بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(52)
الأطراف الثلاثة: الملاكات، التشريعات، القدرة
الأمر الثاني: ان هناك أطرافاً ثلاثة ذات مدخلية في الحكم الشرعي ولا بد من تحديد العلاقة بينها لتمييز الحجة عن اللاحجة ولتمييز صورة التزاحم عن صورة التعارض وغير ذلك:
وهي: ملاكات تشريع الأحكام، وتشريعها، والقدرة، والأولى قائمة بالمتعلَّقات والثانية قائمة بالمولى أي انها من شؤونه والثالثة قائمة بالمكلف وان وجب على المولى ملاحظتها حين التشريع.
وليس الأولان من شأننا إذ لا يحيط بملاكات الشارع غيره، والقياس والاستحسان مردوع عنهما، اما الأخير فبين ما هو من شأن المولى وما هو من شأننا ([1]).
الملاك مقتضٍ للتشريع لا علة
الأمر الثاني: ملاكات الأحكام وإن كانت تامة في حد ذاتها (بان كانت المصلحة أو المفسدة ملزمة في حد ذاتها) فانها ليست علة لتشريع الأحكام على طبقها بل هي مقتضٍ ولذلك فان المكلف حتى لو اطلع فرضاً على ملاك الحكم التام فانه ليس له ان يفتي بحكم الشارع على طبقه، وقد سبق إيضاح ذلك في (النحو الثاني) من البحث السابق.
ومنه يظهر خطأ أكثر الحداثويين سواء أكانوا من رجال الدين أم من غيرهم حيث اعملوا فكرهم لاكتشاف ملاكات الأحكام ثم بنوا عليها رفض أحكام أو تخصيصها أو الحكم عليها بانها قضايا خارجية وانها خاضعة لظروف وحالات خاصة كظروف مكة والمدينة أو مطلق أزمنة وأمكنة التشريع.
وبملاحظة الأمرين السابقين (الثاني والثالث) يظهر وجه الخطأ الفاحش في ذلك، كما سنفصله أكثر في أبحاث التعارض والتزاحم بإذن الله تعالى.
العجز يمنع التشريع أو التنجيز
الأمر الثالث: ان (العجز) و(عدم القدرة) تارة يكون الباعث لعدم تشريع المولى الحكم حينما يرى عجز المكلف عن الامتثال؛ للغوية أمر العاجز أو استحالة الطلب الحقيقي منه أو زجره حقيقةً كما قيل، وأخرى يكون الباعث لعدم تنجيزه من غير ان يمنع تشريعه، وهو ما أشرنا إليه في (النحو الثالث)، وتفصيل الكلام عن الثاني وثمرته سيأتي في مباحث التزاحم ([2]) أيضاً بإذن الله تعالى.
فرق التزاحم عن التعارض بالذات
الأمر الرابع: ان التعارض يختلف عن التزاحم بالذات فان التعارض تكاذب الدليلين من حيث الدلالة أو من حيث المدلول، على الخلاف بين الشيخ والآخوند.
اما التزاحم فهو تنافيهما – من غير تكاذب – لوجود الملاك في كليهما وتحقق التشريع مع كون العجز في مرحلة الامتثال نظراً لفقد القدرة.
التزاحم الملاكي والتزاحم الفعلي
الأمر الخامس: ان التزاحم على قسمين: التزاحم الملاكي والتزاحم الفعلي.
والأول يسبق مرحلة التشريع والثاني يلحقها، والمراد بالأول تطارد الملاكات في المتعلق الواحد، ككونه حاملاً لمصلحةٍ ولمفسدة مزاحمة، أو في أمرين ككونهما حاملين لمصلحتين ملزمتين لكنهما غير قابلتين للجمع مطلقاً أو في الجملة وذلك عندما يلاحظ المشرع المفاسد والمصالح في مرحلة المتعلقات حين إرادته تشريع الأحكام على طبقها.
والمراد بالثاني: ما كان التزاحم والتطارد بعد صدور الحكم منه وملاحظته مختلف الملاكات المتزاحمة، وذلك بعد عجز المكلف عن الجمع في الامتثال بين الحكمين، فهو خاص بالصورة الثانية من القسم الأول.
التعارض مع فقد المصلحة ومع وجودها
الأمر السادس: ان التعارض على قسمين:
1- فقد لا توجد مصلحة ثبوتاً في المتعلق فلا يصدر تشريع من المولى تبعاً لذلك، فلو وجد دليلان متخالفان على حكمين عُلِم بكون احدهما كذلك أو احتمل، كان من ذلك.
2- ان تكون المصلحة موجودة دون التشريع، فكالسابق.
بحث تطبيقي: دوران الأمر بين القيام والركوع
لو دار الأمر بين الركوع والسجود بدون قيام وبين القيام موميا للركوع والسجود فايهما المقدم؟
ذهب صاحب العروة إلى التخيير وقال في بحث مكان المصلي (ولو دار الأمر بين مكانين في أحدهما قادر على القيام لكن لا يقدر على الركوع والسجود إلا موميا، وفي الآخر لا يقدر عليه ويقدر عليهما جالسا فالأحوط الجمع بتكرار الصلاة، وفي الضيق لا يبعد التخيير) ([3]) وقال في بحث القيام: (لو دار أمره بين الصلاة قائما مؤميا أو جالسا مع الركوع والسجود فالأحوط تكرار الصلاة وفي الضيق يتخير بين الأمرين) ([4])
وقال المحقق النائيني في بحث مكان المصلي (لا يبعد تعين الثاني) (أي الركوع والسجود). وقال السيد العم (دام ظله) (بل التخيير مطلقا والأحوط تقديم القيام) وهو أحوط استحبابي.
وقال الميرزا النائيني في بحث القيام (الأحوط ان يختار الأول) أي القيام. وقال السيد العم في القيام تعليقاً على (فالاحوط تكرار الصلاة): (بل الأولى وقد تقدم التخيير في مثله).
ومبنى كلام العروة كمعظم المحشين – إن لم يكن شبه المستغرق منهم - على ان الباب باب التزاحم، كما ان مبناه كعدد منهم على ان ذلك لانهما متساويان من حيث الملاك أو للجهل باقوائية احدهما – على تفصيلٍ.
ومبنى كلام النائيني بعد مسلمية عّده من التزاحم: أما تقديمه الركوع فلدعوى أهميته على القيام وأما تقديمه القيام فلسبقه زمناً.
وليس الشاهد في تدافع قوليه، بل في ان القول بتقديم القيام لمجرد سبقه زمناً على الركوع والسجود رغم كونهما أهم ([5]) - بل حتى مع عدم الإذعان بكونهما أهم -، دليل على التفكيك بين تمامية الملاك وبين كون التشريع على طبقه (الركوع ههنا مثالاً) كما سبق في النحو الثاني. فتأمل ([6])
وقد ذهب السيد الخوئي – خلافاً للمشهور – الى ان ذلك من مصاديق التعارض بوجهٍ لطيف وستأتي الإشارة إليه وإلى ما يناقش به إجمالاً بالقدر الذي ينفع في تنقيح مبحثنا، فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
===============================
|