بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام في مقدمية الاجتهاد والتقليد بالنسبة للعمل صغرى وأن وجوب المقدمة هل هو شرعي أم عقلي، كبرى.
تتمة مناقشة كلام (التنقيح)
وتقدم أن التنقيح ذكر امتناع أن يكون الاجتهاد والتقليد مقدمة للعمل إذ يتيسر صدور الفعل أي العمل على طبق الشرع بدون أن يكون لديه علم أو علمي (اجتهاد أو تقليد)؟
وأجبنا ونضيف: بأن المقدمة هي ما يتوصل بها إلى الشيء، والعلم والعلمي هما ما يتوصل بهما إلى العمل، والعامي عندما يأخذ الرسالة العملية فإن اطلاعه على المسائل، يعد مقدمة معدِّةً للعمل بها.
وبعبارة أخرى: إن توقف ذي المقدمة على المقدمة لا يقتصر على التوقف شخصها، بل يشمل التوقف عليها أوعلى صنفها أو على نوعها أو على جنسها، ففي كل هذه الصور التوقف متحقق، والبديل الذي ذكره التنقيح هو الاحتياط لكن وجود البديل ينفي كون مقدمة شخصية منحصرة، ويشهد له الأمر في المانع، فإن كون هذا مانعاً لا ينفي وجود مانع آخر من تحقق الشيء، على سبيل البدل، وكذا يدل عليه الأمر في العلية فإن وجود علة على سبيل البدل للحرارة مثلا كالحركة، لا ينفي علِّية النار لها، فإذا قبلنا هذا في العلية والمانعية والشرطية، فلماذا لا نقبله في المقدمية؟ والحاصل أن وجود مقدمات أخرى على سبيل البدل لا ينفي مقدمية الاجتهاد والتقليد.
وبعبارة أخرى: المعتبر في المقدمة الترتب الوجودي الوقوعي وليس التوقف الشخصي ولا الذاتي، فإن من يصلي إنما يصلي بعد العلم بكيفية الصلاة وأحكامها، فالمقدمية الوقوعية متحققة، إذ هناك ترتب وجودي في الخارج من غير لزوم الترقب الذاتي، أي لا يشترط في عالم الإمكان والامتناع أن يكون هنالك توقف ذاتي، فلا يشترط في المقدمة التوقف الجوهري بل الوجودي، بل لا توقف ذاتي اطلاقاً إلا على ذاتيات باب الكليات.
إذا اتضح ذلك يتضح أن العلم والعلمي (الاجتهاد والتقليد) هما مقدمتان للعمل فوجوبهما من هذه الجهة لا إشكال في أن يكون شرعياً.
كما يرد على عبارة التنقيح (لا يكون معرفة حكم أي موضوع مقوماً لوجود ذلك الموضوع ومقدمة لتحققه) إن استخدام مصطلح (مقوِّم) في المقام غير دقيق ، لأن المقوِّم في الاصطلاح هو الجنس والفصل (ما به قوام الشيء) ولم يتوهم أحد بأن العلم جنس أو فصل للعمل بل لم يتوهم أحد في أية مقدمة بأنها مقومة، فالكلام إنما هو في المقدمية لا المقومية، ولعل منشأ الخلط من هنا بدء، ولعل لأجل ذلك رجع في آخر كلامه وأقر بوجود بعض الموارد تتوقف على العلم لكنه اعتبرها نادرة كالصلاة والحج إذ لا يستطيع أحد الاتيان بهما بلا معرفة بهما (بأجزائهما وشرائطهما وموانعهما وكيفيتهما)
فإنه حيث وجد إمكان رد السلام بدون العلم بحكمه، لبساطته أنكر المقدمية، وأما في الصلاة والحج حيث تركبهما وتعقيدهما وعدم إمكان الإتيان بهما عادة بدون العلم بأحكامهما، أقر بالمقدمية.
وعلى أي فإن بذلك يثبت عدم صحة كبراه الكلية من (ولا يكون معرفة حكم أي موضوع مقوماً لوجود ذلك الموضوع ومقدمة لتحققه) لأن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، بل أجبنا أيضاً حىى عن مثل إسلام بأن العلم علة معدّة ووجود معدّ بديل آخر لا ينفي المقدمية على سبيل البدل.
بل نقول إن الندرة المدعاة لا أساس لها حيث توجد موارد كثيرة لا يمكن التوصل لها إلا بالعلم فإن الصلاة والحج وإن كانا عنوانين إلا أنهما انطوى تحتهما عناوين ومسائل كثيرة، كالركوع بقيوده وشروطه، فإنه لا يستطيع المكلف عادة الوصول إليه بغير معرفة حكمه بقيوده وشروطه وغير الركوع كثير في الصلاة أو الحج.
كما أن تحت عنوان الصلاة انطوت عناوين صنفية كثيرة كصلاة الآيات، والصبح والظهر والمغرب وصلاة المسافر والحاضر وغيرها وكلها كذلك.
وكذلك الحال في عناوين أخرى كالصوم والعمرة وغيرهما.
فالظاهر أن هناك تعذراً عرفياً في الإتيان بها بقيودها وشروطها بدون علم بأحكامها، بل ليس الأمر في العبادات كذلك فقط بل يشمل حتى الايقاعات كالطلاق مثلاً، فإنه مما لا يمكن إيجاده وإيقاعه عادة، إلا بالعلم بأحكامه، من الصيغة الخاصة وقصد الإنشاء، وأن تكون في غير طهر المواقعة، إلى غير ذلك، إذن ليست الموارد قليلة.
والذي يدل على ذلك ملاحظة حال الغريب عن الدين فإنه لا يستطيع أن يؤدي أي عمل إلا النادر بلا علم ومعرفة، بل قد لا ينقدح في ذهنه أصل تصور نوع العبادة أو المعاملة فكيف بالعمل، واعتبر بملاحظة حالك لو دخلت بلاداً غريبة، لا تعرف عن دينها إلا الاسم، كما أنه يمكن الاعتبار بسائر العلوم حيث لا يمكن فعل أي شيء أو الوصول الى أي شيء بلا علم فكل المسائل متوقفة على العلم.
بل نترقى ونقول إنه حتى في ما استشهد به من رد السلام فإنه متوقف على العلم، إذ إننا نحن الذين نعلم ماهية السلام يمكننا أن نحتاط فلا يتوقف رد السلام على العلم بحكمه، أما من لا يعرف معنى السلام وصيغته أصلا فكيف يتسنى له أن يحتاط برد السلام بلا معرفة حتى لو أراد الاحتياط فقد يتصور أن صيغة السلام (هلو) مثلاً أو غيرها، فتأمل.
وسيأتي الكلام في الثمرات المترتبة على القول بثبوت الوجوب الشرعي للمقدمة إن شاء الله تعالى وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين... |