بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على محمد (صلى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الاستدلال بقوله تعالى:(واجتنبوا قول الزور)على حرمة حفظ كتب الضلال ومختلف التقلبات في مسببات الفساد, ووصلنا إلى كلام العلامة الشهيدي و الذي ذكر إن المحتمل في قول الزور أمران:
أولا: أن تكون كلمة (قول ) هي المصدر
ثانيا : إن تكون كلمة (قول) اسم مصدر فلو كان المراد هو اسم المصدر لدلت الآية على التعميم؛ لان اسم المصدر هو من مقولة الكيف و سيكون تعلق (اجتنبوا) به بتوسط أفعال محذوفة, وحيث لا فعل بارز وظاهر، يُصرف اجتنبوا إليه ؛ لذا عم اجتنبوا كل الأفعال
و لكن لو قلنا: إن (قول) هو مصدر وهو فعل وحدث فانه سيتعلق (اجتنبوا) به مباشرة, فيكون خصوص (القول) – أي هذا النوع من الأفعال– هو المتعلَّق. ولكن العلامة الشهيدي استظهر نفي اسم المصدر ولم يذكر وجهه,و لعله اعتمد على دعوى عرفية ذلك. وكذا ذكرنا إن هناك وجوها لإثبات إن اسم المصدر هو المتعلَّق لقوله تعالى (اجتنبوا قول الزور), و بينا الوجه الأول والثاني.
الوجه الثالث : إن يدعى كِنائيّة القول عن مطلق المبرز والمظهر , اعم من كونه قولا او إشارة – كما في الأخرس – أو كتابة أو ما أشبه ذلك.
اذن: الدعوى هنا هي كنائية القول عن مطلق المُظِهر لما في النفس,
وهذه الدعوى ليست ببعيدة عن الفهم العرفي , بل قد يقال : الظاهر ان العرف يفهم من ذلك,أي من (قول الزور)الواقع متعلَّقاً لـ(اجتنبوا) مطلق المبرز للباطل وليس خصوص القول, وهذا القول ليس بدعوى إلغاء الخصوصية, وكذا ليس بدعوى تنقيح المناط ليناقش فيه, وإنما بدعوى الظهور العرفي, ويشهد لها ما لو قال المولى لعبده: لا تقل إلا الحق, فان الذي يفهمه العرف هو منع المولى لعبده عن كل أنواع الاخبار بغير الحق من الكتابة والإشارة وغيرها,وليس المفهوم هو القول بمعناه الضيق فقط, بل مطلق المبرز والمظهر, وعليه فان قوله تعالى:(اجتنبوا قول الزور), لا ندعي تنقيح المناط فيها ,
بل إننا ندعي ما هو أكثر ذلك و قبل ذلك , وهو أن هذه اللفظ في هذا الموطن يستفاد منه عرفا أن المراد هو المظهر والمبرز لا خصوص (القول) بحرفيته,هذا هو الوجه الثالث[1].
و عليه :فهذا الوجه هو لبيان إرادة المعنى الأعم لا الأخص, لكنه بالنظر الدقي برزخ بين الأمرين, فإن هذا الوجه لم يوصلنا إلى المعنى الاسم مصدري الأعم لكي يشمل الحفظ, أي حفظ كتب الضلال[2],حيثان القول لا يكنى به عن الحفظ ,نعم يكنّى به عن مطلق المبرز من كتابة أو ما أشبه. فهو أمر متوسط، من حيث الثمرة – بين إرادة المعنى المصدري، وإرادة المعنى الاسم مصدري.[3]
أي ان المتحصل هو:إن هذا الوجه هو ذو دلالة وسيطة بين المعنى المصدري ذي الدلالة الضيقة جداً والاسم المصدري ذي الدلالة الواسعة جداً[4].
الوجه الرابع : الوجه الرابع لتعميم قول الزور لمطلق المظِهرات وغيرها من حفظ وبيع وشراء وتأسيس هو: أن نقلب الاستدلال عليهم[5] فأنهم قد استندوا إلى ضيق دائرة المتَعلَّق لتضييق دائرة المتعلِق - أي الحكم وهو اجتنبوا- فحيث نفوا أن يكون قول الزورهو اسم مصدر التزموا بأن النهي هو عن خصوص قول الباطل لا غير.
تعليقنا في المقام : قلبُ الاستدلالانه يمكن ان ننطلق من سعة دائرة الحكم لتوسيع دائرة المتعلق بان نقول : ان " اجتنبوا"مطلق يدل على وجوب اجتناب أي فعل آخر يتعلق بالقول ومنه يعلم أن المتعلَّق هو اسم المصدر لا المصدر وإلا لكان اجتنبوا ضيِّقاً غير دال على لزوم مطلق الأفعال. هذا خلف
والجواب على ذلك : أن الحكم لا ينقّح موضوعه، وهذه قاعدة عامة، وما ذكرتموه من الاستناد إلى عموم (اجتنبوا) لتعميم متعلَّقه هو تنقيح لموضوع الحكم
جواب الجوابولكن يرد على ذلك: اننا لم نستند الى الحكم في تنقيح الموضوع، بل استندنا الى اطلاق الحكم، وهناك فرق بين الأمرين فتارة نقول ان الوجوب هو الذي ينقح الموضوع , وتارة اخرى نقول ان اطلاق هذا الوجوب هو الذي ينقح الموضوع، و فرق كبيربينهما .ونحن في استدلالنا لم نستند الى اصل الوجوب في ذلك بل استندنا الى الاطلاق الموجود في كلمة اجتنبوا لتنقيح الموضوع
ردّ جواب الجوابويجاب عن ذلك:بان اطلاق الحكم هو من شؤون الحكم، وهذه كلها في مرتبة المحمول، وماهو كذلك لاينقّح ماهو في مرتبة الموضوع أي: ان الحكم بإطلاقه لا يمكنه أن ينقح الموضوع لتأخره رتبةً.
رد (الجواب) ومناقشةوفيه نقول:ان هذا المدعى أي :ان الحكم لا ينقح موضوعه, غير تام بل ان الحكم ينقح الموضوع في الجملة[6]
الدليل على ذلك واما الدليل على ما ادعيناه فهوما التزم به الأصوليون والفقهاء في مختلف ابواب الفقه من تضييق دائرة الموضوع ببركة الحكم بلحاظ مناسبات الحكم والموضوع وهذه (المناسبات) كثيرة التداول في الكتب الفقهية حيث يلتزمون بالانصراف أي: على الرغم من أن الموضوع عام وواسع ولكن تعلق هذا الحكم بهذا الموضوع بما بينهما من مناسبة، يصرفه من الاعم الى الاخص,ومرجع ذلك الى ان الحكم قد نقح موضوعه الا أنهم بينوه بعبارة اخرى وهي مناسبات الحكم والموضوع فتدبر[7].وذلك كما لو قال المولى لعبده : (اطع العلماء) فان العلماء عام وشامل لأهل الضلال منهم ولكن يقال بإنصراف (العلماء) عنهم بسبب مناسبات الحكم و الموضوع، فقد خصصت مناسبات الحكم والموضوع (العلماء)
والحاصل: ان تعلق خصوص هذا الحكم (اطع) بالعلماء، دليل على تضييق دائرة العلماء العامة الى العلماء غير الضالين والمضلين وهذا ناشئ من مناسبات الحكم والموضوع لا غير[8]
وبتعبير اخر (وهذا بحث عام نشير له اشارة) ان الانصراف له اسباب ومناشئ منها كثرة استعمال اللفظ في معناه بحيث يصنع له وجهة[9] معينة. ومن مناشئ الانصراف أيضاً: مناسبات الحكم والموضوع
صغرى البحث : (الاية الكريمة): ونأتي الى آيتنا فان المدعى فيها هو ان (اجتنبوا) بإطلاقها تفيد توسيع دائرة (قول الزور) وعليه : فان المراد سيكون المعنى الاسم مصدري لا المصدري، وذلك ان العرف يرى ان اجتنبوا المنسوبة الى قول الزور، الاجتنابُ فيها ينبغي ان يكون عن إيجاد قول الزور وكتابته وعن الاشارة الزورية وعن الحفظ بقصد الاضلال وعن غيرها، فاقتضت مناسبات الحكم والموضوع تعميم (قول الزور) بإرادة المعنى الاسم مصدري.
كلام المحقق اليزدي :
و ما ذكرناه وبيناه هو تنقيح لكلام المحقق اليزدي حيث يقول : " مع انه يمكن دعوى شمول الآية وعمومها فان مقتضى إطلاق الاجتناب عن قول الزور الاجتناب عنه بجميع الانحاء التي منها ما نحن فيه وهو الحفظ فتأمل"[10] فان تم ما ذكرناه في الوجه الرابع فان الاستدلال بهذه الاية الشريفة على حرمة حفظ كتب الضلال صحيح وإلا فيوجد وجه آخر.
الوجه الخامس :وهذا الوجه يغنينا عن الوجوه الأربعة السابقة وهو ان نقول : ان المعنى المصدري والمعنى الاسم مصدري هو دقة عقلية صرفية والمرجع في الفهم إلى العرف لا الى هذه التدقيقات[11]، [12] والعرف يفهم الأعم من اجتنبوا. وللكلام تتمة وصلى الله على محمد واله الطاهرين...
[1]- فتأمل.
[2]- وهو المطلوب الأساسي لما عقدت المسألة له.
[3]- وإن كان من حيث الموضوع داخلاً في المعنى المصدري.
[4]- وهو وجه دقيق ولطيف.
[5]- أي العلامة الشهيدي.
[6]- هذا هو مدعانا في مقابل القاعدة الأصولية الشهيرة.
[7]- قد يقال: الحكم لم ينقح موضوعه، بل مناسبات الحكم والموضوع هي المنقحة؟ والجواب: أن من يقول بمنقحّية الحكم لموضوعه لا يقول بأن الحكم بما هو هو مجرداً عن تعلقه بموضوعه، ينقح موضوعه، إذ لا يعقل ذلك، بل يقول: إن هذا الحكم بلحاظ تعلقه بهذا الموضوع، ينقحه ويوسعه أو يضيقه وهذا يعني أن الحكم منسوباً للموضوع يفيد تضييقه أو توسعته، على أن قبول هذا (المذكور في قد يقال) لا يضرنا إذ المقصود في مبحثنا ان (اجتنبوا) المتعلق بـ(قول الزور) بمناسبات الحكم والموضوع، يوسع دائرة قول الزور، فتدبر.
[8]- ولو ثبت ذلك فلعل الكثير من البحوث سيتغير وضعها صناعياً، نعم إن جري الفقهاء العملي هو على خلاف تلك القاعدة. والحاصل: أن ما أطلقه الأصوليون في البحث الأصولي لم يكن في محله. فتأمل
[9]- وهذه حيثية تقليدية مهمة.
[10]- والتأمل
[11]- فإنه لو ثبت فإن كثيراً من أنواع الدقة في الآيات الشريفة والموسعة أو المضيقة ستنتفي. فتأمل جيداً.
[12]- فائدة: مما ينفع لتنقيح هذا المبحث مراجعة مبحث آخر ذكره الآخوند في كتاب الكفاية حيث ذكر الآخوند في مبحث تعارض العام والمطلق: إن العام دلالته على العموم بالوضع اما المطلق فدلالته على الإطلاق بمقدمات الحكمة، ومنها ان لا تكون قرينة في المقام على الخلاف فعلى هذا وبحسب الدقة العقلية فالعام سيكون وارداً على المطلق لو تعارضا هذا ما قاله في مبحث الألفاظ، ولكنه في مبحث التعادل والترجيح قال المرجع للظهور العرفي ولذا فقد يقدم المطلق على العام الخ.
|