• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 189- مباحث الاصول : (مبحث العام) (2) .

189- مباحث الاصول : (مبحث العام) (2)

الفائدة  الثامنة: أن حذف المتعلق يفيد العموم.
بحث تطبيقي :
وقوله (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا)[1] ، فاللام في (لله) للغاية فالمأمور به هو القوامية بكل أمر خير وبكل معروف لأجل الله ، لا خصوص القوامية في الشهادة ؛ لكون حذف المتعلق مفيداً للعموم؛ والجملة اللاحقة من باب ذكر الخاص بعد العام ، والوالي العادل قائم بالخير والمعروف لله[2].
بحث تطبيقي آخر:
هل يجب على المكلف - في كافة العبادات حتى المستحبات منها، وفي المعاملات بالمعنى الأعم ، وفي العاديات ، والمكروهات والمباحات - أن يكون إما مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً؟
قد يقال: إن هذا الكلام على إطلاقه صحيح؛  للعمومات والإطلاقات ؛ كقوله تعالى: ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ )(1) والدين أعم ؛ وكقوله (عليه السلام): (أجلس في المسجد وأفتِ الناس) (2) والفتوى عامة لكل ما هو محل الابتلاء ؛ وكقوله (عليه السلام)  (فللعوام أن يقلدوه) (3) والتقليد عام ؛ لأن حذف المتعلق يفيد العموم ، فهل هذا الاستدلال تام؟[3].
بحث تطبيقي ثالث:
في قوله تعالى:( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )[4] فإن الظاهر أن (أل) في (الدين) هو للاستغراق لا للجنس ؛ إذ لا يراد ليتفقهوا في طبيعة الدين أو جنسه بل مسائله؛ إذ المبتلى به عادة هو المسائل لا الطبيعة؛ كما أن ذلك هو ظاهر الإنذار والحذر؛ فإنهما عن مخالفة آحاد الأوامر واقتحام آحاد المعاصي لا عن مخالفة الدين كطبيعة وجنس، عكس (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[5] الظاهر في أن طبيعة الحمد وجنسه يليق بالباري جل اسمه ، لا آحاد الحمد وكافة مصاديقه ؛ فإن العالم والأب والإمام يستحق بعضها كما لا يخفى ، فتأمل.
ثم إن (أل) في الآية الكريمة لو كانت للعهد الحضوري أو الذهني ؛ لكان مرجعها الى الاستغراق كما لا يخفى على المتدبر[6] [7].

الفائدة  التاسعة: إن أدوات الجمع مثل(كل) تفيد العموم بلحاظ المدخول؛ فإن كان واسعاً أفادت السعة، وإن كان ضيقاً أفادت الضيق.
لبعض الأعلام[8] بحث لطيف في كلمة (كل) وأشباهها من أدوات الجمع، إذ يقول ـ ما مضمونه ـ: إن (كل) تفيد العموم لكن بلحاظ المدخول، فلو كان المدخول واسعاً لأفادت السعة بحسبه، ولو كان المدخول ضيقاً لأفادت الضيق بحسبه بالتبع أيضاً، وهذا وذاك لا يلزم منه تعدد معنى كل؛ فإنها قد وضعت لتفيد العموم بلحاظ المتعلق، ومفهومها ثابت على كل حال ولم يتغير في الحالتين[9].

الفائدة  العاشرة : أن القضية المهملة لا تفيد العموم لأنها  بحكم الجزئية ، فيكون الاستدلال بمضمونها من قبيل التمسك بالعام  في الشبهة المصداقية.
بحث تطبيقي:
روى في الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن  الرضا (عليه السلام)  قال: ((إن رسول الله (صلى الله عليه واله) كان إذا أصبح قال لأصحابه: هل من مبشرات؟ يعني به الرؤيا))[10]  وهذه الرواية كما يقول صاحب القوانين صحيحة[11]، وكما صرح به المجلسي أيضاً في مرآة العقول[12]، وكما يشهد به تتبع رجالها[13].
فهل تصلح أن تكون هذه الرواية دليلاً على حجية الرؤية؟
الجواب:
وهناك عدة أجوبة[14] نقتصر على جوابين :
الجواب الأول: إنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ؛ إذ لا شك في وجود المبشرات ككبرى كلية إجمالاً،و لكن نقول: إن وجود المبشرات ككبرى كلية لا يقتضي كون هذه الرؤيا المصداقية من المبشرات، وإلا لكان من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
والحاصل: إنه نسلم وجود المبشرات لكن الأحلام على ثلاثة أقسام:
منها: مبشرات.
ومنها: محذِّرات أو مخوفات.
ومنها: فتن وامتحانات.
و لكن البحث عن المصاديق, وإن هذه الرؤيا التي رآها هذا الشخص هل هي من المبشرات[15]؟
بل هل هي رؤيا صادقة مبشرة، أو هي من أضغاث الأحلام كما في روايات أخرى،  أو هي من حديث النفس؟ فإن الإنسان أحياناً يحدث نفسه بالفتح العلمي أو العملي، فيرى في المنام الفتح أو ما يعبره بالفتح[16], لكن من قال: إن ما رآه واستبشر به لم يكن من حديث النفس، بل كان من المبشرات، ومما قذفه الله في قلبه وألهمه إياه[17]، فالتمسك بهذه الكبرى لإثبات الصغريات إنما هو تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلا وجه للتمسك بهذه الرواية لإثبات الصغريات، كما هو ظاهر كلام القوانين؛ إذ إنه يريد التمسك بالرواية لإثبات الصغريات، لأن الكلام عن الاعتماد، والاعتماد ليس على الكبرى الكلية، فذاك الإيمان بها بأن نؤمن بأن هناك مبشرات من الرؤى، إنما كلامه في الاعتماد ، بأن نعتمد على هذه الرؤيا وتلك ، فيقول: لا يمكن أن لا نقول بالاعتماد لوجود هذه الرواية[18]؛ فنقول: الرواية كبرى كلية، ونقاشنا في الصغريات الجزئية في محور الاعتماد عليها وعدمه، وهو المحور الذي يدور البحث حوله[19].
الجواب الثاني: أن الرواية بحكم الجزئية ، حيث إن القضية المذكورة في الرواية قضية مهملة، والمهملة في حكم الجزئية، فلا يمكن الاستدلال بها؛ إذ لم تذكر الرواية كبرى كلية يستند إليها في انطباقها على مصاديقها، وإرجاع مصاديقها إليها، بل ذكرت قضية مهملة.
توضيحه: إن الرسولصلى الله عليه واله  سأل: (هل من مبشرات) ولا يتوفر هذا على أدوات العموم ولا الإطلاق، فهي قضية مهملة، وإذا كان يراد لهذه القضية أن تكون كلية فكان ينبغي أن يقال (المبشرات حجة) أو (المبشرات يعتمد عليها)، أو يقال (الأحلام مبشرات) أو ما أشبه، أي: أن تستخدم إحدى أدوات العموم أو الإطلاق، أما ما في الرواية فقضية مهملة صرفة.
توضيح ذلك بالمثال: إنه تارة يقول الشارع (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)[20] فالبيع مفرد محلى بال يفيد العموم، لكن لو لم يقل ذلك، بل قال: (هل من بيع) فإنه سؤال عن تحقق بيع ما أو تحقيقه[21]، وهذا لا يكشف عن إعطائه الشرعية لكلي البيوع، ولا يتضمن تحديد ضوابط ومقاييس وملاكات الحلية أو الحرمة، والأمر في (هل من مبشرات) كذلك؛ إذ لا إطلاق وإنما هي قضية مهملة، فلا تنفع في تثبيت الكبرى الكلية.
مثال آخر لو قال: هل من جواب؟ فإن ذلك لا يدل على أن القائل يرى حجية كل جواب سيقال[22].

الفائدة الحادية عشر: إذا تعارض العام والمطلق فالمشهور تقديم العام ،  لأنه أقوى دلالة.
لو تعارض العام والمطلق  فالمشهور تقديم العام على المطلق [23] ؛ لأنه أقوى دلالة من المطلق فيقدم ؛ إذ أن العام دلالة العام  بالوضع  والمطلق دلالته بمقدمات الحكمة ؛ وهذا أول رأيي الآخوند في مباحث الألفاظ من الكفاية [24] ، و لكن هناك رأياً  آخر له صار إليه في آخر الكفاية في مبحث التعادل والترجيح : حيث إنه لم يرجح العام على المطلق بقول مطلق  ؛بل أرجع الأمر إلى الاستظهار العرفي ؛ فقد يقدم العام وقد يقدم المطلق  فيما لو تعارض العام والمطلق [25] ؛ وعلى هذا فهو لم يصل إلى رأي مبنائي ولا ضابطة نوعية ولا قاعدة قانونية اسمها العموم في قبال المطلق [26] .

--------------
[1] سورة المائدة: 8.
[2] شورى الفقهاء: ص 359.
[3] الاجتهاد والتقليد: ص 147.
[4]  سورة التوبة: 122 .
[5] سورة الفاتحة :2.
[6] إذ الدين المعهود في الخارج هو: الصلاة والصوم والزكاة ...وغيرها ، أي : هو آحاد مسائله ومفرداته ومصاديقه ، وليس هو جنس الدين ، أو طبيعته.
[7] التبعيض: ص113.
[8] انظر: كفاية الأصول: 217 حيث يقول: «ربما عد من الألفاظ الدالة على العموم، النكرة في سياق النفي أو النهي ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً...... فإنها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليها، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ كل على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة».
وقال في عناية الأصول2: 233: «إن لفظ (كل) و(جميع)  أو( لام الاستغراق ) أو(  النفي ) أو ( النهي) لا يكون عاماً وإنما هو أداة العموم، والعام إنما هو مدخول هذه الأمور».

[9] فقه الرشوة: ص 230.
[10] الكافي ج 8ص 90 .
[11] انظر: قوانين الأصول: ص 496.
[12] انظر: مرآة العقول : ج25ص 204.
[13] وهم (محمد بن يحيى العطار) ثقة دون شك، قال النجاشي: ((شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة, عين, كثير الحديث...)) وهو شيخ الكليني و(أحمد بن محمد) وهو مشترك بين جماعة، والمراد به هنا هو أحمد بن محمد بن عيسى الثقة بدون كلام،و عرف أنه هو برواية محمد بن يحيى العطار عنه فراجع مشتركات الكاظمي، وهم أربعة كلهم ثقات (أي الأكثر دوراناً) وأما (معمر بن خلاد) فهو ثقة كما قال النجاشي. انظر: رجال النجاشي: 353.
[14] فقد ذكر (دام ظله)  لدفع هذا الاستدلال عشرة أجوبة في كتاب فقه الروى : ص130.
[15] إذ لعلها من المحذرات، فإن كثيراً ما تفسر بخلاف ظاهرها، بل على النقيض منه مما ملأ كتب تفاسير الأحلام فراجع، وقد سبق بعضها.
[16] فقد يكون الإنسان نائماً فيرشون عليه عطراً لطيفاً فقد يرى في منامه وروداً عطرة ورياضاً نظرة، فمن أين يثبت أن هذه الرؤيا مبشرة، ولم تكن من تأثير الخارج؟ فلنفرض أنه استبشر بها فهل الاستبشار ملاك الحجية؟ وكلامنا في الضوابط النوعية، وأن استبشاره ليس ملاك المطابقة للواقع؛ إذ إنه غير محيط بالواقع.         
وبتعبير آخر: الاستبشار حالة نفسية لكنها لا تكشف عن الواقع الخارجي، فلا دلالة لها على ما فيه، وبتعبير آخر: إنما مصداق التفأل (تفألوا بالخير تجدوه) والتفأل ليس ملاك المطابقة ، فتأمل؛ إذ ليس الكلام عن الحالة النفسية والاستبشار أو التفأل، بل عن سببها وهو الأحلام, فتأمل.
وهنا جواب آخر  عن صاحب القوانين: وهو إن النبيصلى الله عليه واله  هو الذي سأل هل من مبشرات وهو الحكم وهو المرجِع، لكن صاحب القوانين يمكن أن يجيب بالروايات الأخرى. نعم، هذه الرواية لا يحتج بها بلحاظ هذا الإشكال وهو صحيح، لكن الروايات الأخرى مطلقة ومعممة، فلابد من جواب آخر عنها؛ إذ نقول: إن الرؤيا على أقسام ثلاثة: منها: المبشرات ولم  يشترط فيها حضور النبي أو الإيمان، فقد لا يكون مؤمناً ويبشر في المنام بأنه سوف يرزق ذرية، أو يحصل على أموال، والأجوبة الأربعة في المتن كفيلة بالإجابة عن ذلك.

[17] بل هناك عامل رابع هو المحيط والبيئة، فإنه لا شك في تأثير البيئة ومؤثراتها في صناعة الأحلام أو تحويل اتجاهها.
[18] ويؤكد أن كلامه عن الصغريات :1 ـ إن مورد بحثه هو عن حجية رؤيا النبي (صلى الله عليه واله) في المنام؛ لأن الشيطان لا يتمثل به.2 ـ  ونناقشه برؤيا المفيد لفاطمة(عليها السلام) وبيدها الحسنين (عليهما السلام) ،وإنها كانت والدة السيدين الرضي والمرتضى.3 ـ وقوله (مع إن ترك الاعتماد ....مشكل سيما إذا حصل الظن بصحته ) وقوله: (خصوصاً لمن كان أغلب رؤياه صادقة) فتأمل. انظر: قوانين الأصول: ص 496 .
[19] فقه الروى : ص130.
[20] سورة البقرة: 275.
[21] والأول استفهام عن تحققه سابقاً، والثاني طلب تعريضي بإنشاء بيع.
[22] فقه الروى: ص137.
[23] انظر: مصباح الأصول: ج3 ص 377 .
[24]كفاية الأصول : ص 237  ، وهذا نص كلامه ( قدس سره) :  وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام ، يحتمل أن يكون العام ناسخا له ، وإن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصصا ، كثرة التخصيص ، حتى اشتهر :ما من عام إلا وقد خص ، مع قلة النسخ في الاحكام جدا ، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام - ولو كان بالإطلاق - أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع ، كما لا يخفى ، هذا فيما علم تاريخهما ، وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية .
[25]كفاية الأصول : ص 451 ،  وهذا نص كلامه  (قدس سره) : إن غلبة التخصيص إنما توجب أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المكتنفة بالكلام ، وإلا فهي وإن كانت مفيدة للظن بالتخصيص ، إلا أنها غير موجبة لها ، كما لا يخفى .
[26] الاجتهاد والتقليد:ص460.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2751
  • تاريخ إضافة الموضوع : ١٢ ذي القعدة ١٤٣٨هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19