بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النميمة
(17)
أدلة تحريم الجنة على النمّام أخص من المدعى لاختصاصها بالنمّام
سبق الاستدلال على حرمة النميمة بالصحاح الدالة على تحريم الجنة على النمّام وسبق الإشكال عليها بانها اخص من المدعى إذ انها صريحة في تحريم الجنة على النمّام، والنمّام فعّال صيغةُ مبالغة فتدلّ على تحريم الجنة على من أكثر من النميمة.
الجواب باحد وجوه ستة ومناقشتها
ولكن: يمكن ان يجاب اعتماداً على أحد الوجوه الستة التي تفصينا بها عن ذات هذا الإشكال إذ أورد على الاستدلال بقوله تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)([1]) لكن قد يقال بعدم تماميتها – أو أغلبها – في المقام، فلا بد من التدبر في الوجوه واحداً واحداً:
إلغاء الخصوصية
أ- دعوى عدم الخصوصية أو إلغائها – وقد سبق الفرق بينهما - لكن هذا الوجه ان جرى هناك بما سبق بيانه ([2]) فانه غير جارٍ هنا إذ كيف يقال بانه لا خصوصية لكثرة النميمة في تحريم دخول الجنة وأن تحريمها إنما هو لأصل صدورها لا لتكررها مع ان الاعتبار ([3]) والأصل على خلاف ذلك؟
صيغة المبالغة ليست لتقييد الحكم
ب- دعوى ان صيغة المبالغة لم تذكر لتقييد الحكم بها بل لوجه آخر، وانه قد جُمع بذلك بين القضيتين الحقيقية والخارجية.
والظاهر انه إن جرى ذلك في الآية لكون موردها وهو الوليد همازاً مشاءً بنيم فأريد بيان الحكم الواقعي إضافة للإشارة إلى سوء واقعه وتعريته، فانه لا يجري في هذه الروايات إذ ظاهرها انها قضية حقيقية ولا مورد لها يقتضي الإشارة إليه بصيغة المبالغة فلاحظ مثلاً الصحيحتين السابقين ((حرمت الجنة على ثلاثة: النمّام، ومدمن الخمر، والديوث وهو الفاجر)) ([4])، و((الجنة محرّمة على القتاتين المشّائين بالنميمة))) ([5])
خصوصية الحكم تقتضي الدوران مدار المجرد
ج- ان خصوصية الحكم تقتضي دورانه مدار المجرد والأصل لا المتكرر والصيغة، ولكن هذا كسوابقه إن تم في (لا تطع...) فانه لا يتم هنا بل الأمر بالعكس إذ خصوصية تحريم الجنة – وهو الحكم بالمعنى الأعم أو بمنزلته – تقتضي اختصاصه ([6]) بالنمام لا بمن نمّ مرة واحدة، خاصة مع لحاظ سعة رحمة الله وملاحظة النظائر فان من يغتاب كثيراً قد يقال باقتضاء ذلك تحريم الجنة عليه دون من اغتاب مرة واحدة وإن كانت كل معصية وإن كانت صغيرة تقتضي ذلك لكن ذلك بلحاظ الواقع بما هو هو وملاحظة عظمة من عصاه لا بعد ملاحظة سُنّة الله مع العاصين وشمول رحمته. فتدبر وتأمل
مناسبات الحكم والموضوع
د- مناسبات الحكم والموضوع وقد مضى (وقد يستند إلى مناسبات الحكم والموضوع بدعوى انها تقتضي كون مدار (لا تطع) والحرمة هو صدور النميمة منه واما كثرة صدورها منه فهي مؤكدة للحكم بمراتبه) ([7]).
ولكن من الواضح عدم جريانه في المقام إذ الحكم هو تحريم دخول الجنة ولا مراتب لذلك إذ الأمر دائر بين الوجود والعدم، وقد سبق ان مناسبات الحكم والموضوع تقتضي هنا اختصاص تحريم دخول الجنة بالمكِثر من النميمة لا بمن اجترحها مرة واحدة.
واما التوبة فعنوان لاحق والكلام في مقتضيات العناوين بما هي هي، على ان التوبة تطهِّر حتى فاعل الكبيرة بل والمكثر منها بل حتى القاتل لو تاب وآب إلى حكم الشرع في حقه.
الصيغة لإفادة الشدة لا التكرر
هـ- إن صيغة المبالغة قد يؤتى بها لإفادة الشدة والترسخ دون الكثرة والتكرر، وقد مضت أمثلته في أبواب (فعول) كخجول و(فعيل) كسميع و(فَعِل) كحَذِر.. الخ
لكنه يفيد عكس المقصود في المقام إذ لو فسر النمّام في هذه الروايات بالكيف – أي شديد النميمة قوي التأثير فيها – لاختصت الحرمة بما كان منها شديد التأثير في الإفساد دون مطلقها كما لو أوجب الكدورة فقط.
الصيغة يراد بها المجرد
ز- إن التعبير بصيغة المبالغة وإرادة المجرد منها، عرفي، كما في (لا تصاحب السَّراق) فانه كـ(لا تصاحب السُّراق) انحلالي لا انضمامي، لكنه لا قرينة أو شاهد عليه في المقام بل القرائن على العكس أدل، ولنشر إلى بعض القرائن المعاكسة:
قرائن دالة على ان مدار الحكم كثرة النميمة لا أصلها
1- قرينية تحريم الجنة
منها: قرينية مناسبات الحكم والموضوع وتحريم الجنة على النمّام فان الظاهر هو تحريمها على من أصر على النميمة أو أكثر منها أو جاء بالشديد منها المستلزم للفساد وقتل الأنفس المحترمة وهتك الأعراض وسحق الحقوق، دون مطلق النميمة ولو ما أوجب منها الكدورة فقط وكان لمرة أو مرتين، ويؤكد ذلك إضافة للارتكاز، سعة رحمة الله وملاحظة النظائر وقد سبق نظيره فتأمل
2- قرينية سائر المتعلقات
ومنها: قرينية سائر العناوين التي وقعت متعلقاً أو موضوعاً للحكم بتحريم الجنة في هاتين الروايتين وسائر الروايات مع وضوح كون المراد هو ما هو ظاهر صيغة المبالغة أي صدور الفعل بكثرة دون المجرد وصدوره لمرة.
وبعبارة أشمل: ان الظاهر من الروايات إناطة تحريم الجنة اما بتكرر صدور الفعل كمدمن الخمر أو بالحالة والصفة اللازمة ([8]) كالنفاق أو بالحرفة كالكاهن، فلاحظ الروايات التالية:
((حَرُمَتِ الْجَنَّةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ النَّمَّامِ وَ مُدْمِنِ الْخَمْرِ وَ الدَّيُّوثِ وَ هُوَ الْفَاجِرُ)) ([9]) فان التحريم تعلق بمدمن الخمر لا بشاربها لمرة مع انه كبيرة من أكبر الكبائر كما تعلق بالديوث والظاهر إرادة الحالة أو التكرر منها لا المرة وإن احتملت لشدة قبح هذا الفعل ([10]).
ومنها: (الصدوق بإسناده إلى حديث مناهي النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّه نهى عن النميمة والإستماع إليها وقال: لا يدخل الجنة قتّات يعني نمّاماً... وقال ( صلى الله عليه وآله ): يقول الله عز وجل: (حرّمت الجنة على المنّان والبخيل والقتّات وهو النمّام، الحديث) ([11]).
والمنّان كثير المنّ، والبخيل صفة لازمة والظاهر ان المراد البخيل بالحقوق الواجبة كالزكاة والخمس، إذ لا مقتضي لدخول البخيل من غير تفريطه بالحقوق المالية الواجبة، للنار.
ومنها: (عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: أربعة لا يدخلون الجنة: الكاهن والمنافق ومدمن الخمر والقتّات وهو النمام ([12]))
والكهانة حرفة، والنفاق صفة لازمة، والإدمان إكثار
ومنها: (الصدوق، عن أبيه، عن علي، عن أبيه، عَنِ الحسن بن الْحَسَنِ الْفَارِسِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَفْصٍ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ، عن أبيه، عن جعفر بن محمد ( عليه السلام )، عن آبائه ( عليهم السلام )، عن علي ( عليه السلام ) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الْجَنَّةَ خَلَقَهَا مِنْ لَبِنَتَيْنِ: لَبِنَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ لَبِنَةٍ مِنَ فِضَّةٍ وَ جَعَلَ حِيطَانَهَا الْيَاقُوتَ وَ سَقْفَهَا الزَّبَرْجَدَ وَ حَصْبَاءَهَا اللُّؤْلُؤَ وَ تُرَابَهَا الزَّعْفَرَانَ وَ الْمِسْكَ الْأَذْفَرَ فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قَدْ سَعِدَ مَنْ يَدْخُلُنِي، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: بِعِزَّتِي وَ عَظَمَتِي وَ جَلَالِي وَ ارْتِفَاعِي لَا يَدْخُلُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَ لَا سِكِّيرٌ وَ لَا قَتَّاتٌ وَ هُوَ النَّمَّامُ وَ لَا دَيُّوثٌ وَ هُوَ الْقَلْطَبَانُ وَ لَا قَلَّاعٌ وَ هُوَ الشُّرْطِيُّ وَ لَا زَنُّوقٌ وَ هُوَ الْخُنْثَى ([13]) وَ لَا خَيُّوفٌ وَ هُوَ النَّبَّاشُ وَ لَا عَشَّارٌ وَ لَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَ لَا قَدَرِيٌّ) ([14]).
والملاحظ انها بين ما استوجبت كثرة صدوره الحرمان من الجنة وهو الغالب فيها، وبين ما كان صفة لازمة (قاطع الرحم) وبين ما كان عظيماً جداً متعلقاً بشأن الاعتقاد كالقدري ([15]). وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
===============================
|