بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول التمسك بإطلاق الروايات كقوله (عليه السلام): " اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جدّ وهزل " على حرمة الكذب وان كان هزلا، وأكدنا ذلك بصحة التمسك لذلك بإطلاق الرواية لشمولها النوعين من الكذب، بل هي صريحة في ذلك -، كما يمكن التمسك بوجه آخر في المقام وهو أن نقول بان الأحكامَ موضوعُها هو العناوين بما هي هي لا بقيد نسبتها لفاعلها فعندما يقال الكذب حرام فان الأصل – أي الظاهر والقاعدة – انه قد لوحظ الكذب بما هو هو ورتبت عليه الحرمة وحملت عليه، وأما اشتراط قصد الفاعل لجهة ما او غير ذلك فهو ما يحتاج الى دليل مستقل، هذا ما ادعيناه واستدللنا عليه بثلاثة ادلة، كان الدليل الأول هو تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، والثاني هو بناء العقلاء في كل ملة ونحلة، وأما الدليل الثالث فكان حديث الرفع.
مناقشة الادلة الثلاثة:
رد الدليل الأول: مشهور قول الأصوليين هو لدفع توهُّمين
ويمكن ان نناقش الدليل الأول (وهو تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات على أن موضوع الحكم هو المتعلق بما هو هو لا بشرط استناده لفاعله إلا مع الدليل) بان ما ذكر من هذه التبعية وان كانت ثابتة عند العدلية وهذا مما لا شك فيه ولكن الحصر فيها هو من النوع الإضافي فانه قد قيل ذلك في قبال توهمين لدفعهما:
أ- التوهم الأول: المصلحة او المفسدة قائمة بنفس الامر
فقد توهم إن المصلحة اوالمفسدة قائمة – كقاعدة عامة - بنفس الأمر والحكم لا بالمأمور به، وهنا من اجل دفع هذا التوهم فان الأصوليين قد ردوا ذلك بان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلَّقات بالفتح لا بالمتعلِّقات بالكسر، وان الأوامر – ومثلها النواهي - ليست هي من قبيل الأوامر الامتحانية إلا النادر ومع الدليل.
ب- التوهم الثاني: افعاله تعالى لا تعلل بالغايات ولازمه العبث
كما توهم ان الله تعالى قد يفعل العبث وان أفعاله غير معللة بالأغراض والغايات
وفي ردّ هذا أيضا ذكر الأصوليون بان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات,لا انها عبثية وغير حاملة للغرض، وان كل ما يفعله من تكوين أو تشريع فهو لحكمة وغرض وغاية وإن كان قادراً على العكس إلا انه (قيَّدت حكمته كرمه) وقد (أخذ على نفسه ان لا يفعل إلا لغرض).
ومنه يظهر ان القاعدة لم تذكر بصدد نفي كون المتعلق الحامل للمصلحة أو المفسدة ذا قيد وهو الانتساب الى الفاعل أو لا وانه حامل لاحدهما بشرط القصد أو بشرطٍ آخر أو لا، وإنما الكلام هو إما لدفع التوهم الأول او الثاني, ولذا فان المصالح والمفاسد إما ان تقوم بالفعل بما هو هو او ان المصلحة قائمة بالفعل بقيد انتسابه لفاعله أو بقيد خصوصية فيه، والمجموع هو علة تشريع الحكم([1]).
توضيح مبنائي هام: أنواع الأحكام
ويتضح ذلك أكثر بتحقيق المبنى العام في أنواع الأحكام من حيث قيامها بالموضوعات بأنفسها أو بقيد انتسابها لفاعل خاص أو قصدٍ خاص فنقول:
إن الأحكام عند التتبع على نوعين:
1- الأحكام القائمة بالموضوعات بنفسها
1- ما كانت المصالح والمفاسد فيها قائمة بالموضوعات بما هو هو مع قطع النظر عن أمرين: الأول: قصد فاعله لجهة خاصة، والثاني: البلوغ وغيره مما قد يشترط في الفاعل وذلك ثابت في صورتين:
أ- كل ما علم من الشارع إرادة عدم وقوعه في الخارج فان الحرمة قد انصبت عليه بما هو هو وذلك مثل شرب الخمر فان الحرمة رتبت عليه بما هو هو، وكذلك المفسدة فإنها قائمة به مع قطع النظر عن جهة انتساب شرب الخمر للفاعل فانه لو شرب الخمر ولم يقصد السكر و قصد التجربة مثلا او قصد ردع الغير كي يفهم ان الخمر سبب للاسكار فان ذلك لا يجوز وهو حرام، فان القصد لا مدخلية له في رفع الحكم أو ثبوته.
والحاصل: ان الحرمة والمفسدة قائمة بالمتعلق وهو شرب الخمر بنفسه مع قطع النظر عن جهة قصده، وكذلك لو فعلت ألامرأة القبيح – أي الزنا والعياذ بالله – ولكن لا بقصد التلذذ الشهوي, بل بقصد تحصيل المال او بأي قصد اخر فان ذلك حرام دون شك وكذلك الحال في قتل النفس المحترمة وهكذا، ومعه فالحرمة ثابتة مع قطع النظر عن الفاعل وقصد الجهة ولذا سبق انه حتى غير البالغ يمنع من شرب الخمر ويعزر عليه، وأما غير المميز فعلى وليه ردعه ومنعه.
ب- (الأحكام الوضعية) كما هو الحال في التنجُّس فهو ثابت كحكم وضعي سواء أقصد او لم يقصد كمن وضع دواء متنجساً على يده لعلاجها فان الأثر والتنجس ثابت سواء كان المريض بالغا او لا وسواء قصد الشفاء أو التنجس أو لا وكذلك الحال في الخمس وغيره, وهذان القسمان من النوع الأول من الأحكام نجدها كثيرة ومنبثة في أبواب الفقه المختلفة.
2- الأحكام القائمة بالموضوعات بقيد انتسابها لفاعل خاص
2- النوع الثاني: وهو ما انيطت الحرمة بقصد الفاعل او بجهة اخرى من الجهات فانه في هذا النوع فان المصلحة والوجوب او المفسدة والحرمة تتعلق بالمتعلق بلحاظ انتسابه للفاعل، وذلك ثابت في صورتين أيضاً:
أ- (العبادات) فان المصلحة قائمة بها ولكن بقيد قصد القربة
ب- (المعاملات) فان العقود تتبع القصود، حيث ان المصلحة لم تقم بِصِرف البيع والإجارة كيما تترتب الصحة او الإلزام بالوفاء، بل انها رتبت وقامت على الفعل بان لا يكون ربويا مثلاً مضافاً الى نسبته للفاعل وهو ان يقصد ذلك الفعل([2])
وعليه: ستكون شخصية الفاعل وقصده لها دخالة في هكذا أحكام
والمتحصل: بان هذين القسمين من الأحكام لهما عرض عريض، والنوع الأول منها ليس الأصل والقاعدة العامة كي نقول ان الأصل هو تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات مع قطع النظر عن قصد الفاعل بل هما قسيمان ونظيران
صور مشكوكة:
وتوجد صور مشكوكة أخرى كما هو الحال في الغيبة لأنها لو كانت بقصد التنقيص فان الغيبة في هذا المورد محرمة
وأما لو كانت بقصد نصح المستشير فهي جائزة وحلال، وعليه فالقصد له مدخلية وقد تدخل في الحكمين، والمفسدة ليست قائمة بالفعل بما هو هو وكما هو واضح فان الغيبة ليست من المعاملات والعقود او من الأحكام الوضعية أو العبادات([3]) وانما من دائرة أخرى وهي قابلة للوجهين
وهنا قد يوجد مورد شك وهو الغيبة مزاحا فهو مورد التأمل والشك، وما نحن فيه أي الكذب مزاحا من هذا القبيل
والنتيجة: إنا لا يمكن ان نتمسك لتحريم الكذب بقول مطلق بدعوى ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات مع قطع النظر عن قصد الفاعل وعدمه والنتيجة ان ما ذكر من دليل ووجه لكون العنوان بما هو هو موضوعا للحكم ليس بصحيح لانه من الاستدلال بالأعم.
ومن هنا قد يكون الردع المتوجه للكذب والحرمة خاصاً – ثبوتاً – بما لو قصد فاعله الكذب جدا وإلا فلا، ومنه كذب المعلم أي في تمثيله بما لا يطابق الواقع كمثال، فانه لا بأس به ولا مفسدة فيه ولا مانع منه
نقاش الدليل الثاني: حديث الرفع دليل الوضع
وأما الوجه الثاني الذي ذكرناه فقد تمسكنا بحديث الرفع لإثبات المدعى حيث قلنا ان الرفع هو فرع الوضع والشارع قد رفع تسعة عناوين وليس منها المزاح والهزل، وعليه فيبقى المورد على حرمته، ولكن هذا الوجه ليس بتام أيضا. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) وحكم العقل هو ان المولى العرفي وسيده لا يحكمون عادة إلا لمصلحة في المأمور به ولكن هل هذه المصلحة مستقلة قائمة بنفس العنوان بما هو هو أو قائمة به بما هو منتسب إلى فاعله وبخصوصية فيه؟ وهذان أمران كلاهما ممكن وواقع.
([2]) بالإضافة الى البلوغ فيمن يشرط ذلك
([3]) ولا مما علم من الشارع إرادة عدم وقوعه في الخارج مطلقا. |