بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تتمة البحث الماضي:
كان الكلام حول المسألة الرابعة والخامسة وانه هل يجوز الكذب في التحبيب، او لجلب الفائدة والمنفعة لطرف اخر؟ ذكرنا مقتضى الكلام بما سبق من البيان.
أولاً: الاصل اللفظي والعلمي عند الشك:
ولكن لو وصلنا الى مرحلة الشك في ان الاصلاح الثابت جواز الكذب فيه بالآيات والروايات على ما مضى، هل مفهومه شامل للتحبيب وجلب المنفعة أو لا؟ أي لو كانت الشبهة في المقام مفهومية بان دار امر المفهوم بين الاضيق والأوسع وان الاصلاح هل هو خاص بما كان مسبوقا بمفسدة وهو القدر المتيقن، او انه يشمل الاعم من ذلك أي ما كان لأجل التحبيب او جلب المنفعة؟ فلو فرض اننا رغم رجوعنا الى كتب اللغة والعرف ولسان الادلة لم نستطع ان نحدد مدى المفهوم وحدوده، فلا بد من ان نبحث عن مرجع ثانوي منقح للمفهوم أو محدد للوظيفة والحكم. اما الاصل اللفظي فليس بمتحصل؛ إذ انه لا وجود لأصل منقِّح للمفاهيم اذا دار امرها بين السعة والضيق، وهذه قاعدة مطلقة.
ان قلت: ان الاضيق هو القدر المتيقن والاكثر هو المشكوك فيه فيكون الاضيق هو المرجع كأصل لفظي.
قلنا: ان ذلك ليس بتام؛ لان القدر المتيقن لا يصنع ظهورا لفظيا, وبتعبير آخر: ان القدر المتيقن لا يحرز الوضع ولا المراد الاستعمالي؛ فانه أي: القدر المتيقن ليس من امارات الوضع كما ليس هو من امارات الدلالات الاستعمالية وحدودها.
اذن: ليس هناك في المقام اصل لفظي يمكن الرجوع اليه عند الشك، ومعه فلابد من الانتقال الى الاصل العملي والحكمي([1])
ثانياً: الاصل الحكمي والعملي:
وبعد نفي وجود الاصل اللفظي ننتقل للبحث عن الاصل العلمي وهنا نقول:
انه عند الشك فان القدر المتيقن من جواز الكذب في الاصلاح هو الكذب في الاصلاح عن مفسدة؛ فان هذا القدر بالقطع ينطبق عليه دليل (اصلحوا)، واما الاصلاح لا عن مفسدة فحيث لا يعلم ان عنوان الاصلاح ينطبق عليه او لا، فيبقى هذا الاخير على قاعدة واصالة حرمة الكذب؛ اذ انه قد ثبت ان الكذب حرام مطلقا ويستثنى من ذلك ما خرج بدليل، وقد خرج القدر المتيقن وهو الاصلاح عن مفسدة بالدليل، اما التحبيب أو جلب الفائدة فلا ندري انه مستثنى – إن كان داخلاً في مفهوم الإصلاح - او لا - إن كان خارجاً عنه - فيشك فيه فيبقى تحت عموم واطلاق التحريم.
اذن: الكذب لأجل التحبيب او لجب المنفعة او الفائدة لا يجوز وهو حرام، هذا اولا.
ثالثاً: الرجوع الى نفس ادلة التحبيب
ولكن يمكن ان نرجع الى ادلة التحبيب نفسها وادلة إيصال النفع والفائدة([2]) فنلاحظ النسبة بين هذه الادلة، وادلة حرمة الكذب، ومحصل ذلك هو نفس ما ذكرناه سابقا من نتيجة عند تعارض عنوان الكذب مع عنوان الاصلاح، ونوجزه فنقول: ان النسبة بين ادلة التحبيب (وكذا أدلة نفع الغير) وادلة حرمة الكذب هي من وجه؛ فلو فرض ورود (انفع المؤمنين([3]) او حبب المؤمنين لبعضهم البعض([4])) من جهة، ومن جهة اخرى هناك الأدلة الدالة على حرمته فانهما يجتمعان في مورد الكذب للتحبيب أو الإفادة، فجرياً على رأي السيد الخوئي السابق في التعارض بين الكذب والاصلاح فان النسبة في مادة الاجتماع حيث انها التعارض ايضا فيتساقطان ويرجع الى الاصل وهو حلية الكذب([5]) لأصالة الاباحة([6])، ومعه فيكون الكذب للتحبيب او جلب المنفعة جائزا.
وحيث ان البحث هنا هو بنفس ابعاد البحث هناك، فان كل الاشكالات التي ذكرت سابقا تجري هنا ايضا ومنها:
ان ادلة التحبيب كأدلة الاصلاح منصرفة عن الحرام فان دليل حبب المؤمنين لبعضهم البعض ليس بناظر عرفاً إلى التحبيب بحرام كالنظر الى الاجنبية او شرب الخمر تحبيباً، وعليه: فان الكذب في التحبيب حرام وثابتا. ان ادلة الكذب هي من القوة بحيث تكون آبية عن ان تسقط بالمعارضة بمثل ادلة التحبيب، وبتعبير اخر ادلة حرمة الكذب اظهر من الاخرى([7]) (الظاهرة) فتقدم عليها عرفا.
هذا اشكالان ووجهان ومضت وجوه اخرى فراجع
رابعاً: الرأي المنصور:
واما الرأي المنصور في المقام فهو عين ما ذكرناه سابقا من ان هذا المبحث خارج عن دائرة التعارض وداخل في باب التزاحم كما اوضحناه مفصلا؛ اذ ذكرنا ان دليل (اصلحوا )، ودليل (لا تكذبوا) متزاحمان لكونهما ذوي ملاك فتطبق عليهما قواعد التزاحم، وصغرى المقام ايضا كذلك إذ التحبيب له ملاك فان فائدته ذاتية ونفسية وفي قباله الكذب إذ له ملاك وحرمته ذاتية ونفسية ايضا فيجب ان نلاحظ أي الملاكين اقوى فيقدم.
وبعبارة أخرى:
اما بناءاً على رأي المشهور([8]) فانه لا تزاحم بين التحبيب (المستحب) وحرمة الكذب الواجبة؛ ذلك ان ملاك الحرمة هو المفسدة الملزمة وملاك المستحب هو المصلحة غير الملزمة و اللاملزم لا يزاحم الملزم، اذ التزم المشهور بان المستحب ملاكه اضعف من ملاك الواجب مطلقا ([9]) فيكون الكذب في التحبيب حراماً على المشهور([10]).
واما على المنصور والى ما صرنا اليه فإننا اوضحنا بان ملاك المستحب قد يكون اقوى من ملاك الواجب فتكون النتيجة هي إمكان ووقوع المزاحمة بينهما، وفي صغرى المقام فان ادلة التحبيب قد تقدم على ادلة حرمة الكذب بحسب درجة الملاك.
ولكن القول الفصل في المقام هو عالم الاثبات ولسان الدليل؛ اذ هو الكاشف عن مدى قوة الملاك ثبوتاً([11]) فلا بد من إحرازان دليل التحبيب هو من القوة بحيث يظهر منه اقوائية ملاكه على ملاك مفسدة الكذب، لكن الظاهر عدم وجود هذا الدليل؟
تحقيق موجز:([12]) التفريق بين الفائدة الشخصية والنوعية
وهنا نذكر موجز التحقيق في المقام فنقول: ان الفائدة (وكذا التحبيب) تارة تكون شخصية وهذه مندرجة في دائرة المستحب دائما، ولكن تارة اخرى تكون نوعية لو ادخلت المسألة في الفقه الاجتماعي او المجتمعي كما هو الحال في التحبيب بين رئيسي عشيرتين او مرجعين أو قائدين فانه قد يقال ان بعض مصاديق هذا التحبيب النوعي واجبة، وكذا الأمر في مسألة النفع النوعي والنتيجة ستكون هي التزاحم بين الواجب النوعي للإفادة أو التحبب وبين حرمة الكذب. فتأمل وعلى أي فتحقيقه يوكل لمحله.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) وهذا المبحث واشباهه ينبغي ان يطرق في مبحث تعارض الاحوال، وفي مبحث أحوال الألفاظ، والمتأخرون من الأصوليين ألغوا كلي مبحث تعارض الأحوال من البحث إلا ان المتقدمين كصاحب القوانين قد بحثوا حوله.
([2]) والروايات في هذا المجال كثيرة وان لم يذكرها الفقهاء
([3]) ستأتي الإشارة إلى بعض الروايات حول إيصال النفع لهم.
([4]) لم نعثر على نص بهذا المضمون في هذه العجالة، لكن لعله مصطيد من ملاحظة مجموع الروايات. فتأمل
([5]) بعد اذ سقط دليل حرمته بالمعارضة.
([6]) والسيد الخوئي لم يطرح هذه المسألة كصغرى وانما ذكر الكبرى الكلية هناك وهي منطبقة على مسالتنا هنا لمن قبل ذلك المبنى.
([7]) وهي أدلة التحبيب والإفادة.
([8]) لو فرض قبولهم ان الباب والمقام هو باب التزاحم فانه على رأيهم لا يزاحم المستحب الحرام.
([9]) وكذا الحال في المكروه والحرام
([10]) على فرض إدخالهم إياه في باب التزاحم. فتدبر
([11]) إذ سبق ان كون ملاك المستحب أقوى من ملاك الحرام هو مخالف للأصل.
([12]) والتفصيل يوكل لمحله |