أو التشكيك في القدرة المعرفية لدى الإنسان هو تخلّ أو تشكيك في حقيقة الإنسان العاقل، وهي النقطة التي تنعدم فيها المسافة الفاصلة بين الإنسان وبقية الكائنات. ويخلص المبحث الى أنه برغم الوضوح الذي تتمتع به هذه الحقيقة, إلا أن الفكر البشري اصطدم بموجات تشكيكية, زعزعت الثقة فيما ينتجه العقل من معرفة، فقد ابتلي الفكر بنزعات مثالية, حاولت إما التشكّيك في الوجود الخارجي, وإما في إمكانية الوصول إليه وإدراكه وفهمه. إذ يحتمل أن يكون القصد من النسبية, هو كون المعرفة الإنسانية ناقصة, ولا يمكن أن تحيط بكل الحقائق بما فيها حقائق عالم الطبيعة أو حقائق عالم الغيب أو حقائق النفس الإنسانية أو حقائق عالم التشريع, وحِكَم وملاكات الأحكام، ففي كل هذه الحقول, لا ترتقي معرفة الإنسان إلى حد الكمال، وبالتالي فإن المعرفة ليست مطلقة, ولا يمكن أن تصل إلى حد الكمال والشمول والإطلاق. ويستنتج المبحث أنه لابد من  تفكيك المعاني, وتحديد المطالب, بهدف التمييز بين المدّعى الصحيح والخطأ، وأصل هذا المعنى يرجع إلى أن المعرفة, قد تكون متعلقة بالطبيعة, من إنسان وحيوان وجماد وما أشبه، وقد تكون متعلقة بعالم الغيب أو بأغوار النفس الإنسانية.

في عوالم النسبية

يستكمل المبحث في دحضه للحقول الكونية الثلاثة للنسبية في ثلاثة عناوين فرعية, وهي "الصراط المستقيم في عالم الحقيقة" و"الصراط المستقيم في عالم المعرفة" و"الصراط المستقيم في عالم اللغة والكواشف", وهي الثلاثة التي تخص كلاً من عالم الوجود العيني المادي, وعالم الذهن, وثم عالم التواصل والنواقل اللغوية والتعبيرية, في الصياغات والمفاهيم الدالة على العوالم الأخرى أو هما عالما الوجود اللفظي والكتبي رغم محدودية العنوان الرئيس الجامع لها من خلال تحدد نطاقه في مبحث "المعرفة" في نصّه "الصراط المستقيم ونسبية المعرفة". ويخلص البحث بحكمة ومنهجية سليمة الى أن عكس هذه القناعة, من شأنه أن "ينسف كل جسور التواصل المعرفي الذي يتحقق عبر النصوص, مما يعد نسفاً لأصل المعرفة, وليس إثباتاً لنسبيتها". كما أن هذه الآية الشريفة (الصراط المستقيم). تنسف أيضاً مقولة نسبية الحقيقة في عالمي الوجود اللفظي والكتبي, وهما العالمان اللذان أدرجهما السيد المؤلف في سياق واحد ومساق واحد باسم الجسور أو الدوال أو الكواشف أو التواصل اللغوي كون العالمين فيهما يعبران عن الدالة ذاتها.   

عناوين فصول الكتاب السبعة

الفصل الأول:  المعرفة بين إدراك الواقع والنسبية المطلقة – اهدنا الصراط المستقيم.

الفصل الثاني:  معاني النسبية وإجابات عامة.

الفصل الثالث:  النصوص والمناهج والأديان.

الفصل الرابع:  المعرفة بين اليقين والظن.

الفصل الخامس:  حجية الظنون النوعية ونسبية الأديان.

الفصل السادس:  تقييم نظرية (كانط) في النسبية المعرفية.

الفصل السابع:  (الشيء في ذاته) و(الشيء كما يبدو لي).


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=1509
  • تاريخ إضافة الموضوع : 1433 هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28