بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(49)
ولكن قد أشكل على دعوى التباين بين الحكم والفتوى بان بعض الآيات الكريمة ظاهرة في عموم الحكم للفتوى، كقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) و (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) و (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)([1]) إذ المراد الأعم من الحكم وفصل الخصومة ومن الفتوى.
والجواب بوجوه أربعة:
المراد من الحكم في الآيات الفصل خاصة لا الفتوى
الوجه الأول: انه قد يقال بان الظاهر ان المراد بالآيات أيضاً هو الحكم بالمعنى المعهود في الأذهان وهو القضاء وفصل الخصومة أو مطلق الفصل والبتّ في الأمور مما هو من شأن القاضي أو الحاكم لا الفتوى.
أدلة ومؤيدات ومونِسات
ويرشد إلى ذلك مجموعة من القرائن التالية التي يصلح بعضها دليلاً وبعضها مؤيدا وبعضها يوجب مجرد استئناس الذهن، وان امكنت المناقشة في بعضها إلا ان بعضها تام، وفي المجموع الكفاية لإيراثه الاطمئنان حتى لو فرض عدم تمامية الآحاد، فتأمل فيها وتدبر جيداً.
1- شأن النزول بضميمة كلام الرسول ( صلى الله عليه وآله )
قال الشيخ الطوسي ( قدس سره ) (و قال أبو جعفر ( عليه السلام ) و جماعة من المفسرين ذكرنا أسماءهم: إن امرأة من خيبر- في شرف منهم- زنت و هي محصنة فكرهوا رجمها، فأرسلوا الي يهود المدينة يسألون النبي ( صلى الله عليه وآله ) طمعاً أن يکون أتي برخصة، فسألوه، فقال: هل ترضون بقضائي؟ قالوا: نعم، فأنزل اللّه عليه الرجم، فأبوه. فقال جبرائيل: سلهم عن إبن صوريا، ثم اجعله بينك و بينهم...) ([2])
وقال: (و قال عكرمة و عامر الشعبي: نزلت في رجل من اليهود قتل رجلا من أهل دينه فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين سلوا لي محمداً ( صلى الله عليه وآله ) فان بعث بالدية اختصمنا اليه و ان کان يأمرنا بالقتل لم نأته...) ([3])
ومن البيّن انهم اختصموا ([4]) فاحتكموا إليه ( صلى الله عليه وآله ) فقال تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ...)، إضافة إلى ان خصوص الرجم وشبهه هو من شؤون القضاء.
وشأن النزل وإن لم يخصص الوارد إلا انه قد يصلح مؤيداً لفهم المعنى المراد من الآية من بين المحتملات خاصة مع قوله ( صلى الله عليه وآله ): (هل ترضون بقضائي؟) ومع قول اليهودي (اختصمنا إليه)، نعم يحتمل ان السؤال كان استفتاءً توطئة للرجوع إليه في القضاء لو افتى بما كانوا يشتهون. فتأمل
2- التخيير بين الحكم والاعراض
ظهور التخيير في ( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)([5]) فانه في شأن الحكم لا الفتوى حتى مع دعوى نسخ ذلك كما قيل.
قال في التبيان (و في اختيار الحكام و الأئمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا اليهم قولان:
أحدهما- قال ابراهيم والشعبي وقتادة وعطاء و الزجاج والطبري، وهو المروي عن علي ( عليه السلام ) والظاهر في رواياتنا أنه حكم ثابت و التخيير حاصل.
و قال الحسن وعكرمة ومجاهد والسدي والحكم وجعفر بن مبشر واختاره الجبائي: أنه منسوخ بقوله: (وَ أَنِ احكُم بَينَهُم بِما أَنزَلَ اللّهُ) فنسخ الاختيار وأوجب الحكم بينهم بالقسط، و هو العدل يقال أقسط إقساطاً إذا عدل) ([6])
3- قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)
قوله تعالى (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) فانه ظاهر في القضاء دون الفتوى إذ لا يقال عادة افتى بينهم بالقسط.
4- بعض التصريفات
بعض التصريفات الوارد في مطاوي الآيات كـ(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ ...) فان ظاهر التحكيم وباب التفعيل هو الرجوع في الحكم إلى المحتكم إليه بالمعنى المعهود لا الفتوى خاصة مع قرينية (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ...) فانه أقرب للقضاء من الفتوى إن لم يكن ظاهراً فيه.
5- صراحة بعض الأحكام فلا مجال لإطلاق الفتوى عليها
ظهور قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)([7]) فان (النفس بالنفس...) حكم إلهي صريح لا مجال فيه لإطلاق الفتوى عليه إلا تسامحاً، فليس المراد بـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) إلا العمل على طبقه وتنفيذه وفصل الخصومة على ضوئه لا الفتوى به.
ويؤكد ما سبق وما يأتي: ان الخبر المحض ([8]) ليس حكماً قطعاً إذ لا يقال لمن اخبر عن أمر انه حكم به مع انه قد يقال بصدق الآيات عليه استناداً إلى نفس ما استند إليه في دعوى شمول الآيات للفتوى. فتدبر
ويؤيده قول الطوسي (و قوله (وَ مَن لَم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) قد بينا أن في النّاس من قال ذلک يختص باليهود الّذين لم يحكموا بما أنزل اللّه في التوراة من القود و الرجم. و يمكن أن يحمل علي عمومه في کل من لم يحكم بما أنزل اللّه و حكم بخلافه بأنه يکون ظالماً لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب) ([9]).
بل يدل عليه نفس قوله تعالى: (ومن لم يحكم....) فان اليهود لم يحكموا بما علموا من حكم التوراة وهو القصاص والعدل، ولم يفصلوا على ضوئه ولم يعملوا على طبقه، وليس لم يفتوا.
6- دلالة (بما أنزل الله)
قرينية (بما أنزل فيه) الظاهر في انه نصُّ حكمٍ يجب العمل به لا الفتوى به إذ لا حاجة بعد النص بانه أنزله الله إلى الفتوى به، ولذا لو علم العامي بالحكم فلا معنى لأن يقلد فيه المجتهد بعد فرض علمه به من طريق آخر إذ العلم حجيته ذاتية. قال تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)
ويؤيده ما ذكره الطوسي (و قوله (فَاحكُم بَينَهُم بِما أَنزَلَ اللّهُ) قال إبن عباس والحسن ومسروق: يدل على أن أهل الكتاب إذا ترافعوا إلى حكامنا يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن و شريعة الإسلام، لأنه أمر من اللّه تعالى بالحكم بينهم و الأمر يقتضي الإيجاب. و قال أبو علي ذلک نسخ بالتخيير في الحكم بين أهل الكتاب و الاعراض عنهم و الترك) ([10]).
7- دلالة (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ...)
7- قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فانه ظاهر في (أقضاء الجاهلية يبغون) لا (أفتوى الجاهلية يبغون).
وقال الطوسي (و قوله (وَ مَن أَحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكماً) نصب علي التمييز أي فصلا بين الحق و الباطل من غير محاباة و لا مقاربة لأنه لا يجوز للحاكم أن يحابي في الحكم بأن يعمل علي ما يهواه بدلا مما يوجبه العدل و قد يکون حكم أحسن من حكم بأن يکون أولي منه و أفضل منه و كذلك لو حكم بحق يوافق هواه کان ما يخالف هواه أحسن مما يوافقه) ([11]) إلى غير ذلك.
أريد الأعم لقرينة المجاز بمناسبات الحكم والموضوع
الوجه الثاني: سلمنا ان (الحكم) في هذه الآيات يراد به الأعم من الفتوى، إلا ان الظاهر انه بمناسبات الحكم والموضوع؛ لوضوح وحدة الملاك والحكم فان من لم يحكم بمعنى لم يقضِ بما أنزل الله فهو كافر ان اقترن معه الإنكار أو ظالم أو فاسق إن لم يقترن، وكذلك الحال لو لم يُفتِ بنفس الوزان فلعل هذه المناسبة والتنقيح القطعي للمناط هي التي أوجبت فهم الأعم (من الحكم والفتوى) من الآية. فتأمل
إطلاق الحكم على الفتوى بلحاظ ما يستتبعها
الوجه الثالث: سلمنا لكن الظاهر انه لو شملت الآيات الفتوى فليس بلحاظها بما هي هي وبالحمل الذاتي الأولي بل بلحاظ ما قد يستتبع الفتوى من الفصل والبت.
توضيحه: ان الفتوى هي تبيين الحكم وقد يلحقها الفصل في الأمر والبت فيه وقد لا يلحقها ذلك، فيصح إطلاق الحكم عليها لو لحقها الفصل والبت.
والوجه فيه: ان الذين يرجعون للمفتي تارة يرجعون إليه لمجرد ان يتبين لهم الحكم فهو مفتي وهم مستفتون، وأخرى يرجعون إليه بعد ان اختلفوا في الحكم الشرعي فيرجعون إليه ليفصل بينهم ببيان الحق بنظره، ففتواه في هذه الحالة ليست مجرد بيان للحكم بل هي فصل في الأمر وبت في النزاع أيضاً.
ويؤكد ذلك ما قاله الطوسي في تبيانه (والحكم هو فصل الأمر على وجه الحِكمة فيما يفصل به، وقد يفصِل بالبيان أنه الحق وقد يفصل بإلزام الحق والأخذ به كما يفصل الحكام بين الخصوم بما يقطع الخصومة وتثبت القضية) ([12]).
ولعل إطلاق الحكم في الآيات على الفتوى على القول بشموله لها هو بهذا اللحاظ لا بلحاظها بما هي هي.
وبعبارة أخرى: ليس الفصل والحكم جنساً للفتوى ولا فصلاً ولا جزءً ولا شرطاً بل هي أجنبية عنه – عن الفصل والحكم - بالحمل الذاتي الأولي، غاية الأمر ان مصاديق من الفتوى قد يلزمها بالحمل الشائع الصناعي الفصل والحكم فيكون مصحح إطلاق الحكم على الفتوى هو ذلك.
ويؤكد ما ذكرناه هنا ان الخبر الحسي الذي لا يطلق عليه الحكم جزماً يصح إطلاق الحكم عليه بلحاظ ما يستتبعه من الفصل والبت إذا صار كذلك. فتأمل
الاستعمال أعم من الحقيقة
الوجه الرابع: سلمنا، لكنه ([13]) استعمال والاستعمال أعم من الحقيقة فلا يدل على الوضع. وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=========================
|