بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(39)
الجواب السادس: اقوائية الظن ليست ملاكا أبداً
ويمكن الجواب عن الدليل الثالث ([1])بان قوة الظن ليست ملاكاً للترجيح بالمرّة بل هي كالحجر في جنب الإنسان حتى لو لازمت الملاك الواقعي.
توضيحه: ان ما يمكن ان يعد ملاكا لوجوب الإتباع أو رجحانه هو (الاقربية للإصابة) وهو الدليل الثاني، دون (اقوائية الظن) وهو الدليل الثالث؛ فانه حيث كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات فتكون أقربية الإصابة والوصول لها مرجحة أو معيّنة، اما الظن – وهو صفة نفسية ([2]) – فأجنبي عن ان يكون ملاكاً وإن فرض – تنزلاً – ملازمته له، فان ملازمة الشيء للملاك لا تجعله ملاكاً أو جزءاً.
ويتضح ذلك أكثر بفرض الانفكاك – فكيف بوقوعه – فلو فرض انفكاك أقوائية الظن عن الاقربية للواقع فانه لا شك بانه لو كان المدار في الحجية ولزوم الاتباع عقلاً أحدهما فانه الاقربية للواقع لا اقوائية الظن، ويكفي (فرض الانفكاك) لاكتشاف ما هو المدار، على انه فرض له واقع إذ ما أكثر الانفكاك بينهما؛ ألا ترى كثيراً من الناس يحصل له الظن بالواقع من القياس أومن الأحلام مع انها ليست أقرب للإصابة بشهادة الشارع المحيط بالجهات فقد انفكت الاقربيةللواقع عن اقوائية الظن، بل ان كثيراً من الناس رغم علمهم بان الشارع لم يجعل الأحلام حجة ومع ذلك يحصل له الظن بالواقع منها! ([3])
ولكن قد يقال:ان القياس والأحلام لا تورث الظن النوعي الأقوى بل غاية الأمر إفادتها الظن الشخصي؟
وقد يجاب بان القياس يورث الظن النوعي إن أريد به ما يورث الظن لنوع الناس وعامتهم بحسب طبعه، نعم لو أريد بالنوعي الممضى شرعاً ([4]) فلا، أو أريد به المطابق للواقع ([5]) فلا. فتأمل
والحاصل: ان الاقربية للواقع صفة ثبوتية للحجج، والظن الأقوى صفة ثبوتية للمكلف نفسه ولا تلازم بينهما على انه ان فرض التلازم فان العقل يستقل – لو استقل ([6]) – بمدارية الأول دون الثاني.
الجواب السابع: كفاية احتمال مساواتهما في الإصابة
كما قد يجاب عنه بكفاية احتمال مساواة رأي الأعلم والمفضول من حيث احتمال الإصابة فلا يورث قول الأعلم الظنَّ الأقوى لدى الالتفات لهذا الاحتمال.
بيانه: ان العقلاء حين يلاحظون مجهولية ملاكات أحكام الشارع لنا – كما فصلناه مراراً، كما انه أوضح من ان يخفى – وحين يلاحظون ان الحجج على هذه الأحكام، قد تكون من نمط أخر إذ لاحظوا كون الأحكام – وهي المحتج عليها بها – من نمط آخر من حيث ملاكاتها، بل حيث ثبت لهم ان حجج الشارع عليها من نمط آخر في حدودها لما أسلفناه من كثرة تصرفات الشارع في حدود الحجج وقيودها (كاشتراط الذكورة والحرية وغيرها في صحة تقليد المجتهد وحجية رأيه على العوام وغير ذلك مما سبق) بل في أصلها (كما أسلفناه من أسقاطه حجية الشهادة الثالثة فالرابعة وحجية كتابة قاض إلى قاض.. الخ) أقول حيث ثبت لهم ذلك كله فانه لا يعقل ان يحصل لهم الظن الأقوى من قول الأعلم لمجرد انه أعلم ما لم يرد من الشارع دليل ([7]) على ان قوله أقرب للإصابة. فتدبر
وبذلك اتضح انه لا وجه – بعد اتضاح ذلك – لتوهم ان أذهان العقلاء مرآة للشارع وحججه إذ اتضح انه لا مجال لذلك بعد كثرة تصرف الشارع في الحجج العقلائيةاما بنفي أصل حجيتها – كالقياس والشهادة الثالثة و...- واما بأخذ قيد أو نفيه في حدودها – كالبينة واليد والسوق وقول المقوّمالأعلم... الخ – مما يخرجها بذلك عن دائرة ما يفهم العقلاء – قبل فحصهم عن حال حجج الشارع - كونه حجة لديه أم لا وإذا كان حجة فبأي قيد، اللهم إلا ما أمضاه الشارع من الحجج العقلائية بما هي هي – كخبر الثقة على تأمل فيه أيضاً كما سبق – فتدبر
الدليل الرابع([8]) الأعلم أكثر إحاطة
وهو ما نقل عن بعض أعيان المحققين – كما نقله عنه السيد العم في بيان الفقه، قال (الرابع: ما عن بعض الاعيان المحقّقين: من أنّ الاعلم هو الاكثر احاطة بمدارك الاحكام، فيكون العالم هو الاقل احاطة، ومعنى ذلك: أنّ الاعلم يعرف من مدارك الاحكام أشياءً لا يعرفها العالم فتكون النسبة بين الاعلم والعالم، كالنسبة بين العالم والجاهل - فيما يجهله العالم ويعلمه الاعلم - وكما لا تصحّ التسوية بين العالم والجاهل في الرجوع إليهما، كذلك لا تصحّ التسوية بين الاعلم والعالم في الرجوع اليهما.
وبعبارة أُخرى: كما لا يجوز تقليد الجاهل المطلق كذلك لا يجوز تقليد الجاهل النسبي ([9])
أقول: هذا الدليل – فنياً – ليس دليلاً رابعاً بل هو وجه من وجوه الدليل الثاني أو الثالث إذ يقال مثلاً (قول الأعلم أقرب للإصابة – وهذا هو الدليل الثاني – لأنه أكثر إحاطة بالمدارك.. الخ).
وعلى أي فإفراده بالذكر تبعاً لمن أفرده لا لانفراده ولأجل طرح بعض النكات الأخرى التي لم تطرح في ضمن الدليلين الثالث والرابع.
الأجوبة:
ويمكن ان يجاب عن هذا الدليل أو الوجه بوجوه:
النسبة بين الأعلمية وأكثرية الإحاطة، من وجه
الأول: ان النسبة بين الأعلمية وأكثرية الإحاطة هي العموم والخصوص من وجه وذلك لأن الأعلم قد يكون اقل إحاطة والمفضول أكثر إحاطة، ويكفي لمادة الافتراق مورد واحد فكيف لو تعدد بل تكثر، وما أكثر ما يكون المفضول أكثر إحاطة بمدارك المسألة لشدة تتبعه واستغراقه في بحث المسألة بجوانبها، من الأعلم لقلة وقته وعدم بذله الجهد الأكبر في مرحلة الاستنباط ([10]).
وبعبارة أخرى:انه إما أن يقال: الأعلم أكثر إحاطة بالقوة، فلا يجديه ذلك نفعاً لتعيّن الأخذ بقوله مادام في مرحلة القوة، واما ان يقال انه أكثر إحاطة بالفعل ففيه انه لا إطلاق لذلك إذ كثيراً ما يكون المفضول أكثر إحاطةً.
النسبة من وجه على كل الأقوال
لا يقال: ان ذلك وإن صح بناء على كون ملاك الأعلم (الأكثر إحاطة) لكنه لا يصح بناء على كون ملاكها الأكثر دقة أو الأكثر عرفية أو الأقوى ملكة؟
إذ يقال: بل الكلام الكلام؛ إذ إن أريد ان الأعلم أكثر دقة بالقوة – وبحسب الملكة – فان ذلك لا يجدي نفعاً مادام في مرحلة القوة، وإن أريد انه أكثر دقة وأكثر عرفية في هذه المسألة بالذات فانه لا إطلاق له، نعم كونه أدق وأقرب للعرف مقتضٍ لكونه في هذه المسألة كذلك لكنه لا يستلزمه فلا عموم له إذ قد يستفرغ المفضول الوسع أكثر بكثير فيكون أعرف بذوق العرف أو أدق – بالفعل - في هذه المسألة أو هذا الباب أو الكتاب ([11]). وللكلام تتمة فانتظر وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
|