بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(135)
مناقشة أخرى للمشهور:
وقد يناقش مع المشهور بوجه آخر وهو أنه في كل عقد توجد أمور أربعة: الأسباب والمسبَّبات والمتعلَّقات والسلطنة، وقد سبق الكلام عن الأول والثالث، والإطلاقات إنما تتكفل بالأسباب وأن هذا (كالبيع) من حيث السببية تام الاقتضاء، دون الثلاثة الأخرى، وتوضيحه:
إن المالك إذا أنشأ البيع بقوله: (بعت هذا الكتاب بدينار) مثلاً فههنا أربعة أمور: البيع المتجسد في لفظ بعتُ، ومسبَّبه وهو نقل الكتاب للمشتري، ومتعلَّقه وهو الكتاب، لكن ذلك كله موقوف على أمر آخر هو السلطنة، بأن تكون له السلطنة على الكتاب بكونه مالكاً له أو ولياً وأن تكون له السلطنة على نقله إلى غيره إذ قد يكون مالكاً محجوراً عليه أو مالكاً للوقف، نعم تكفي السلطنة على النقل كما في الوكيل.
الإطلاقات تتكفل عالم الأسباب لا المسبَّبات أو المتعلَّقات أو السلطنة
وحينئذٍ فقد يقال بأن (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)([1]) إنما يتكفل بالأمر الأول وهو كون البيع بنظر الشارع سبباً صحيحاً للنقل والانتقال عكس الربا الذي لا يراه سبباً صحيحاً فهو في مرحلة السببية تام السببية ولا مشكلة من جهتها فيه، لكنه لا يتكفل حال المتعلَّقات، وهو ما سبق في ضمن توضيح كلام الاصفهاني، كما لا يتكفل حال السلطنة وأنواعها إذ يفيد (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) أن البيع جائز كسبب للنقل لكن هل لك سلطنة النقل في هذا الحق ([2]) أو لا، فهذا ما لا يتكفل به إطلاق (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، فلو ثبت أن للمحجّر حق التحجير ثم شك في أنه هل له سلطنة على نقله أيضاً أم لا (بعد الفراغ عن أن هذا الحق يوجب له السلطنة على التصرف في المحجَّر بالصلاة فيه أو إحيائه أو شبه ذلك) فان (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) لا يتكفل أن له السلطنة أم لا، بل مرحلته مرحلة لاحقة عن دليل السلطنة أي إذا ثبت أن له السلطنة على نقله فان (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) يفيد أن نقله بالبيع جائزٌ ماضٍ نافذ.
فرق هذا الإشكال عن الإشكال السابق
والفرق بين هذا الإشكال والإشكال السابق أنه تارة يناقش في أن دليل البيع والصلح لا يتكفل حال أنه له سلطنة على هذا (كالسلطنة على النقل) أو لا وهذا هو مقتضى هذا الإشكال، أما الإشكال السابق فهو أن الدليل لا يتكفل حال المتعلق وأن المحجّر هل هو كالكتاب قابل للبيع أو هو كالخمر أو كالشيء الذي لا مالية له لحقارته غير قابل للبيع فهما وجهان مختلفان من الإشكال ولكل منهما مصب: أحدهما من حيث صلاحية المتعلق وتحقق المقتضي فيه والآخر من حيث تحقق السلطة وإن كان المتعلق صالحاً.
نعم كلام الاصفهاني قابل للحمل على هذا الوجه الجديد بل ظاهر فيه بلحاظ ذيله وإن عمم للأمرين في صدر كلامه ([3])، ثم إننا في كلامنا السابق ([4]) قد سقنا الأمرين بعصا واحدة، والتحقيق هو ما ذكرناه ههنا فتدبر.
وعلى أية حال فلكل من الإشكالين مجال وقد سبقت المناقشة في الإشكال السابق وبعض الأجوبة مشتركة، وأما الإشكال الجديد فقد بيّنه في التنقيح بقوله: (ودعوى أنّ مقتضى عمومات (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاض) وغيرها من أدلّة التجارة ونحوها صحّة نقل الحكم إلى الغير وثبوت آثاره في حقّ المشتري، مدفوعة بأنّ هذه العمومات لم ترد في مقام تشريع أنحاء السلطنة كالسلطنة على النقل، بل هي ناظرة إلى نفوذ أسباب النقل في موارد ثبوت السلطنة التامّة لكلّ من المتعاقدين على ماله ولو عند العرف والعقلاء ولذا لو فرضنا أحداً آجر نفسه للغناء أو جعل فعله هذا عوضاً في البيع ونفرض أنّا نشكّ في حرمة الغناء وكونه تحت سلطنته وضعاً ـ فإنّ الحرام لا يجوز جعله عوضاً ولا تقع المعاملة عليه ـ لا يمكننا التمسّك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والحكم بدلالته بالالتزام على صحّة العقد وجواز الغناء تكليفاً، وليس هذا إلاّ لما ذكرناه من أنّ هذه العمومات لا تثبت السلطنة على أصل النقل، بل هي ناظرة إلى أسبابه) ([5]).
أجوبة على الإشكال
لكن الظاهر عدم تمامية هذا الإشكال على المشهور، لوجوه:
1- المشهور: الإطلاقات تثبت السلطنة الشرعية لا العرفية
الأول: أن المشهور لم يذهبوا إلى أن هذه العمومات قد وردت في تشريع أنحاء السلطنة ليردّ عليهم بما ذكر، بل ذهبوا، إذ تمسكوا بهذه العمومات لإثبات صحة النقل لدى الشك في قابلية الشيء كحق الشفعة والتحجير والقَسْم ([6]) للنقل، إلى أن السلطنة على النقل في الموارد المشكوكة إنما تستفاد من العُرف، كلما كان العُرف على ذلك (أقول: أو ومن مثل الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم، وهي قاعدة مصطيدة، أو من مثل إطلاق "له" أو أحق به في "مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَا يَسْبِقُهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِه"([7]) إذ (أحق به) يفيد بإطلاقه أن له نقله ([8])) وإنما الجواز الشرعي يستفاد من هذه الإطلاقات.
وبعبارة أخرى: كلما ثبتت السلطنة العرفية وشك في السلطنة الشرعية فان العمومات تفيد السلطنة الشرعية.
وليس كلامهم عن أنه كلما شك في السلطنة العرفية تمسك بعموم مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لإثباتها فانه من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية لاثباتها أو لإثبات بعض شرائطها.
وذلك هو المراد بقولهم (العمومات تثبت القابليات) فانه ليس المراد أنها تثبت القابليات العرفية إذ يستحيل أن يتكفل الحكم بحال الموضوع، بل المراد (العمومات تثبت القابليات الشرعية بعد الفراغ عن كونها قابلة عرفاً).
ولذا قال المحقق اليزدي: (ومن ذلك ظهر أن ما (يقال) ان العمومات لا تثبت القابليات مدفوع بان ذلك إذا كان الشك في القابلية العرفية وفى المقام الشك انما هو في القابلية الشرعية وشان العمومات اثباتها) ([9])
2- الفرق بين الشك في أصل السلطنة أو في حدودها
ثانياً: أنه فرقٌ بينما لو شك في أصل ثبوت سلطنته على الشيء، كما في مثال الغناء الذي مثّل به، وبين ما لو علمت سلطنته على الشيء وشك في إطلاقها وعمومها حتى للنقل، والمقام من ذلك أن الفرض أن مدار البحث على ثبوت حقه وسلطته في التحجير والشفعة وشبههما والشك في خصوص أن سلطنته شاملة حتى لنقله إلى الغير أو مقتصرة على حق التصرف فيه بالإحياء أو حق الأخذ به بالشراء في الشفعة.
ولا يصح قياس الأخير على الأول إذ الأخير قد يمكن التمسك فيه بإطلاق دليل السلطنة (مثل "مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَا يَسْبِقُهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِه" أو شبهه) عكس الأول. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "كَانَ الْمَسِيحُ (عليه السلام) يَقُولُ: لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَاسِيَةٌ قُلُوبُهُمْ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ" الكافي: ج2 ص114.
...........................................
|