بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النميمة
(40)
مقارنة بين كلام (الجواهر) و(العناوين)
ثم ان كون المسألة من صغريات قانون الاعتداء حتى فيما التزم بشموله له، يتوقف على تحقيق حال سائر الأدلة فقد يكون منها ما هو أسبق رتبة فلا تصل النوبة إليه ([1]) أو قد يكون غير ذلك فلا بد من سبر أغوار كل مسألة مسألة مقيسه إلى دليل الاعتداء وإلى سائر الأدلة.
ولنضرب لذلك مثلاً فقهياً مبتلى به، بفروعه المتعددة، بشدة وقد ذهب فيه صاحب (العناوين) إلى عكس ما ذهب إليه صاحب الجواهر، استناداً إلى (قاعدة الاعتداء) وبدعواه ([2]) غفلة الأصحاب عن عموم الآية (آية الاعتداء).
التقابل بين التمكين والمهر
والمسألة هي: ان المشهور ذهبوا في صور مسألة وجوب ان تُمكِّن المتزوجة زوجها من نفسها قبل استلامها المهر إلى:
1- لو كان المهر حالاً، فلها ان تمتنع من التمكين حتى يسلمها المهر لأن النكاح مع الإصداق معاوضة بين المهر والتمكين.
2- ولو كان المهر كله مؤجلاً فليس لها الامتناع من التمكين لثبوت حقه عليها حالاً.
3- ولو كان مؤجلاً فامتنعت من التمكين وعصت، ثم حلّ الأجل فهل لها الامتناع الآن لأن كليهما (المهر والتسليم) حالٌّ الآن ولقانون الاعتداء، أو لا لاستقرار وجوب تسليم نفسها عليها قبل حلول الأجل فيستصحب ولغير ذلك.
فلاحظ هنا – في الفرع الثالث - ما قاله العناوين ثم ما قاله الجواهر:
قال في العناوين في مسألة (توقف وجوب القبض من كل جانب على القبض من الاخر) ([3]) بعد ان عدها من المسلمات: (نعم، لو قلنا بأن التقابض للقاعدة التي ذكرناها كليةً من الاعتداء بمثل ما اعتدى ينبغي التوقف ([4]) حينئذ أيضا وإن عصى الممتنع أوّلاً قبل الحلول، ولعل حكم الفقهاء بعدم جواز امتناع الزوجة عن التمكين وتسليم نفسها للزوج إذا كان الصداق مؤجلا وإن عصت ولم تُمكِّن إلى أن حل الأجل - مع أنه كان لها الامتناع لو كان الصداق حالا ابتداء - يرشد إلى الأول، وعدم الالتفات إلى ما ذكرناه من عموم الاية، فتبصر) ([5])
ولاحظ كلام الجواهر: (ومن ذلك يعرف الحال فيما لو كان المهر كله مؤجلا فإنه ليس لها الامتناع قطعا، لثبوت حقه عليها حالا، فإن امتنعت وحل المهر لم يكن لها الامتناع أيضا وفاقا لما عن الأكثر، لاستقرار وجوب التسليم عليها قبل الحلول، فيستصحب، ولأنهما عقدا وتراضيا على أن لا يقف تسليم أحد العوضين على تسليم الآخر، فبناء المعاوضة حينئذ على سقوط حق الامتناع بالنسبة إليها.
لكن ومع ذلك قد احتمل جواز الامتناع لها، بل ربما حكي عن إطلاق النهاية، لمساواته بعد الحلول للحالّ، ولأن الأصل في المتعاوضين جواز الامتناع من التسليم قبل التسلم، وإنما يتخلف لمانع من تأجيل أحدهما دون الآخر، فالزمان قبل الحلول مانع من الامتناع، فإذا حل ارتفع المانع، وفيه أن الأصل استحقاق التسلم بالتسليم، واستحقاق كل منهما على الآخر التسليم لا الامتناع، وأيضا قد عرفت اقتضاء المعاملة عدم الامتناع) ([6]).
دليل التقابل في المعاوضة سابق رتبة على دليل الاعتداء
وليس المقام مقام التفصيل ومناقشة الأدلة والمحاكمة بينها، بل موطن الشاهد هو أمر واحد وهو: ضرورة التدقيق في شمول دليل الاعتداء بالمثل للمقام وهل يوجد دليل أسبق منه رتبة في المقام إذ قد يقال – انتصاراً للجواهر في وجه وللعناوين في وجه آخر ([7]) – بان دليل المعاوضة بحدودها مقدم على دليل الاعتداء رتبة فلا يبقى له معه ([8]) موضوع ([9]) فانه لو قيل بان النكاح معاوضة بين البضع والمهر أو بين تسليمها نفسها والمهر – كما دلت عليه الروايات – فانه حينئذٍ يقال: مقتضى المعاوضة ان لها التسليم عند قبض المهر فاذا امتنع من تسليم المهر الحالّ كان لها استناداً لمقتضى دليل المعاوضة الامتناع من تسليم نفسها من غير ان تصل النوبة لقانون الاعتداء بالمثل.
قال السيد الوالد في الفقه ([10]): (الثاني: ان النكاح المذكور فيه المهر من العقود المعاوضية كالبيع وغيره حيث انه ثبت هناك ان لكل من البيعين الامتناع من تسليم ما عنده حتى يقبض العوض، لأن ذلك هو معنى الوفاء بالعقد اللازم بحكم العرف والشرع أن يعطي كل واحد منهما ما عنده في قبال أن يأخذ ما عند صاحبه فانهما التزما وتعهدا في العقد على المبادلة المالية بين العوضين وتسليط كل منهما صاحبه على ما عنده من أحد العوضين في قبال تسليط الاخر اياه على ما عنده من العوض الآخر، وقد ورد في باب النكاح انه (يشتريها بأغلى ثمن) ([11])...)
ولو كان المهر مؤجلاً كان مقتضى العقد والمقابلة هو تسليم نفسها الآن إذ أجّلت المهر برضاهما ولم تؤجل التسليم فلا يجري قانون الاعتداء أيضاً لوجود المقدم عليه رتبة إذ لا موضوع لقانون الاعتداء إذ لا اعتداء مع رضاهما المبني عليه العقد.
ولو عصت فحلّ الأجل فان قلنا بان مقتضى العقد بمهر مؤجل – حسب ارتكاز العقلاء والمتشرعة – تسليمها نفسها من حين العقد مطلقاً لزم التسليم عند الحلول وإن لم تسلم من قبله كما قال الجواهر (ولأنهما عقدا وتراضيا على أن لا يقف تسليم أحد العوضين على تسليم الآخر، فبناء المعاوضة حينئذ على سقوط حق الامتناع بالنسبة إليها) ([12]) فلا يبقى اذن موضوع لقاعدة الاعتداء.
وان قلنا بان مقتضاه تسليمها نفسها إليه معلقاً على التزامه بإعطاء المهر في تاريخه فلها المقابلة بالمثل لقانون الاعتداء إذا لم يسلم في تاريخه وإنما وجب عليها التسليم حين العقد لفرض إطلاق تسليمها نفسها من جهة هذا التاريخ وعدم اعتدائه عليها لتقابله بالمثل أمَا وقد حلّ الأجل فلم يفِ فقد اعتدى عليها فتحقق موضوع (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
وغير خفي ان مقتضى ذلك – لو التزم به - هو انها لو مكنته من نفسها فحلّ الأجل فامتنع عن المهر جاز لها الامتناع عن التمكين لاقتضاء المقابلة بين المهر ومجموع التمكين ذلك، كما ذهب إليه السيد الوالد في الفقه ([13]) إلا ان يدعى الانصراف أو غيره، فتأمل
تطبيق قانون الاعتداء بالمثل على النميمة
ثم بعد هذا الحديث الكبروي لا بد ان نعطف العنان لبيان حال صغرى مسألتنا وهي انه لو نمّ عليه فهل له ان ينم عليه لقانون الاعتداء بالمثل؟
يجب ان نفرض المسألة فيما لو لم يكن في البين حق شخص ثالث وإلا فليس له الردّ والمقابلة إذ هذا اعتداء على الغير وليس على المعتدي والآية نص – كما سبق – في الاعتداء عليه ( فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
فمفروض المسألة إذاً هو فيما لو نمّ عمرو وبكر على زيد فهل له ان ينم عليهما بينهما بان يوقع بينهما (بين عمرو وبكر) لأن كليهما معتدٍ عليه بالنميمة ونميمته لا تعدوهما؟
أدلة عدم جواز الاعتداء بالمثل في النميمة
فنقول: قد يقال بعدم الجواز، لوجوه:
الأول: ان النميمة من دائرة الأعراض؛ لأعمية الاعراض من السمعة كما سبق، وقد سبق ان الأصل في الاعراض عدم صحة المقابلة بالمثل فيها فان الثابت في الخروج من دائرة المحرمات استناداً إلى قانون الاعتداء، غيرها.
الثاني: ان النميمة مما علم من الشرع كراهة وقوعها فلا تكون نميمتهما عليَّ مسوّغة لنميمتي عليهما، ألا ترى قوله عليه السلام ((فَإِنَّ النَّمَّامَ شَاهِدُ زُورٍ وَ شَرِيكُ إِبْلِيسَ فِي الْإِغْرَاءِ بَيْنَ النَّاس)) ([14]) وهل يصح ان يشهد الزور ويشارك إبليس في الإغراء متعللاً بان ذلك الاخر قد فعل؟
وكذلك الحال في ((إِيَّاكَ وَالنَّمِيمَةَ فَإِنَّهَا تَزْرَعَ الضَّغِينَةَ وَتُبَعِّدُ عَنِ اللَّهِ وَالنَّاس)) ([15])
لا يقال: قطع اليد والقتل أيضاً مما علم كراهة الشارع وقوعه في الخارج ومع ذلك جوّزه (القصاص) الشارع مقابلةً بالمثل والنميمة ليست بأشد من ذلك؟
إذ يقال: تشريع القصاص ليس لِصِرف المقابلة بالمثل، فانه احدى الحِكَم لا أكثر، بل عمدة وجه تشريعه – بل يكفي كونه أحد الوجوه – ما قاله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)([16]) إذ فيه الردع الأكبر عن الاعتداء على نفوس الناس وابدانهم، فالردّ بالمثل رادع إذاً، وذلك على عكس النميمة فان الرد على النميمة بالنميمة وعلى الغيبة بالغيبة وعلى التهمة بالتهمة لا يزيد الطين إلا بلةً والنار إلا اشتعالاً والفتنة إلا شدةً فليس انه ليس برادع فقط بل انه سبب زيادة الفتن والمحن.
وغير خفي ان المذكور إنما هو لتقريب الذهن والتأييد، واما المرجع فهو (الأدلة) عموماً وإطلاقا وانصرافاً وشبه ذلك مما مضى وسيأتي.
الثالث: ان (النميمة) تفسد المجتمع بإثارتها الفتن فيه فههنا حق الغير (وهو المجتمع) فلو فرض انهما نمّا عليه فليس له ان ينم عليها لا لحقهما عليه بل لأن النميمة تضييع لحق الآخرين، وقد سبق ان الأصل عدم الاعتداء بالمثل في ما كان من دائرة حق الآخرين.
ولكن فيما سبق نقاش وتأمل سيأتي لاحقا بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
=====================
|