بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(163)
4- الحق حكمٌ فكيف يجعل ثمناً في البيع؟
رابعاً: وقد ذهب في التنقيح إلى عدم صحة وقوع الحقوق عوضاً في البيع بوجه آخر وهو انها:
إما ما لا يقبل النقل وإن قبل الإسقاط بل حتى الانتقال بإرث ونحوه وذلك مثل حق الشفعة وحق الخيار، فلا يصح جعلها عوضاً لأن البيع تمليكٌ ونقلٌ من الطرفين والمفروض أن هذا الحق لا يقبل النقل فلا يصح وقوعه ثمناً قهراً.
وستأتي المناقشة في ذلك تبعاً لبعض الأعاظم.
وإما ما يقبل النقل والانتقال كحق التحجير فقال عنه: (فإنّه يصحّ نقله ومقابلته بالمال في الصلح، إلاّ أنّه ([1]) استشكل (قدّس سرّه) في جواز جعله ثمناً في البيع من جهة أخذ المال في عوضي البيع والحقّ ليس بمال.
وفيه: أنّه لا إشكال في كون مثل هذا الحقّ مالاً، لأنّه ممّا يرغب فيه العقلاء ويبذلون بازائه المال فلا إشكال في جعله ثمناً من هذه الجهة) ([2]).
وقد سبق أن ناقشنا كلام الشيخ مفصلاً فلا نعيد، كما سبقت منا مناقشة كلام الاصفهاني الذي تبناه الآن السيد الخوئي من (لأنّه ممّا يرغب فيه العقلاء ويبذلون بازائه المال) إذ أوضحنا أن ذلك أعم من كون الشيء مالاً فراجع.
ثم قال: (فلا إشكال في جعله ثمناً من هذه الجهة. نعم لا يجوز ذلك من جهة اُخرى وهي أنّ الحقّ إمّا سلطنة ضعيفة كما هو المشهور أو حكم شرعي كما هو المختار:
فعلى الأوّل لا يجوز جعله ثمناً من جهة أنّ البيع مبادلة بين المالين في الاضافة أو في الملكية، فهو مبادلة بين متعلّقي الاضافة والسلطنة لا بين نفس الاضافة والسلطنة، وعلى الثاني أعني كون الحقّ حكماً شرعياً فلأنّ الحكم الشرعي بأقسامه لا تكون له إضافة مالية أو ملكية إلى من يقوم به الحكم حتّى يقع التبديل فيها ويتحقّق البيع) ([3]).
المناقشات
ولكن يرد عليه:
1- متعلَّق الحق هو الثمن وليس الحق والعُلقة نفسها
أما قوله: (فعلى الأوّل لا يجوز جعله ثمناً من جهة أنّ البيع مبادلة بين المالين في الاضافة أو في الملكية، فهو مبادلة بين متعلّقي الاضافة والسلطنة لا بين نفس الاضافة والسلطنة) ففيه ما سبق مفصلاً من أنه وإن قلنا بأن الحق سلطنة إلا أن الذي يقع ثمناً هو متعلَّقُه وهو المحقوق لا الحق نفسه أي أنه يدفع الأرض المحجّرة (وهي متعلق الحق) ثمناً مقابل السيارة أو الدار التي اشتراها منه؛ فان هذا هو المعهود عرفاً والمتداول بل ان جعل الحق بنفسه ثمناً نادر بل لعله لا يوجد من يفعل ذلك، هذا صغرى، وأما كبرىً فقد مضى النقاش في دعوى عدم صحة جعل العُلقتين عوضاً في المعاملة وأنه كما يصح جعل المتعلَّقين مثمناً وثمناً في البيع يصح أيضاً جعل العلقتين فراجع ما مضى فإن كلام التنقيح هو نفس كلام الميرزا النائيني وقد ناقشناه مفصلاً بوجوه عديدة.
2- تناقض كلاميه: حقُ التحجير حكمٌ، ولا إشكال في انه مال
وأما قوله: (وعلى الثاني أعني كون الحقّ حكماً شرعياً فلأنّ الحكم الشرعي بأقسامه لا تكون له إضافة مالية أو ملكية إلى من يقوم به الحكم حتّى يقع التبديل فيها ويتحقّق البيع) فيرد عليه:
أولاً: أنه مناقض لما سبق منه قبل أسطر فانه قد أشكل على الشيخ بـ(وفيه: أنّه لا إشكال في كون مثل هذا الحقّ مالاً، لأنّه ممّا يرغب فيه العقلاء ويبذلون بازائه المال فلا إشكال في جعله ثمناً من هذه الجهة) فكيف يجتمع تصريحه بأنه لا إشكال في كون مثل هذا الحق (أي حق التحجير الذي ذكره صريحاً قبل ذلك) مالاً، مع قوله بأن هذا الحق حكمٌ شرعي والحكم الشرعي بأقسامه لا تكون له إضافة مالية أو ملكية إلى المكلف؟
لا يقال: إشكاله على الشيخ إنما هو على مبنى الشيخ.
إذ يقال: بل ظاهره بل صريحه انه مما يتبناه هو.
منشأ الوقوع في التناقض: الارتكاز والصناعة
والذي يخطر بالبال في وجه التناقض ان قوله (لا إشكال في كون هذا الحق مالاً) إنما انبعث فيه عن الارتكاز القطعي العقلائي – وهو الصحيح – وقوله (الحق حكمٌ ككبرىً ومنه حق التحجير كصغرى) ([4]) إنما ساقته إليه الصناعة والشبهة التي علقت بباله (والتي ذكرناها فيما مضى وأجبنا عنها مفصلاً) وقد غفل قدس سره عن تناقض ارتكازه الذي صرح به ومقتضى صناعته التي آمن بها! وذلك من مصاديق (كأنهم قد نسوا في الفقه ما أسسوه في الأصول). وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
قال الإمام زين العابدين (عليهم السلام): "إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.
أَلَا وَكُونُوا مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ.
أَلَا إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَالتُّرَابَ فِرَاشاً وَالْمَاءَ طِيباً وَقُرِّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْرِيضا..."
الكافي: ج2 ص131.
.................................................
|