• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 195- مباحث الاصول - (الوضع) (2) .

195- مباحث الاصول - (الوضع) (2)

مباحث الأصول: الوضع (فوائد الوضع)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين

الفائدة الثانية: إن الوضع الخاص والموضوع له الخاص ليس هو أقدم أقسام الوضع ؛لأن الواضع  إن كان هو الله تعالى فلا يكون  لهذا الرأي معنى؛ وإن كان الواضع هو المخلوق فهو إما أن يكون جاهلاً أو حكيماً ؛ فإن كان الأول فلا يقتصر أدراكه إلا  على الماديات المحسوسة، وإن كان الثاني فهو يدرك كثيراً من الكليات والمعنويات أيضاً.
قال أحدهم إن أقدم أقسام الوضع هو الوضع الخاص والموضوع له الخاص[1] ؛ لأن الباعث لإبراز ما في الضمير هو مشاهدة الأمور الجزئية[2].
والظاهر أن هذا الأصولي قد تصور أن ما جرى في بدء الخليقة [3] هو أن الوضع كان أولاً للأمور الجزئية المادية؛ لأن الإنسان في بدء حياته لم تكن له علاقة بالكتب الفلسفية أو الرياضية أو غيرها، وإنما كان شغله ومدار حركته هي الجزئيات المختلفة التي تواجه في مراحل صيده وأكله وشربه، أو حركته في الغابة أو سكونه.
ومثاله: أنه لو شاهد تفاحة تسقط أمامه فإنه سيضع لها لفظاً خاصاً، فالمعنى المتصور عنده خاص[4]، كما أن الموضوع له خاص، وهكذا بقية مشاهداته للأشياء.
ولكن هذا الكلام وهذا التصور من هذا الأصولي في غاية الضعف لجهتين:
الجهة الأولى: إن كلامه مبني على أن الواضع هو غير الله تعالى، وأمّا بناءً على أن الواضع هو الله تعالى استناداً إلى قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾[5] وغيره، فإن كلامه لا محل له من الإعراب.
ثمّ إنّه حتى لو قلنا إن الواضع هو غير الله تعالى فهناك رأي ومبنى آخر وهو بأن الواضع هو أحد الحكماء[6]، أو مجموعة من الحكماء، والحكيم ليس كالجاهل الصرف، ممن لا يدرك إلا الماديات المحسوسة بالحواس الخمس.
الجهة الثانية [7]: حتى لو قلنا: إن الواضع ليس هو الله تعالى وليس الحكماء، وإنما هم الناس العاديون[8] من القرون ما قبل التاريخ[9] فإن كلام ذلك الأصولي ليس بصحيح؛ فإنه حتى الجاهل يدرك كثيراً من الكليات والمعنويات، ويشهد لذلك التتبع والتجربة.
بل نقول: إنّ الإنسان مركب من حواس ظاهرة يدرك بها الجزئيات المادية، ومن حواس باطنة يدرك بها المعاني الجزئية ، وقد ركب فيه العقل[10] الذي يدرك الكليات أيضاً، وعليه فكيف يدعى بأن الأقدم هو الوضع للخاص والموضوع له الخاص في خصوص دائرة مدركات الحواس .
وعلى كل حال فإن الباعث للبوح بما في الضمير وللإعراب عنه بوضع مفردات اللغة لا يخلو من أحوال ثلاثة؛ وهي : إما مشاهدة الأمور الجزئية المادية مما يدرك بالبصر ونظائره ،وإمّا البوح بما تدركه البصيرة من المعاني الجزئية كالحب والبغض[11]؛ لضرورة وجود العقل في الإنسان ، و أمّا الحيوان فغاية الأمر أنه يدرك المعاني الجزئية فحسب.
ثم إن كلام هذا الأصولي يصب في مصب ما توهمه بعض الحداثويين[12] في الإنسان البدائي الأول، وأقاموا عليه أدلة لا ترتقي حتى إلى مستوى المؤيدات [13]، تبتني على إنكار كون أول الخلق هو الإنسان العاقل الكامل؛ إذ كان الخليفة آدم النبي وأبناؤه ومنهم تشعب البشر.
والحاصل: أن القول بأقدمية الوضع للجزئيات المشاهَدة لا وجه له إطلاقاً مبنى وبناءً[14].

---------------
[1] لأن الوضع كما هو معروف على أربعة أقسام: الوضع الخاص والموضوع له الخاص، كما في لأعلام الشخصية، والوضع العام والموضوع له العام، كما في أسماء الأجناس، الوضع الخاص والموضوع له العام،  والذي رأى صاحب الكفاية عدم صحته؛ إذ الخاص لا يكون مرآة للعام، الوضع العام والموضوع له خاص ، كما في أسماء الإشارة.
[2] المحصول في علم الأصول1: 52.
[3] وكذا ما يجري لكل واضع.
[4] أي: الوضع خاص.
[5] البقرة: 31.
[6] وهو يعرب بن قحطان كما قالوا. انظر: أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 604.
[7] وهذا جواب تنزلي.
[8] بل حتى الجهلة.
[9] ولكن كيف لأولئك الجهلة أن يضعوا اللغة بذلك الجمال والكمال وبتلك القواعد المتكاملة نحوياً وصرفياً؟.
[10] لبداهة تركيب العقل حتى في القروي والبدوي والطفل الرضيع.
[11] أي: هذا الحب الخاص، أي: حب هذه الأم لهذه الأبنة، أي: المصداق الخارجي، وأما مفهوم الحب فهو كلي من القسم الثالث.
[12] وهم المعتقدون بالحداثة التي هي في أصلها ونشأتها مذهب فكري غربي ولد ونشأ في الغرب، ثم انتقل إلى بلاد المسلمين، وأبرز عقائد الحداثيين - أي الكثير منهم- : التشكيك في العقائد والسخرية منها، ومحاربة دين الله والاستهزاء بالإسلام كدين، وانتهاك المقدسات والدعوة للانحلال الجنسي، ورفض كل قديم وكل حاضر. إن القاسم المشترك بين الحداثيين هو التمرد والانحراف عن دين الله، والرفض لشريعته.
جاء في بعض الكتب في هذا الحقل: إن النجاح الذي أحرزته طرق البحث العلمي في آفاق الكون، شجع العلماء على دراسة طبيعة السلوك الفردي والجماعي، وعلى دراسة الإنسان نفسه، والوجود الفني والحضاري، مستخدمين القوانين العلمية العامة للعالم المادي في دراساتهم الجديدة هذه، فظهر داروين بنظرياته في النشوء والارتقاء، حيث يهبط بهذه النظريات هبوطاً شديداً بالإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى وفضله على كثير من خلقه تفضيلا<. فبنظرية التطور التي طرحها داروين يكون الإنسان موجوداً متطوراً من (القرد)، ولداروين كتاب اسمه :أصل الأنواع ونظرية التطور.
وقد اختلفت آراء النقاد في تحديد تاريخ نشوء الحداثة، فرأى بعضهم أنها بدأت مع عام 1830م في باريس، ورأى بعضهم أنها ابتدأت مع (إميل زولا) في كتابه  (الرواية التجريبية  سنة 1880) وبعضهم يعتبر مؤسسها بودلير أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

[13] فهي فرضية وليست حتى نظرية.
[14] فقه الرشوة : ص 63.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2769
  • تاريخ إضافة الموضوع : 3 ذي الحجه 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28