بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(114)
النقض على الفارق بين الحق والحكم، بالإرث
ولكن قد ينقض على ما ذكرناه من الفارق بين الحق وانه ما كان مصبّه بالأساس (له)، و(الحكم) بانه ما كان مصبه بالأساس (عليه) وأنّ ما صدر وكان منشؤه إعمال مقام المولوية فحكمٌ وما صدر ومنشؤه لحاظ مصلحة الشخص فحقٌّ، بـ(الإرث) فانه لا شك في انه حكم ولكنه من دائرة (له) فانه لمنفعة المكلف لا (عليه).
ويمكن الجواب بوجوه:
الأجوبة: الإرث حكم على المورث وحق للوارث
الأول: انه قد يقال بان الإرث حكم بالنسبة للمورِّث وحق بالنسبة للوارث؛ فانه حيث كان مفروضاً على الوارث وكان تقييداً لصلاحيته في التصرف بأمواله بعد موته بحدود الثلث لا أكثر كان حكماً، وحيث كان للوارث ولصالحه ومنفعته كان حقاً له فهو حكم منسوباً للمورِّث وحق منسوباً للوارث.
ولعله يدل عليه قوله تعالى: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...)([1]) فان الوصية هنا وصية إلزامية لا ترخيصية فهي كقوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ)([2]) فيستفاد من يوصيكم (المفيدة لتضييق دائرة تصرفاته المالية بعد موته في دائرة الورثة وغيرهم أما في دائرتهم فبتحديدها بهذا الحد فليس له أن يزيد ولا أن ينقص بأن يجعل إرث البنات أقل أو أكثر، واما خارج دائرتهم فبأن يزيد في التصرف على الثلث) الحكمُ أي ان ظاهر (يوصيكم)، مع القطع بكونها وصية إلزامية وما ذكر من التضييق، هو الحكم وكونه عليه، ويستفاد من (للذَّكر.. ) انه لهم ولنفعهم، بل أن (يوصيكم) بنفسها يستفاد منها انها على الفاعل من جهة وللقابل ولمنفعته من جهة، فهي (على) الموصى و(لـ) الموصى له. فتدبر
وهو حكم على الوارث وحق له
الثاني: بل قد يقال بانه حق للوارث وحكم عليه في الوقت نفسه، فهو حق لأنه له وهو حكم لأنه لا يستطيع إسقاطه ([3]).
اجتماع الحق والتكليف
ولذلك قال السيد الوالد في الفقه الحقوق (ثم الظاهر أنه يمكن جمع الحق والتكليف وإن أشكل فيه الشيخ والنائيني وغيرهما وتبعهم على ذلك جمع من علماء الحقوق بتقريب: أن الحق للإنسان والتكليف عليه وهما متقابلان لكن حيث أن الإنسان له اعتباران فباعتبار يحق (له) وباعتبار (هو) مكلف ولا مانع من ذلك ولذا ورد "وإنّ لبدنك عليك حقّا" ([4])([5]) فالراحة والأكل وما أشبه حق البدن والمكلف بتنفيذ ذلك الحق هو الإنسان نفسه وفي رواية أخرى يسأل يوم القيامة عن الإنسان عن "عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَشَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاه"([6]) إلى غير ذلك) ([7]).
من موارد اجتماعهما
وقال: (ثم إنَّ مِن جمع الحق والتكليف الحضانة بالنسبة إلى الأبوين على التفصيل المذكور في الفقه وقد ذكرنا هناك أنه إذا لم يكن الأب فالأم تقوم مقامه في الوجوب عليه لآية أولى الأرحام وغيرها فانه حق لهما في وقت هو تكليف عليهما أيضاً، وكذلك مسائل الولاية على الوقف أو على الأمة ونحو ذلك والوصاية، وغيرهما كحق الزوجين في المقاربة فانه حق وتكليف مثلاً المرأة مكلفة بالتمكين كما انه حق لها، وإمكان المناقشة في بعض الأمثلة لا ينافي ما نريد إثباته من الصغرى الجزئية) ([8]).
حق للورثة وحكم عليهم بوجه آخر
الثالث: انه حق للورثة وحكم عليهم بوجه آخر غير السابق، فهو حق لأنه نشأ من رعاية مصلحتهم الشخصية وحكم لأن المولى أعمل حق المولوية ولا تضادّ بينها.
ومنه يتضح أنه لو راعى كلتا الجهتين في عرض واحد كان حكماً وحقاً معاً ولو راعى المولوية بالأساس كان حكماً وإن تضمن النفع ولو راعى مصلحة الفرد بالأساس كان حقاً وإن استتبع الحكم أو أعمل المولوية. فتأمل
الإرث حق لازم لا حكم
الرابع: انه قد يقال ([9]) ان الإرث (حق لازم) وإن من جعله حكماً لا حقّاً فلأنه رأى لزومه فتوهمه حكماً، مع أن اللزوم لا يضاد الحق بل قد يكون حقاً ولازماً: اما كونه حقاً فلانبعاثه عن مصلحة المكلف الشخصية واما جعله لازماً فللمحافظة على حقه إذ حيث رأى المولى انه كثيراً ما يفرّط فيه أو يُكره على إسقاطه أو يجبر عليه (كالإرث للبنات) جعله لازماً.
وتحقيق كون الحق لازماً آتٍ في البحث الآتي:
بحث: إمكان جعل الحق اللازم وتصويره
والظاهر إمكانه بل عقلائيته بل وقوعه، ويمكن برهنته إضافة إلى ما سبق بوجوه أخرى:
1- عناوين موضوعات الأحكام اما علل لها أو مقتضيات
الأول: ان عناوين الموضوعات العرفية والشرعية بالنسبة لمحمولاتها والأحكام المترتبة عليها، على قسمين:
أ- ما كان كالعلة لثبوت المحمول له، وإنما قلنا كالعلة لأن الموضوع ليس علة لثبوت الحكم له بل الموضوع جزء العلة واما علة الحكم فهو المنشئ والجاعل نعم بالنسبة للحسن والقبح يكون مثل العدل علة لثبوته له فهو علة للحسن ومقتضٍ للإيجاب.
ب- ما كان مقتضياً لثبوت المحمول له.
ومن الأول: حق الابوة فان الظاهر أن الابوة والأمومة كالعلة لثبوت حسن ووجوب احترامهما بدرجة خاصة أو لحرمة عقوقهما، كما ان منه حق القضاوة للجامع للشرائط فانه لازم له لا يستطيع إسقاطه، ومنه حق الولاية، بناء على ولاية الفقيه أو ولاية عدول المؤمنين، حسب دائرة القول بها.
ومن الثاني: البيع بالنسبة لثبوت حق الخيار أو الشفعة أو ما أشبه.
فما كان من قبيل الأول كان حقاً لازماً وما كان من قبيل الثاني كان حقاً غير لازم قابلاً للإسقاط أو النقل أو غير ذلك.
وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
..................................................
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): "تَفَقَّهُوا فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ الْفِقْهَ مِفْتَاحُ الْبَصِيرَةِ وَتَمَامُ الْعِبَادَةِ وَالسَّبَبُ إِلَى الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَالرُّتَبِ الْجَلِيلَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَفَضْلُ الْفَقِيهِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى الْكَوَاكِبِ وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ عَمَلًا"
تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص410.
================
|