بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الاستدلال بآية (...لِمَ تَقُولُونَ...) على حرمة الوعد عازماً على اخلافه او على حرمة اخلاف الوعد – على القولين –، وذكرنا ان هذه الآية قد تورد عليها شبهة انها ينبغي ان تكون بصياغة (لم لا تفعلون ما تقولون) وليس (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)؛ إذ النهي عن المنكر والامر بالمعروف واجبان، والشخص وان لم يكن مؤتمراً بالمعروف منتهيا عن المنكر، الا انه لا بد ان يأمر وينهى ويأتمر وينتهي، ولو ترك ذلك لعصى معصيتين، معصية ترك المعروف – كالصلاة – أو فعل المنكر كالغيبة وهو ما عبرنا عنه بالائتمار والانتهاء، ومعصية ترك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقلنا: ان هناك اجوبة متعددة على ذلك، ذكرنا ثلاثة منها، وبقيت اربعة وجوه اخرى فيكون المجموع سبعة ,ووصلنا فيها الى الوجه الرابع.
الوجه الاربع: النهي هو بلحاظ شأنية مقدمية القول للترك لا فعليتها
الوجه الاربع:
ان الذم والنهي في الآية مقدمي، والنهي عن المقدمة إنما هو بلحاظ مقدميتها لذي المقدمة لا لذاتها، حيث الذم يقع على الاخير حقيقة؛ وذلك ان القول هو مقدمة للفعل فكان بذلك مصبا للنهي والذم في ظاهر الآية.
ويوضحه: ملاحظة حال الشخص الذي يشرب الخمر فانه يقال له: لا تمش الى المخمر، أو لمَ تمشي الى المخمر؟، فان النهي واقعا مصبه المخمر ولكنه صب على المشي لأنه مقدمة للوقوع في المحرم والمفسدة.
اشكال: هذا القول ليس بمقدمةٍ فعليةٍ لعدم الفعل
ولكن قد يرد اشكال على الوجه الرابع وهو:
ان الامر عكس ما ذكر من كون القول مقدمة لعدم العمل؛ اذ عكس قوله هو المقدمة وليس قوله ، فلو قال (لا تصل) فهذه قد تكون مقدمة كي لا يصلي، للايحاء وغيره، وليس قوله (صل) مقدمة لعدم صلاته كي يقال ان النهي صب على (تقولون = صل) لمقدمتيه لـ(ما لا تفعلون) وبعبارة أخرى: انه يوجد في المقام تقارن بين قوله صل و عدم صلاته بنفسه ولا مقدمية.
اذن: لو كانت المقدمة ثابتة فهي بين النفي والنفي أي بين (لا تصل) و (عدم الصلاة)، لا بين الاثبات والنفي, أي بين (صل) و (عدم الصلاة)
والخلاصة: ان قول (صل) ليس بمقدمة لترك الصلاة فلا يقال ان النهي عنه هو من باب المقدمية
جواب الاشكال: النهي هو بلحاظ شأنية مقدمية القول
والجواب عنه بوجه لطيف وهو يعتمد على تقسيم المقدمة الى قسمين: فان بعض الاشياء هي مقدمة بالفعل، ولكن البعض الاخر هو من قبيل المقدمة الشأنية، والقسم الثاني لعله هو مقصود الآية المباركة, أي: ان ما من شأنه ان يكون مقدمة للفعل لِمَ لم تجعله مقدمة له ؟، فان قول (صلِ) من شأنه ان يكون مقدمة لان تفعل الصلاة ولذا فلِمَ لا تفعل ما تقوله،
وعليه: فما كان من شأنه ان يكون مقدمةً فالعتابُ عليه لأنه لم يجعله مقدمة فعليه للعمل. فتأمل
الوجه الخامس: النهي منصرف الى غير (النهي عن المنكر) فتختص الآية بالوعد
الوجه الخامس: ان الآية منصرفة عن دائرة النهي عن المنكر والامر بالمعروف وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات.
بيانه:
ان الطائفة الاولى من الآيات تصرح بوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، واما ايتنا فهي تقول (لم تقولون) فتحدث المعارضة الظاهرة بينهما, ولكن نقول ان الآية الاخيرة منصرفة عن موارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا مشكلة في البين ولا تعارض.
وبعبارة اخرى: ان الآية ستكون مختصة بالصور الستة الاولى والتي ترتبط بالمستقبل - حيث هو مورد الرواية الصحيحة السابقة ايضا - فتخرج الصورة السابعة الدالة على الحاضر، أي ان الآية تتحدث عن المستقبل والوعد فقط ومفادها هو (اذا وعدت ففِ بوعدك) فلا تشمل مصداق المنافق المُضمِر لنفاقه والمظهِر للايمان او ذلك الذي يدعي انه يأوي الضيف أو يفعل كذا وكذا في الوقت الحالي وهو ليس كذلك
والمتحصل: انه قد يقال ان الآية منصرفة عن مورد الامر بالمعروف لمن ليس عاملاً به، وهي خاصة بالوعد المستقبلي فلا تشمل الحاضر وصورة كون الشخص غير متصف به أو غير عامل بما يأمر به([1])
الوجه السادس: الآية الثانية مكملة ومتتمة للأولى فلا تنافي بينهما
الوجه السادس: انه لا يوجد تنافي بين الآيتين، بل يوجد وجه جمع عرفي ولطيف بينهما، فان الآية الاولى([2]) مطلقة تفيد وجوب الأمر بالمعروف وان لم تكن عاملا به([3]), واما الثانية فتقول لماذا تأمر بالمعروف ولا تعمل به؟، فهو كمن يقول لأحدهم (صِل) ولكن لمَ تصلي مسرعا؟ فانه لا تنافي فيما بينهما بل تكون الثانية مكملة للأولى ولا تعارض في البين([4]).
الوجه السابع: ([5]) العدول حاصل إما للالفات وإما للإخبار
الوجه السابع: ان النهي إما ان يكون على سوء العزم, أو على ترك الفعل، والعدول عن (لِمَ لا تعملون) الى (لم تقولون) هو إما للالفات واما للإخبار، وهذه وجوه وشقوق ثلاثة يكمل بعضها بعضا فتدبر.
توضيحه:
أما الشق الأول: فهو ان الذم والتقريع هو على سوء العزم – وهو مورد الرواية الصحيحة أو اظهر مصاديقها – وذلك كمن يقول سآتي لنصرتكم غدا ونحن نعلم بسوء عزمه فنقول له: لم تقول ما لا تفعل؟ وهنا العتاب في جوهره ليس على القول وانما على ما كشف عنه من سوء العزم، فيكون مورد الآية هو لِمَ تقولون ذلك وانتم عازمون على خلف الوعد, هذا هو المصب, ومعه سيرتبط هذا الوجه بالمستقبل وببعض الصور الستة دون كلها.
الشق الثاني والثالث: وهو لو كان الشخص غير سيء العزم، بل كان قد وعد وهو جاد في وعده ثم بدا له - لا لعذر- ان يخلفه، وهذه صورة وشق، واما الاخرى والشق الثالث فهو يتعلق بالزمن الحاضر كما في الشخص المنافق وهو يدعي الايمان.
وهنا نجد وجهاً بلاغيا لطيفا وهو (القلب)([6]) فان واقع ومراد الآية هو (لمَ لا تفعلون ما تقولون) والذم في الواقع هو على ترك الفعل لكنه قلب الى الذم على القول لحكمة في المقام، كما سيتضح.
بيان ذلك:
وتوضيحه يظهر بذكر بعض أمثلة القلب فمنها في قوله تعالى (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)([7]) فهنا نجد القلب في الآية المباركة فالمفروض ان يقال "ما ان اولي القوة ينوؤون بمفاتحه"، أي: انهم بسبب ثقلها تميل أظهرهم وتنحني، لا ان المفاتيح هي التي تميل بثقلهم! ولعل وجه الحكمة في القلب هو ان المراد هو ان المفاتيح بلغت من الكثرة وكأنها هي الحاملة وكأن الشخص هو المحمول!
وكذلك الحال في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) فان المشركين كانوا يشكلون على تحريم الربا وتحليل البيع, فيقولون الربا هو مثل المعاملة والمحللة والمتعارفة، فكان المفروض ان يقال إنما الربا مثل البيع، فقلب للفتة بلاغية.
وكذلك الحال في (أدخلت القلنسوة في رأسي) والواقع هو العكس فانه قد أدخل رأسه في القلنسوة
ولا بد من الإلفات إلى انه من خلال كل هذا يتبين وجه من وجوه الجواب على مجموعة من الاشكالات التي قد تتوهم على بعض الروايات والآيات كما في قوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) فالإمام ( عليه السلام ) يبين ان المراد هو (واجعل من المتقين لنا إماما)([8]) واللطيف ان بعض العامة قد استشهد بهذه الآية على المراد هذا انسياقا مع بلاغتها بنكتة القلب، غفلة عن مخالفته كلاميا لنا، فقد ساقه لقول الحق ذوقه البلاغي
وفي موردنا نقول:
ان النهي منصب على ترك الفعل في (ما لا تفعلون)، إلا انه عدل عنه وصب على القول من باب القلب ووجهه الإشارة الى مدى قبح ترك الفعل حتى كاد ذلك ان يلقي بظلاله على القول فيتحول نفس القول الى أمر قبيح كذلك([9]) فتدبر جيداً. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) ولو ثبت هذا الوجه لصح كلام الشيخ الانصاري دون كلام السيد الوالد والسيد الخوئي – كما سبق فراجع
([2]) أي قوله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ) سورة لقمان آية 17
([3]) فهذه مسألة اجماعية فمن لم يصل لا يسقط عنه وجوب الامر بالصلاة وهكذا
([4]) ومعه فلا داعي للجوء إلى القول باجتماع الامر والنهي والتزاحم كما في الوجه الأول ولا وجه لدعوى الانصراف كما في الوجه الخامس وانما نبقى مع الاطلاق
([5]) وهو يرتبط ببحث بلاغي لطيف فتنبه
([6]) لا يخفى ان هذا يرتبط بالشق الثاني، واما الشق الثالث فسيأتي في الدرس القادم وان وجهه الاخبار.
([7]) ناء ينوء من الميل بسبب الثقل
([8]) وفي الرواية (واجعل لنا من المتقين إماماً) وهو قابل لأن يفسر بالقلب البلاغي فتأمل.
([9]) نظير ما قيل من سراية قبح اللفظ إلى المعنى وبالعكس وكذا سراية جمال المعنى للفظ وبالعكس. |