بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
خلاصه وتوضيح:
كان الكلام في التورية وانها هل هي كذب موضوعا او لا؟ ذكرنا ان السيد الروحاني ارجع ذلك الى النقاش المبنائي في وضع الجملة الخبرية، فعلى مبنى المشهور يرى انها موضوعة للنسبة الخارجية، فانه ستكون التورية كذبا؛ اذ ان الشخص الموري لم يستعملها بحسب فهم العرف في ما وضعت له وهو النسبة الخارجية، بل استعملها في امر اخر قد قصده([1])
بين المشهور والشيخ والسيد والعرف
فمثلاً في قوله تعالى: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)
الذي يفهم عرفا من ندائهم ان اخوة يوسف ( عليه السلام ) قد سرقوا صواع الملك الا ان مقصود المنادي انهم سرقوا يوسف من ابيه في ماضي الزمان، فيكون المقصود من اللفظ هو خلاف ما يفهم من ظاهره عرفا فهو تورية إذن وعلى رأي المشهور ستكون التورية كذبا لعدم مطابقه ظاهر الكلام للواقع خارجا، ومعه فلا بد من البحث عن ادلة لتجويز ارتكابها، فلو تمت فبها والا حرمت التورية.
ولكن السيد الروحاني انتخب رأيا اخر وهو ان الجملة الخبرية موضوعة لقصد حكاية النسبة الخارجية لا انها موضوعه للنسبة الخارجية بلا واسطة، ومعه ستكون التورية ليست بكذب موضوعا,
واما الشيخ الانصاري فرأى ان مقياس الكذب عدم مطابقة المراد للواقع، وهو يقع في مقابل المشهور إلا انه لا يطابق كلام السيد الروحاني([2])
وبعبارة اخرى : ان المشهور لا يرى واسطة بين الحاكي- أي الجملة الخبرية - والمحكي - أي النسبة الخارجية -، واما السيد الروحاني فيرى الواسطة في ذلك وهو قصد الحكاية، والقصد قائم بالنفس، وكذلك الحكاية فهي قائمة بالحاكي لا المحكي – كما ذكنا سابقا -, ونتيجة ذلك ان التورية صدق ؛ لان الموري لم يقصد ما فهمه السامع، ومراده وقصده مطابق للواقع (أي حكايته مطابقة للنسبة الخارجية).
وفي الآية المباركة: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) فان القصد والمراد الجدي فيها انكم سارقون ليوسف من ابيه وهذا المراد صدق لا نه مطابق للواقع،
والمتحصل: ان مدار الصدق والكذب هو القصد والمراد الجدي للمتكلم ومطابقته او عدمه للواقع دون ظهور الكلام الذي عليه المشهور.
توضيح مهم: اشكال ودفعه
لا يقال: ان ما ذهب إليه السيد الروحاني – ومن قبله الشيخ - من كون الموري لم يقصد الحكاية عن النسبة الخارجية فلا كذب، يرد عليه ان العرف يرون العكس إذ عندما يسمعون كلام المورِّي([3]) فانهم يطلقون عليه انه كاذب بالحمل الشائع الصناعي.
إذ يمكن ان يجاب – من السيد الروحاني - :
ان ما فهمه الناس والعرف هو من باب الوهم واللبس لعدم معرفتهم بالواقع ولو عرفوه وعلموا به لما نعتوه بالكذب، ويوضحه مثال الغش والتدليس فان الناس لو تصوروا ان احد الباعة كان يبيعهم الرديء من الرز الا انه كان في حقيقته جيدا فالبائع ليس واقعاً بمدلس او غاش ولو توهم الآخرون ذلك. اذن: انما توهمه الناس هو خلط بين الثبوت والاثبات فكذلك الحال في الصدق والكذب والخلط بين الثبوت والاثبات، فانه صادق ثبوتاً وإن توهموه كاذباً إثباتاً.
مناقشه كلام السيد الروحاني :ثلاثة وجوه
ولكن يرد على ما ذكره:
وجوه ثلاث:
الوجه الاول: الوجدان يدل على ان الوضع في الجملة الخبرية هو للنسبة الخارجية
ان دعوى وضع الجملة الخبرية لقصد الحكاية عن النسبة الواقعية هي خلاف الوجدان بل ان الظاهر ان وضع هيئة مثل: (زيد قائم) هو لكي تعكس الخارج مباشرة، كما في وضع المفردات فان زيداً مثلاً وضع لهذا المولود لا لقصد الحكاية عنه. ويتضح ذلك أكثر بملاحظة التكوينيات والتي تجري الاعتباريات على وزانها فمثلاً: المرآة فانها تكشف عن الخارج مباشرة ولا واسطة في البين، وكذلك الجملة الخبرية وضعت لتكون مرآة للنسبة الخارجية مباشرة لا بواسطتين (أي بوضعها "لقصد" "حكاية" النسبة الخارجية) فتدبر جيداً.
الوجه الثاني: هناك خلط بين الوضع للشيء والغاية منه
قد حصل خلط عند السيد وغيره بين الغاية والهدف من جهة وبين ما وضعت له الجملة الخبرية من جهة اخرى، وكلام الأدباء هو عن الموضوع له لا الغاية؛ فان العلة الغائية شيء والموضوع له شيء اخر, وقصد الحكاية ليس جزء الموضوع له, بل الموضوع له هو الشيء بعينه. نعم وضع اللفظ له، بغرض ان يحكى به عنه. فتدبر
الوجه الثالث :جواب نقضي
وننقض في هذا الوجه على السيد الروحاني بنفس ما نقضه على المشهور حيث قال (عدم وجود النسبة الخارجية في كثير من الجمل) فكيف تكون الجملة الخبرية موضوعة لها؟ فنقول: ان ما نقض به جار عليه ايضا إذ يقال (عدم وجود القصد والمراد الجدي في كثير من الجمل الخبرية) كما هو الحال في المعلِّم([4]) والمتمرن في صوته وغيره([5]) فعندما تذكر الجملة الخبرية منهم فانهم لا يقصدون منها الحكاية عن الخارج، فقد تخلف وانفكّ المراد والقصد عنها، مع انها جملة خبرية دون شك.
والمحصلة النهائية : ان الحق مع المشهور في كون الجملة الخبرية في حقيقة وضعها قد وضعت للنسبة الخارجية.
التحقيق في المقام: أ- العرف يرى المدار على ظاهر القول
ويظهر تحقيق المقام ببيان الأمور التالية:
الأمر الأول: العرف يرى ما ذهب اليه المشهور
ان العرف يرى ان المدار هو مطابقة ظاهر اللفظ – او عدم مطابقته - للواقع، ولا دخل للمراد في الصدق والكذب.
بيانه:
ذكرنا سابقا ان الملاك في الصدق والكذب اما ان يكون هو مطابقة ظاهر القول للواقع كما عليه المشهور، او ان الملاك هو مطابقة المراد الجدي للواقع
ولكن الفيصل في الحكم هو العرف ؛ فانه يرى ان المدار هو مطابقة ظاهر اللفظ للواقع وان كان المراد أمراً آخر، فلو قال شخص: (جاء زيد) وكان زيد خارجا قد جاء فعلا فان العرف يرى ان كلامه صدق وان لم يكن قصده ومراده ذلك بل وان قصد وأراد أمراً آخر.
والحاصل: ان الكلام صادق وان كان العرف يراه سيء الطوية محاولاً التدليس إذا اطلع على مراده وانه كان يرى انه لم يجيء ومع ذلك قال انه جاء. والأمر يرجع إلى التفريق بين كذب الحاكي والحكاية بما فصلناه سابقاً.
ومن الجهة الاخرى فان العكس كذلك دليل على المدعى: فلو قال احدهم: (جاء زيد) ولم يكن زيد قد جاء خارجا فانه وان كان يعتقد بمجيئه وأراده فان العرف يقول ان كلامه ليس بصادق، ولا يشفع اعتقاده بصدقه وإرادته لمدلول كلامه لوصف كلامه بالصدق. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) فالتورية هي ان تقصد من اللفظ ما يخالف الظاهر
([2]) نعم عَدَل السيد الروحاني في آخر كلامه إلى كلام الشيخ (وبذلك يظهر...) لكن أول كلامه (وضعت لقصد...) هو غيره كما يظهر بالتدبر بوضوح.
([3]) أي دون علمهم بانه مورّي أو مطلقاً.
([4]) إذا ذكر جملة خبرية في مقام بيان إعرابها مثلاً فانه لا يقصد الحكاية عن الخارج بها لكنها جملة خبرية دون شك.
([5]) كالنائم فان ما قاله لو كان جملة خبرية فانها يصدق عليها جملة خبرية وان لم يكن قاصداً. |