• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 128- من فقه الايات: في قول إبراهيم: (بل فعله كبيرهم) وثلاثة عشر وجهاً لدفع كون كلامه خلاف الواقع .

128- من فقه الايات: في قول إبراهيم: (بل فعله كبيرهم) وثلاثة عشر وجهاً لدفع كون كلامه خلاف الواقع

من فقه الايات: في قول إبراهيم: (بل فعله كبيرهم) وثلاثة عشر وجهاً لدفع كون كلامه خلاف الواقع*
خاصل الإشكال: ان قول إبراهيم: ((بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)) قد يكون غير مطابق للواقع، وكيف يقول النبي المعصوم كلاماً مخالفاً للواقع؟ لوضوح إن النبي إبراهيم (عليه السلام) كان هو الذي حطّم الأصنام ومع ذلك قال: (بل فعله كبيرهم هذا..).
فهناك مجموعة من الوجوه لذلك وقد ذكر قسماً منها المفسرون في التفاسير المختلفة[1], وذكرها بعض الفقهاء والأصوليين. وهذه الوجوه - فيما أحصينا - هي ثمانية وجوه، وقد أضفنا لها خمسة أخرى فالمجموع ثلاثة عشر وجها، سنستعرضها مع الإشارة إلى بعض القول فيها أخذا ورداً، وكما سنرى فان عدداً من هذه الوجوه يفي بالغرض المطلوب فيستفاد منها جواز التورية، نعم بقية الوجوه هي ذوات فوائد من الناحية التفسيرية والكلامية وإن كانت أجنبية عن جهة البحث.
 
ثلاثة عشر وجهاً لدفع شبهة قول إبراهيم (عليه السلام) خلاف الواقع
 
1- إن كلام إبراهيم (عليه السلام) من الكذب الجائز للضرورة
اما الوجه الأول فهو إن ما ذكره إبراهيم (عليه السلام) هو كذب جائز للضرورة، وقد بنى العديد من مفسري العامة على ذلك، واستدلوا عليه بروايات نقلوها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بان إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث كذبات وهذه إحداها, كما استدل عليه بان ملاك الأهم والمهم يجري في كل الضرورات، والكذب ليس قبحه ذاتيا بل يختلف بالوجوه والاعتبارات – بخلاف العدل والظلم – ولا قياس بين قبح الكذب وقبح الشرك بالله تعالى (عز وجل), فكي يدفع إبراهيم (عليه السلام) ذلك الفساد الأكبر والأعظم وهو شرك قومه بالله العظيم اضطر إلى الكذب الجائز.
وقد أجاب الشيخ الطوسي في التبيان[2] بان تلك الروايات لا سند لها فلا تكون معتبرة. إضافة إلى أن تجويز الكذب على الأنبياء( عليهم السلام) ولو للضرورة يستلزم سلب الوثوق بقولهم في كافة مسائل العقائد والأحكام. وقد يجاب بان سند بعضها تام لا لوجودها في الكافي الشريف فحسب بل لكون رجال اسنادها ثقاةٌ كما فيما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن أبي نصر عن حماد بن عيسى عن الحسن الصيقل وقد نقلناها سابقاً نعم اقتصرت في وجه الإصلاح على كلام إبراهيم (عليه السلام) واما سلب الوثوق فانه لولم يكن مع الكذب قرينته، والقرينة موجودة إذ فهم القوم من كلام إبراهيم استهزاءه بهم وان إرادته الجدية لم تكن مطابقة للاستعمالية. فتأمل
 
2- أنّ كلامه (فـ(علَّه) وليس (فَعَله )
واما الوجه الثاني فهو دعوى أن القراءة الصحيحة ليست هي القراءة المعروفة، وإنما هي (بل فعلّه كبيرُهم)، أي: لعل كبيرهم هو من فعل ذلك، ولعل تفيد الترجي في صورةٍ فلا موضوع عندئذٍ للصدق والكذب، كما تفيد الاحتمال في صورةٍ أخرى، ومنها المقام، والاحتمال العقلي موجود ثابت[3].
ومع قطع النظر عن النقاش مبنى في تعدد القراءات، والنقاش في خصوص صحة هذه القراءة لشذوذها، فان هذا الاحتمال غير عقلائي والترجي إضافة إلى بعده جداً كبعد إرادة الاحتمال، غير عقلائي أيضاً[4].
 
3- (فَعَلَه) محذوف الفاعل
واما الوجه الثالث فهو إن المقام هو من باب التورية بحذف الفاعل وقطع الكلام، ومعه ستكون الآية هكذا: (بل فعله) والفاعل محذوف والمعنى بل فعله من فعله أو فعله شخص ما، ثم استأنف إبراهيم (عليه السلام) الكلام بقوله: (كبيرهم هذا) .
والحاصل: إن الفاعل لقوله (فعله) ان كان هو كبير الأصنام أشكل عليه بأنه كذب، لكنه مع دعوى قطع الكلام وحذف الفاعل وتقديره لا يرد ذلك، وهذا هو موطن التورية؛ إذ إن إبراهيم (عليه السلام) قد وصل بين جملتين فَتُوُهِّم أن ثانيتهما فاعل الأولى، مما أفاد معنى ظاهرا غير مراد باطنا.
وهذا الوجه وإن كان ممكناً إلا انه لا دليل عليه مع بعده.
 
4- حصول الإضراب عن (فَعَلَه).
واما الوجه الرابع فهو إن إبراهيم( عليه السلام) قال (بل فعله) ثم اضرب عن كلامه وقال: (كبيرهم هذا)، ووجه الفرق انه في الوجه الثالث يُلتزم بوجود فاعل مقدر محذوف، واما في الوجه الرابع فإن الإضراب عن الجملة الأولى للإيهام والتعمية من دون قصد فاعل خاص، ويوضح ذلك في العرف أن احدهم لو سأل فقال: هل جاء زيد؟ وأنت لا تريد ذكر الواقع في الجواب لمحذور ما فتقول جاء، ذهب زيد[5]، فيتوهم السائل أن مقصودك إن زيداً قد جاء وذهب، إلا إن المقصود الحقيقي هو الإضراب عن جاء، ومقصودك الواقعي هو ذهب زيد[6] وقد استعملت هذا الأسلوب.
وهذا الوجه كسابقه.
 
5- انّ المجاز هنا في الإسناد:
إن نسبة (فعله) إلى الصنم صحيحة فلا كذب أصلاً وذلك لأنه يصح أن يسند الفعل للسبب كما يصح أن يسند إلى المباشر غاية الأمر انه يكون من باب المجاز في الإسناد؛ فإن إبراهيم( عليه السلام) وان كان هو المباشر لتحطيم الأصنام إلا إن السبب الذي حركه ودفعه لذلك هو وجود الصنم الكبير وكونه معبودا مع الله تعالى فأغاضه ذلك فكان سببا لقيامه بكسر الأصنام الصغار.
والحاصل إن نسبة الفعل إلى السبب نسبة صحيحة مصححة للإسناد، ويوضح ذلك عرفا إن شخصا لو أحسن إلى آخر فقال الثاني له: (جزاك الله خيرا لإحسانك) فقال الأول: (إنني لم أحسن إليك, إنما الذي أحسن إليك هو من علمني ورباني ودربني على خدمة الناس والإحسان إليهم) فانه ليس بكذب بل هو كلام صحيح.
 وكذلك لو قيل للبطل الذي فتح الحصن والقلعة: (ما أروعك وأشجعك اذ فتحت القلعة!) فقال: (بل فتحها قائد الجيش وأنا مجرد جندي عنده). فانه صحيح لصحة إسناد الفعل للسبب لما يقع في سلسلة العلل الطولية.
وفي مورد البحث فان هذا الوجه صحيح في حد ذاته، وقرينه المجازية هي القطع – على ذلك المبنىٰ الكلامي - بان إبراهيم (عليه السلام) لا يكذب ولا يجوز له ذلك؛ إذ إن الأنبياء لا يصدر منهم ما يشكك في بعثتهم وإرسالهم وسائر ما ينقلونه عن الله تعالىٰ لئلا يلزم من ذلك نقض الغرض.
وفيه ان هذه القرينة أعم من هذا الوجه إضافة إلى ان الإشكال في إفادة الاضراب بالنفي عن فعله[7].
 
6- انّ المجاز من حيث الشأنية [8]
واما الوجه السادس فهو إن كلام إبراهيم (عليه السلام) يقصد به الشأنية في قبال الفعلية فان ظاهر (بل فعله..) وان كان هو الفعلية ولكن يصح أن يقصد به الشأنية تجوزاً بان يراد: لو كان هذا الصنم يعقل لكان من شأنه أن يفعل ذلك الفعل (تحطيم بقية الأصنام)، ويوضحه عرفا أن شخصا لو استجمع شرائط المرجعية من الاجتهاد والعدالة وغيرها واستجمع أيضاً كمالات المرجع من الحلم والرزانة والوعي وغيرها فانه يصح أن يشار إليه ويقال عنه: (انه مرجع تقليد) أي شأناً بمعنى انه من شأنه أن يكون كذلك لا انه بالفعل مرجع قد تصدى للمرجعية.
وكذلك الشاب عندما يكبر ويبلغ سن الزواج ويرونه جديراً ومهيأ للزواج فان أمه وأصدقاءه قد يعبرون عنه بـ(جاء العريس وذهب العريس وهكذا. ..) قاصدين جاء الذي من شأنه أن يكون عريساً ويمكن ان يقصد به المجاز بالمشارفة أو بالأول كما لا يخفى، وأما قرينة التجوز فهو ظاهر الحال من وضوح عدم إمكان كون الصنم هو الفاعل لذلك فعلاً، لكنه وجه بعيد عن المتفاهم العرفي ولا قرينة دالة عليه بخصوصه.
 
7- انّ التعليق في الشرطية رافع للكذب
وهذا الوجه مذكور في بعض الروايات وهو إن الجملة الشرطية (إن كانوا ينطقون) مرتبطة بالمقدم، أي هي قيد له، والمقدم هو بل فعله كبيرهم, ومن ثم فان جملة (اسألوهم) معترضة في الكلام، ومعه فيكون المقام تعليقاً لفعل التحطيم على النطق وحيث لا نطق فلا فعل.
والحاصل: إن هنا جملة شرطية اعترضتها جملة إنشائية هي (اسألوهم) وليست جملة ((بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)) جملة مستقلة بل هي تالي القضية الشرطية[9] وقد مضى تفصيل الكلام حول ذلك.
 
8- انّ المراد النفي للنفي لا الإثبات للإثبات:
إن المراد ليس عقد الإيجاب بل عقد السلب، فالمقصود من (بل فعله كبيرهم) هو انه حيث لا ينطقون فلم يفعله كبيرهم فليس المراد: فعل وقد نطقوا، بل المراد لم يفعل ولا ينطقون فهو من معاريض الكلام وقد سيق في مقام التبكيت, أو فقل انه كناية عن العدم للعدم لا الوجود للوجود. فتدبر
ويوضحه عرفا ما لو بنى مهندسٌ قدير عمارة شاهقة فسأله أحد العوام بنحو الاستفهام الاستنكاري فقال أأنت بنيت هذه العمارة؟ فأجابه المهندس لا، بل أنت من قام ببنائها !, فانه ليس مراده قطعا هو الإخبار الحقيقي عن انه – أي ذلك العامي – هو الذي هندس الدار، بل الكلام هو من باب دلالة التنبيه والايماء وهو انك لست الباني وإنني أنا المهندس الذي قام بذلك، فإن هذا هو المفهوم من هذه الجملة عرفاً.
وفي قضية إبراهيم( عليه السلام) من الواضح أن كبيرهم لم يقم بالتكسير لعدم نطق هذه الأحجار الصماء، فيكون المعنى كنائيا ومن باب المعاريض فحيث قالوا: (ءأنت فعلت هذا بالهتنا يا إبراهيم) أجاب: (بل فعله...) كناية عن انه (عليه السلام) هو الذي فعله إذ كيف تتوهمون غيره؟
 
9- انّ المراد من كبيرهم إبراهيم (عليه السلام )
واما الوجه التاسع فهو إن المراد من كبيرهم هو إبراهيم نفسه (عليه السلام) فان النبي (عليه السلام) هو سيد الكائنات ومنها تلك الأصنام وغيرها فقد عنى بـ(كبيرهم) نفسه، لا كبير الأصنام وقوله: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) يريد انهم – أي الأصنام – كانوا سيقولون لكم ذلك وانني فعلت بهم ذلك لو سألتموهم وكانوا ينطقون.
 
10- انّ كلام إبراهيم( عليه السلام) هو من باب الإلزام
واما الوجه العاشر فهو إن كلام إبراهيم( عليه السلام) كان من باب الإلزام للخصم بما التزم به في مقام المحاجّة والمناظرة لأولئك المشركين، أي انه (عليه السلام) قال ذلك كتفريعٍ لازمٍ للقوم على مبناهم وعلى اعتقادهم من إن كبير الأصنام هو إلـٰههم فلزمهم بان يقروا بأن القائم بالتكسير والتحطيم هو الصنم الأكبر وخاصة إن القدوم (الفأس) كان معلقا برقبته, ولو لم يكن الفاعل وكان الـٰهاً لما رضي أن يُعلق الفأس في رقبته ويُتهم بأنه كاسر الأصنام!
وبعبارة أخرى المراد: فعله كبيرهم فيما يلزمكم وبناء على معتقدكم بإلـٰهيته.
فبحسب الإلزام وفي دائرته فإن الكلام صحيح وهو جارٍ كثيرا في المحاورات العرفية
 
11- انّ كلامه (عليه السلام) استفهام استنكاري وليس إخباراً
واما الوجه الحادي عشر فهو انه قد يكون قول إبراهيم (عليه السلام) استفهاما استنكاريا وليس إخبارا، ومعناه ((بَلْ أفَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا))؟ وهو مستلزم للدلالة على إن إبراهيم (عليه السلام) هو الفاعل وان الصنم لا يمكن أن يكون الفاعل ولذا فليس بإلـــه, ثم انه (عليه السلام) قد أكد ذلك بوجه آخر وهو ((فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ))، ومعه فان إبراهيم (عليه السلام) قد عمل على إلفاتهم مرتين، هذا.
ولكن هذا الوجه – كأكثر الوجوه الأخرى - خلاف الظاهر، خاصة مع وجود كلمة (بل).
 
12- إن إبراهيم (عليه السلام) كان في مقام التعليم والتمثيل
واما الوجه الثاني عشر فهو إن إبراهيم (عليه السلام) كان في مقام التمثيل, ومقام التمثيل لا يصدق عليه (الكذب) فإن من الواضح ان من يقوم بتمثيل دورس ما أو حادثة ما يخرج بكلامه وإخباراته من فضاء الواقع إلى الفضاء المجازي فيكون الكلام مبنياً على قاعدة وأرضية أخرى، وذلك كما لو تقمص احدهم دور سلمان المحمدي او أبي ذر أو حجر بن عدي في مسرحية ما فتكلم بكلام ليس هو مصداقه كما لو تحدث عن احدى أفعاله وإنجازاته – أي أفعال سلمان – في الدفاع عن الإسلام وأهله أو عن احدى حواراته مع الرسول (صلى الله عليه وآله) أو وصف نفسه بإحدى صفاته الثابتة تاريخياً، فانه في حال التمثيل لا يقال له: لِمَ كذبت في قولتك وحديثك! ذلك إن القرينة العامة المقامية موجودة وهو صدور الكلام التخيلي والتصوري في عالم الافتراض التمثيلي عن الشخص الممثل له وليس عن الممثل نفسه، وذلك قريب الشبه إلى الحقيقة الادعائية التي ذكرها السكاكي.
 -----------------------------------------------
 
 
* مقتطف من كتاب: رسالة في التورية، يراجع الدرس 204 من سلسلة دروس في المكاسب المحرمة

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2495
  • تاريخ إضافة الموضوع : 1 جمادى الأولى 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18