بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام في الوجوبات الأربع للاجتهاد والتقليد والاحتياط ووصل الكلام إلى الوجوب العقلائي، وبعد اتضاح أن المشهورات بالمعنى الأخص مما لها واقع وراء تطابق الآراء عليها، ينبغي البحث عن ما هو ملاك الوجوب العقلائي؟
نقد تعريف المحقق الاصفهاني
المحقق الأصفهاني عرف الأحكام العقلائية بـ: (القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظاً للنظام أو إبقاءً للنوع كحسن العدل وقبح الظلم والعدوان).
لكن هذا تعريف بالأخص، من جهات ثلاثة، وذلك:
لأن الأحكام العقلائية هي أعم مما تطابقت عليها آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، أما أولاً فلكونهما مندرجين تحت عنوانين كليين كان ينبغي أن يجعلا هما المدار والحفظ والإبقاء مصداقان أو نوعان لهما، والعنوانان هما جلب المنفعة أو دفع المفسدة، وعنوانا حفظ النظام وإبقاء النوع عائدان لأحدهما لأن العقلاء لا يحكمون بحفظ النظام لموضوعية فيه بل إما جلباً للمنفعة أو دفعاً لمفسدة وإبقاء النوع هو جلب منفعة ودفع مفسدة كذلك، وأما ثانياً فلأن التخصيص حتى بجلب منفعة أو دفع مفسدة لا وجه له لأنه -أي ما تطابقت عليه آراء العقلاء- قد يكون شكراً للنعمة أو نظراً للاستحقاق.
والحاصل: إن المشهورات بالمعنى الأخص هي ما تطابقت عليها الآراء، إما لأجل جلب منفعة أو دفع مفسدة أو شكر نعمة أو الاستحقاق، فمثلاً إكرام المعلم مما حكم به العقلاء وتطابقت عليه آراؤهم من باب شكر النعمة لا لصرف جلب المنفعة أو دفع المفسدة وكذلك عبادة المولى واطاعته واكرام الوالدين فهما إما شكراً للنعمة أو الاستحقاق، على سبيل منع الخلو، وإن تضمنا أيضاً جلب المنفعة ودفع المفسدة.
فهذه العناوين الأربعة هي التي تقع وراء المشهورات، وليس فقط ما ذكره من نوعي العنوانين الأولين.
وأما ثالثاً: فلأن ما تصادقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام أو النوع مما تسمى بالتأديبات الصلاحية هي كما قال أحكام عقلائية، لكنها لا تنحصر بها، إذ تشمل أيضاً القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء مما تقتضيه السجية "أي الطبع وخلق الانسان " كحسن الكرم والشجاعة وما أشبه فهذه أيضاً أحكام عقلائية لا دافع لها، لكن حسب تعريف الاصفهاني يخرجها عن دائرة الأحكام العقلائية ومع أن الحق دخولها وكما تشمل الأحكام العقلائية القسم الثالث وهو الانفعاليات وهو ما اقتضته العاطفة كالحياء والغيرة والحمية والأنفة، فهذه أيضاً أحكام عقلائية ولكن التعريف لا يشملها.
موطن حكم العقلاء وموطن حكم العقل
والسؤال الآن هو: ما هي دائرة الأحكام العقلائية؟ وأين هو موضع حكمهم؟ وما هو الفارق بين حكم العقل والأحكام العقلائية؟ لأن الظاهر أن حكم العقلاء هو حكم للعقل فكيف يكون قسيماً له؟
والجواب: إن دائرة الأحكام العقلائية هي الدائرة اللاحقة للأحكام العقلية، أي الدائرة النازلة رتبة عن رتبة الأحكام العقلية، وبتعبير أدق: موطن الأحكام العقلائية هو التطبيق أي موطنها هو الصغريات لأن العقل لا يحكم في الجزئيات بل يحكم على الكليات، فتطبيق هذا الحكم الكلي على المصداق هو شأن العقلاء وليس شأن العقل، وكمثال فإن من الكليات حسن ووجوب دفع المضرة البالغة وشكر النعمة الجسيمة وجلب المنفعة البالغة وكذا الإتيان بفعل على حسب ما يقتضيه الاستحقاق الذاتي، فهذه مما يحكم بها العقل لكن تطبيق هذه الكليات على المصاديق هو شأن العقلاء.
وبعبارة أخرى: كلما حكم العقلاء فيما هو نوع أو صنف أو فرد موضوع حكم العقل، سمي حكماً عقلائياً
فموضوع أحكام العقل كالجنس لموضوع حكم العقلاء، وتطبيقها ـ أي الأحكام ـ على الأنواع ثم على الأصناف ثم على الأفراد هي دائرة حكم العقلاء، وعلى هذا فإن العقل لا يحكم بلزوم حفظ النظام بما هو هو، بل يحكم بلزوم دفع الضرر البالغ وجلب المنفعة البالغة، إنما العقلاء هم الذين يطبقون هذه الكبرى الكلية على هذا الصنف أو هذا النوع فيقولون حفظ النظام واجب لكونه صنفاً أو نوعاً لتلك الكبرى العقلية الكلية.
وبتعبير أدق: العقلاء لا يوجبون حفظ النظام بذاته وإنما لانطباق عنوان موضوع حكم العقل عليه، ولذا لو فرضنا عدم انطباق تلك الكبرى العقلية عليه فلا حكم للعقلاء حينئذ بالوجوب، بل قد يحكمون بالعكس كما لو رأى العقلاء أن حفظ النظام فيه مضرة بالغة كما فعل الإمام الحسين عليه السلام بالثورة على يزيد فإنه إذا كان نظاماً طاغوتياً (يدع فيئكم زهيداً وزرعكم حصيداً) و(يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان) ، فقد انسلخ عن كونه مصداقاً لتلك الكبرى الكلية، ومن ذلك يظهر أن أحكام العقلاء قد تنسلخ عن موضوعاتها وقد لا تنسلخ، أما الأحكام العقلية الكلية (دفع الضرر البالغ وشكر النعمة وجلب المنفعة الجسيمة والاستحقاق) فلا يمكن انسلاخها عن موضوعاتها، وهذا فرق جوهري بين الحكم العقلي والأحكام العقلائية.
سؤال: هل للعقلاء خارج دائرة التطبيقات حكم أم لا؟
والجواب: الظاهر إن دورهم خارج دائرة التطبيقات هو دور الكاشف لا الحاكم (أي الكشف عن الأحكام العقلية عند الشك) وهذا نظير بحث الإجماع فإن الاجماع حجة لا بما هو هو بل هو حجة باعتبار كونه كاشفاً عن الكتاب والسنة.
اللهم إلا أن يقال -استدراكاً على القول بأن دور العقلاء صرف الكشف إذا حكموا في الأحكام العقلية-: إن المراد بالعقلاء ليس الآحاد المنظمة لبعضها إلى بعض فقط ليقال إن مرجع حكمهم إلى الكشف عن حكم العقل في خارج دائرة التطبيقات، بل المراد بالعقلاء من احتوى على العقل بضميمة مثل التجربة والخبرة وحينئذ قد يقال إن لهم بهذا اللحاظ الحكم لا الكشف فقط، فتأمل.
هل الوجوب التخييري، حكم عقلائي؟
وبناء على ما سبق فهل الوجوب التخييري لأحد الثلاثة "الاجتهاد والتقليد والاحتياط" مصداق من مصاديق حكم العقلاء أم لا؟
والجواب: الظاهر إن الضابط الذي ذكرناه من (التطبيق) منطبق، لكن تحقيق الكلام يتوقف على مبحث مبنائي في وجوب التعلم وأنه نفسي أو مقدمي؟ فإذا قلنا بأن وجوب التعلم نفسي فحينئذ تكون الثلاثة مصداقاً من مصاديق حكم العقلاء لأن العقل يحكم بوجوب جلب المنفعة ومعرفة أحكام المولى المحيط بالمصالح والمفاسد ومن بيده العقوبة والمثوبة، بناء على الوجوب النفسي، ذات مصلحة ذاتية، فهي من مصاديق جلب المنفعة بذاتها، كما أنها في الوقت نفسه مقدمة لجلب منفعة المتعلَّق فعلى القول بالوجوب النفسي يكون المقام تطبيقاً للكبرى الكلية على مصاديقها، وأما إذا لم نقل بالوجوب النفسي بل قلنا بالطريقية أو بالمقدمية فلا يكون الأمر من باب التطبيق بل من باب الاستلزام والمقدمية المحضة لكونها "الاجتهاد والتقليد والاحتياط" مقدمة لتحقق بعض أو كل الملاكات الأربع، نعم حيث يحكم العقل بوجوب مقدمة الواجب، وكانت هذه الثلاثة مقدمة، فحكم العقلاء بوجوبها يكون من باب التطبيق والانطباق.
وعلى هذا فلو جردت هذه العناوين "الاجتهاد والتقليد والاحتياط" عن كونها مصاديق لتلك الأربع "جلب النعمة ودفع المضرة وشكر النعمة والاستحقاق" وجردت عن كونها طرقاً أو مقدمات لها، لما حكم العقلاء بالوجوب، والحاصل: إننا بالبرهان الإني ننتقل من سلب اللازم ونفيه إلى سلب الملزوم ونفيه، إذ رأينا أن العقلاء لا يحكمون على هذه الثلاثة بالوجوب كلما لم تقع هذه الثلاثة مقدمة ولا طريقاً ولا كانت مصاديق من باب الانطباق، بل قد يحكمون عليها بنقيض ذلك، وللحديث صلة تأتي إن شاء الله تعالى وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. |