• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دراسات وقراءات .
              • الموضوع : أدعياء السفارة المهدوية في عصر الغيبة التامة (1) .

أدعياء السفارة المهدوية في عصر الغيبة التامة (1)

أدعياء السفارة المهدوية في عصر الغيبة التامة

(1)

الجذور والدوافع

السيد نبأ الحمامي

من الأمور التي ارتبطت ارتباطا مباشرا بالفكر العقائدي للشيعة الإمامية, هي العقيدة المهدوية, وغيبة الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) محمد ابن الإمام الحسن بن علي العسكري , وادخاره ليملأ الله تعالى - بعد ظهوره – الأرض قسطا وعدلا , بعدما ملئت ظلما وجورا.
وقد ظهرت على ساحة حياة المسلمين: قديما وحديثا, ادعاءات لأشخاص وحركات وفرق, تدّعي انتماءها وتمثيلها للإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف), أو أنها مقدمة لظهوره, حتى أصبحت (ظاهرة) ترتّب عليها الكثير من المفاسد والسلبيات, وتسببت بالعديد من الانحرافات في العقيدة, وسفك للدماء, وانتهاك للحرمات, كونها من القضايا الوثيقة الارتباط بعالم الغيب, وهو عالم يتطلع الإنسان  إلى كشفه ومعرفته بحسب فطرته وطبيعته, ويخفي تحت ردائه الكثير من أصحاب المطامع والمصالح وأصحاب الادعاءات البراقة والمغريات الجذابة, ممن يعملون على التلبيس على الناس وخداعهم وتضليلهم, مما يستوجب إيلاء هذه الظاهر(دعوى السفارة المهدوية) عناية وأهمية بالدراسة والنظر, والتعرف على أسبابها وتاريخها وأدواتها وغاياتها والدوافع التي تنطلق منها, لإظهار جوانب الحق فيها وتمييزها عن أباطيل مدعيها, وكشف ما يتوارى عن الأنظار من تدجيل, وإيضاح ما يلتبس على الناس من شُبَه يرتدي فيه الباطل أردية الحق, فتتبع الأهواء, وتقع الفتن. كما أوضح ذلك مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله (أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع, يخالف فيها كتاب الله، يتولّى فيها رجال رجالاً، فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أن الحق خلص, لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان, فيجيئان معاً, فهناك استحوذ الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى)[1]
ولعل أدق تعبير ورد للتدليل على ادعاء السفارة والنيابة عن الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) ما صدر عنه نفسه(عجل الله فرجه الشريف) في توقيعه للنائب الرابع علي بن محمد السمري قبل وفاته, قال فيه( (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك, فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك, فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله عز وجل، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وامتلاء الأرض جوراً. وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم) [2].
فقد وردت في التوقيع المبارك كلمة (المشاهدة) تعبيرا عن الاتصال بالإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف). للتأكيد على نفيها, سواء كان ذلك الاتصال على نحو:
1- التمثيل الرسمي له(عجل الله فرجه الشريف), كالنواب الأربعة في الغيبة الصغرى, إذ يُنَصَّب ليكون كحلقة وصل بين الشيعة والإمام، ويكون على اتصال دائم به(عجل الله فرجه الشريف) بحيث يوصل من وإلى الحجة عليه السلام. بمعنى أن النيابة أو السفارة الخاصة عن الإمام تمثل وظيفة وتكليف رسمي من قبل الإمام(عجل الله فرجه الشريف) يأتمر – بموجبها- النائب بكل صغيرة وكبيرة من أوامره, وينجز أعماله في المهام التي يكلفه بها الحجة عليه السلام، وتظهر على يديه دلائل وبراهين على النيابة الخاصة من قبل الحجة عليه السلام. كما في قول الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (العمري (عثمان بن سعيد) وابنه (محمّد) ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان) [3].
2- أو ما يكون مقدمة لخروج الإمام(عجل الله فرجه الشريف), وعلامة على ظهوره, وداعية له. كاليماني والحسني أو الخراساني. إذ لا تمثيل رسمي لهم عن الحجة(عجل الله فرجه الشريف), ولا نيابة لهم عنه, ولا يمثلون أيّ صفة رسمية عنه.
أن أدعياء المهدوية والسفارة موضوع قديم في جذوره وامتداداته السابقة, وجديد في تمظهراته الحالية، وهذه الدعاوى وان تلفعت بالدين، ورفعت الشعارات البراقة, إلا أنها - وكما أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة - تعتبر من أشد الأعداء للدين. وعلى الرغم من تميز إحداها على الأخرى في بعض الخصوصيات، ألا أنها تلتقي على الكثير من القواسم المشتركة عقائديا وسياسيا و إعلاميا و منهجيا.
وفي سير بحثنا, سنوجه عنايتنا واهتمامنا ضمن نقاط رئيسة تلم بجوانب الموضوع ما استطعنا الى ذلك سبيلا, من خلال:

النقطة الأولى: العقيدة المهدوية ضرورة وأمل وترقب.
احتلت العقيدة المهدوية في الفكر الإسلامي, والشيعي بصورة أخص, مكانة الثوابت والضروريات, بسبب تأكيد نصوص, لا حصر لها, عليها, حتى أصبحت من البديهيات العقدية. فقد اتفقت كلمة المسلمين: إمامية وغيرهم, على أنه سيظهر في آخر الزمان رجل يتم إصلاح العالم على يده المباركة, بغض النظر عن اختلافهم في بعض الخصوصيات.
إذ توافر في أصل ثبوت العقيدة المهدوية من الروايات  ما بلغت رقما إحصائيا لم يتوافر لأية قضية مشابهة من قضايا الإسلام, بلغت به أعلى درجات التواتر, ونقلتها الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً, المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها, واجتمعت على أخراج تلك الروايات. وتعددت الطرق إليها تعدداً تحيل العادةُ تواطؤهم على الكذب, فأفادت علما يقينيا بصحتها وثبوتها,وصار الاعتقاد بها من ضروريات الإسلام.
كما ثبت ذلك لكثير من مسائل الغيبيات, كالإيمان بالملائكة وبالجن وبعذاب القبر وبسؤال الملكين(منكر ونكير) وبالبرزخ وبغير ذلك من المغيبات التي جاء بها القرآن الكريم, أو نطق بها الرسول الأمين(صلى الله عليه واله). وأن هذا الغيب سواء تعقله الإنسان وأدرك جوانبه, أو لم يستطع إدراك شيء منه وخفيت عليه أسراره، فإنه مأمور بالإيمان به، غير معذور بإنكاره، بلحاظ أن مثل هذا الإيمان هو من لوازم الاعتقاد بالله تعالى، وبصدق سفرائه وأنبيائه الذين ينبئون ويخبرون بما يوحى إليهم, وهو جزء لا يتجزأ من العقيدة, فكل تشكيك بشأنها - أي قضية المهدي(عجل الله فرجه الشريف) - إنما يتعلق بأصل التصديق بالغيب. وقد روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل " هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب " قال: من أقر بقيام القائم عليه السلام أنه حق[4].
كما أن قضية المهدي(عجل الله فرجه الشريف) هي قضية أمل وترقب, مرت بها الطائفة الإمامية تجربةً وقضيةً وحقيقةً تاريخية, وتمثل في أدبياتها شعورا وأملا وترقبا, وانتظارا إيجابيا فاعلا ومؤثرا في حياتها وجهادها المستمر في مواجهة الظلم والظالمين والطغاة والجبارين.
انها تدفع الإنسان لمراقبة الحالة الإنسانية السائدة, والتفاعل معها, ومسايرتها, والتكيف مع ظروفها, مع الحفاظ على هوية المسلم الموالي, الملتزم بأحكام الشريعة, إذ لا ريب أن انقطاع النيابة والسفارة في غيبة الإمام(عجل الله فرجه الشريف) لا تعني الانقطاع القلبي والمعنوي عنه عليه السلام، بل اللازم على المؤمن القيام بالوظائف الشرعية في فضاء وجو الاعتقاد بإمامة المهدي عليه السلام، والتولي له، والتبرؤ من خصومه ومناوئيه ومنكريه، ومعايشة هذا الاعتقاد.
أن العقيدة المهدوية ليست عقيدة فردية يعيشها الفرد في نفسه أو في ظرفه وميدانه الخاص, بل هي عقائد تقتضي الارتباط بالمجتمع وتحمل المسؤولية بالموقف السياسي والاجتماعي, فهي عقائد لها تداعيات وتوجّهات وتأثيرات خارجية فعلية. يقودها الأمل بظهوره الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذه هي حالة (الانتظار) التي ذكرتها جملة من الروايات وأكّدت عليها [5]

النقطة الثانية: مقام السفارة بين خطر المنصب وتسويلات المدّعين
واذ حظي مقام السفارة بالارتكاز الضروري لدى أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام), ووجود الروايات المتواترة بظهور مهدي آخر الزمان, حين تعصف بالناس المحن وتهزهم الشدائد والإحن, وتعد الموالين - في الوقت ذاته - بقيام دولة العدل الإلهي التي يكونون فيها قادة, وتحمل من عناصر التطور, والمدنية, وتسخير الأشياء, وظهور كنوز الأرض, شيئا كثير, فهم الموعودون بالاستخلاف والتمكين في الأرض. وإمامهم المنتظر(عجل الله فرجه الشريف) من يملك مشارق الأرض ومغاربها ويملؤها قسطاً وعدلاً ، وهو أمر لا سابقة له في تاريخ الأنبياء وأوصيائهم.
وهذه الخصائص بمقدار ما تمثل عاملا مؤكدا للإيمان بالعقيدة المهدوية, ومشجعا على العمل الصالح, فهي – في الوقت نفسه - وسيلة سهلة, لجذب عوام المؤمنين وخداعهم وتضليلهم وانجرارهم وراء كل مدع من دون تحقق, وبالتالي اختراق المجتمع المؤمن من قبل الأعداء لتهديم العقيدة المهدوية والفكر الأصيل لمذهب أهل البيت(عليهم السلام). إذ يتخذ مدعو السفارة والنيابة من هذا الارتكاز والضرورة وما يستتبع من خصائص وامتيازات, مادة لتكثير السواد حولهم, وانشداد  الناس إليهم, ومناسبة لحشد التأييد الشعبي لأي ثائر يرفع هذا الشعار، لإضفاء نوع من القداسة على ثورته.
ولا يصح الاعتقاد بأن ظاهرة النيابة عن الإمام المعصوم كانت في فترة الغيبة الصغرى فقط. بل إن الصحيح - حسب الروايات العديدة - أن هناك نواباً وسفراء خاصين للمعصومين قبل الإمام المهدي عليه السلام, حين نص الإمامان علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام على سفارة ونيابة عثمان بن سعيد العمري, وابنه محمد بن عثمان, وصرّحا بكون العمري وابنه سفيرين، فقد ورد عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) قوله (العمري وابنه ثقتان ، فما أديّا إليك عنّي فعنّي يؤديان, وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان)[6]
والنائب الأوّل كان وكيلاً خاصاً للإمام الهادي عليه السلام ثمّ للإمام الحسن العسكري عليه السلام ثمّ سفيراً للصاحب عليه السلام.
ان ادعاء نيابة الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) قد أحاطه أعداء الدين بالعناية والاهتمام, بعد أن وجدوا في مثل هؤلاء المدعين أداة فعالة لتهديم فكرة المهدي والإساءة الى قدسيته, وتفريق كلمة المسلمين والشيعة خصوصا, وجعلهم في حالة دائمة من الصراع الداخلي وتفتيتهم, لشغلهم عن مجابهة العدو الحقيقي لهم. فاتحدت الإرادتان الشريرتان لتبرز مسألة السفارة المزعومة.
بل الدعوى ترقت الى المهدية نفسها. فقد ذكرت المصادر الروائية أسماء كثيرة لأدعياء المهدوية. وفي الغالب، فإنّ دعوى الوكالة تجرّ إلى ادعاء المهدوية، وربما ترقى إلى ادعاء النبوّة، فإن (كل هؤلاء المدعين إنّما يكون كذبهم أولاً على الإمام(عجل الله فرجه الشريف) وأنهم وكلاؤه، فيدعون الضَّعَفَة بهذا القول إلى موالاتهم، ثم يترقى الأمر بهم إلى قول الحلاجية، كما اشتهر من أبي جعفر الشلمغاني ونظرائه)[7]
ويتبين من كلام الشيخ الطوسي أن مدعي النيابة كان دأبهم منذ البداية السيطرة على عقول البسطاء من العامة وترويج بضاعتهم عند جهلة الناس.
وقد ذكر الشيخ الطوسي بعض الذين ادعوا السفارة في زمن الغيبة الصغرى وما قاربها، وهو زمان امتحان شديد، مرّ به أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّهم لم يكونوا معتادين لظاهرة الغيبة. وقد عقد(رحمه الله) باباً خاصاً لذكر المذمومين من مدعي السفارة، والنيابة عن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف).
ونذكر بعضا من مدعي النيابة بعد شهادة الإمام الحسن العسكري(عليه السلام), وبداية الغيبة الصغرى للإمام المنتظر(عجل الله فرجه الشريف). ولا نتوسع الى مدعي النيابة عن باقي الأئمة(عليهم السلام), فضلا عن مدعي الإمامة والنبوة, فيخرج البحث الى الإطالة والإطناب, بل يكفي ذكر بعض الأسماء البارزة ممن ادعوا السفارة والنيابة زمن الغيبة الصغرى وما بعدها. منهم:
1- الشريعي. "وكان من أصحاب أبي الحسن علي بن محمّد (الهادي)، ثمّ الحسن بن علي بعده عليهما السلام. وهو أوّل من ادّعى مقاماً لم يجعله الله فيه، ولم يكن أهلاً له، وكذب على الله وعلى حججه عليهم السلام ونسب إليهم ما لا يليق بهم، وما هم منه براء، فلعنته الشيعة، وتبرّأت منه وخرج توقيع الإمام بلعنه والبراءة منه"[8]
2- محمد بن نصير النميري. "كان محمّد بن نصير النميري من أصحاب أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السلام فلمّا توفي أبو محمّد ادعى مقام أبي جعفر محمّد بن عثمان أنه صاحب إمام الزمان وادعى البابية، وفضحه الله تعالى بما ظهر منه من الإلحاد والجهل، ولعن أبي جعفر محمّد بن عثمان له وتبريه منه واحتجابه عنه وادعى ذلك الأمر بعد الشريعي... وكان يدعي أنه رسول نبي وأن علي بن محمّد (الهادي) عليه السلام أرسله، وكان يقول بالتناسخ, ويغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية "[9]
3- أحمد بن هلال الكرخي العبرتائي. عاصر الإمام الرضا عليه السلام حتى زمان الغيبة الصغرى، وادعى السفارة عن الإمام(عجل الله فرجه الشريف) بعد وفاة السفير الأول مدعياً أنه لم يقف على نص يثبت سفارة السفير الثاني محمد بن عثمان بن سعيد العمري. وقد ورد اللعن بحقه من قبل الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) [10]
4- محمد بن علي الشلمغاني. "يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن أبي العزاقر: له كتب، وروايات، وكان مستقيم الطريقة، ثم تغير وظهرت منه مقالات منكرة... كان متقدماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب، والدخول في المذاهب الردية حتى خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان، وقتله وصلبه"[11]
5- أبو طاهر محمّد بن علي بن بلال. " وقصته معروفة فيما جرى بينه وبين أبي جعفر محمد بن عثمان العمري نضر الله وجهه، وتمسكه بالأموال التي كانت عنده للإمام ، وامتناعه من تسليمها، وادعائه أنه الوكيل, حتى تبرأت الجماعة منه ولعنوه ، وخرج فيه من صاحب الزمان عليه السلام ما هو معروف"[12] 
6- الحسين بن منصور الحلاج."عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه. قال: ان ابن الحلاج صار إلى قم وكاتب قرابة أبي الحسن (أخي الصدوق) يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله. (قال): فلمّا وقعت المكاتبة في يد أبي رضي الله عنه (أي أبي الحسن بن علي بن بابويه القمي والذي كان وكيلاً للعسكري (عليه السلام) خرقها وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات؟... واشتهر أمره بالحلول والإلحاد عند الصغير والكبير، وانكشف حاله ونفر جماعة الشيعة منه"[13]
ولم تتوقف ظاهرة ادعاء مقام النيابة زمن الغيبة الكبرى, بل توالت حتى غدت قصص المدّعين للسفارة والوكالة الكاذبين على الله وعلى حججه عليهم السلام، تتكرّر بين فترة وأخرى, والى يومنا هذا. وفي زماننا شاهدنا وسمعنا عن عشرات الأشخاص من مدعي التواصل مع الإمام (عجل الله فرجه الشريف)أو أنّهم سفراؤه ونوابه. متخذين أساليب وأشكال في الدعوى لم تكن مألوفة زمن الغيبة الصغرى. منها:
1- دعوى السفارة والوكالة، بحيث يزعم الشخص أنّه سفير أو وكيل عن الإمام(عجل الله فرجه الشريف) أو باب إليه، ومأمور بنقل توجيهات الإمام إلى الأمة.
2- دعوى النسب والمصاهرة، حيث ادعى بعضهم أنّه ابن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، أو أنّ الإمام (عجل الله فرجه الشريف) متزوج بأخته.
3- دعوى أنّ الشخص هو أحد الشخصيات التي لها دور في حركة المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، أو في التمهيد له، كدعوى البعض أنّه اليماني.
فإن بعض الأشخاص تقصر همته عن نيل المراكز العالية، والدرجات العالية في هذه الدنيا بالطرق المألوفة والمعهودة؛ لأنها تحتاج إلى استقامة وبذل الجهد، مضافاً إلى احتياجها الى توفر كفاءات خاصة، فيلجأ إلى الوسائل التي لا تخلو من خداع وتلبيس، ويستعيض عن عجزه في نيل المعارف والمراتب العلمية باللجوء إلى ادعاءات غيبية, ومنها ادعاء السفارة والنيابة للإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف).

النقطة الثالثة: ادعاء السفارة المهدوي: دوافع وغايات
يمكن التفريق بين(الدوافع) و(الغايات) بصورة جوهرية, أن الدوافع هي مبادئ الحركة التي تجعل الدواعي في نفس الإنسان للقيام بالفعل. وهي ما يعبر عنها في علم النفس التربوي بـ(الدوافع الداخلية). وهي القوة التي توجد في داخل النشاط فتجعل الرغبة في نفس الشخص للقيام بالعمل. وتعد الدوافع مصدرا مهما للطاقات البشرية, والأساس الذي يعتمد عليه في تكوين العادات والميول والممارسات لدى الأفراد[14].
بينما (الغايات) هي الدوافع الخارجية المحركة بصورة فعلية للإنسان للقيام بالأعمال. بمعنى أن الدوافع هي علة للغايات.

الدوافع
ويتيح لنا الاستقراء ملاحظة الدوافع والخلفيات التي تزين لأصحابها ادعاء السفارة المهدوية في العصور السابقة والحالية, ومنها:
1) الجهل المركب والفراغ الفكري و العقائدي. فإنّ بعض الأشخاص قد يكونون من أصحاب النوايا الطيبة في بادئ الأمر، ويخيّل إلى أحدهم أنه يتواصل مع الإمام(عجل الله فرجه الشريف)، أو أنه اليماني أو ربما المهدي نفسه. فينخرط في هذا الأمر ويدّعي ذلك، وربما انقاد له بعض السذج أو زيّن له بعض الخبثاء، وأصحاب الأغراض الخاصة هذا الادعاء، وأغروه وشجعوه، ما يجعله يتمادى في وهمه ولا يصغي للنصائح والمواعظ، ولا يعير بالاً للحجج التي تفنّد مزاعمه وتبطل أوهامه.
2) حبّ الظهور والسلطة. وهذا العامل هو من العوامل الأساسية, والتي نجدها حاضرة في معظم ادعاءات المهدوية أو السفارة أو التواصل بشكل أو بآخر مع المهدي (عجل الله فرجه الشريف).
3) السعي إلى جني المال. وهو استغلال هذا الادعاء في محاولة لجني الأموال وجمعها من خلال استغفال الناس وخداعهم. فإنّ الشخص المدعي عندما يزعم أنه وكيل الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، فمن الطبيعي - وفقاً لما هو المعروف لدى الشيعة الإمامية - أنّ الأموال لا بدّ أن تجبى إليه. وقد تقدم عن الشيخ الطوسي أنّ من مدعي البابية والنيابة أبا طاهر محمّد بن علي بن بلال. " وقصته معروفة فيما جرى بينه وبين أبي جعفر محمد بن عثمان العمري نضر الله وجهه ، وتمسكه بالأموال التي كانت عنده للإمام ، وامتناعه من تسليمها ، وادعائه أنه الوكيل حتى تبرأت الجماعة منه ولعنوه ، وخرج فيه من صاحب الزمان عليه السلام ما هو معروف"[15]
4) الحسد. وهو عامل نفسي خطير يدفع بعض الناس إلى ادعاءات كاذبة وتلفيق مزاعم واهية، حنقاً وحسداً منهم لبعض من يقدرون أنّهم أولى منه في تسنم منصب معين من المناصب الدينية أو السياسية أو الإدراية. وهذا السبب نجده حاضراً في المقام، فبعض مدعي الأشخاص دفعه الحسد لادعاء النيابة. كما تقدم شيء من ذلك عن الشيخ النجاشي في ذكره لادعاء محمد بن علي الشلمغاني" وكان مستقيم الطريقة، ثم تغير وظهرت منه مقالات منكرة... وكان متقدماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب، والدخول في المذاهب الردية حتى خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان، وقتله وصلبه"[16]

الغايات
ان غايات مدعي السفارة تعد معلولة ومسبَّبَة عن الدوافع التي تقدم بعض منها. وعادة ما تكون الغايات التي يسعى اليها أدعياء السفارة والنيابة تحمل صفة العداء للإسلام, والمؤامرة على المؤمنين, فلم تتوقف محاولات مناوئي أهل البيت(عليهم السلام) لتفتيت الكيان الشيعي وزرع الفتنة بين أبناء الطائفة الإمامية التي تؤمن بالعقيدة المهدوية, حتى وصلت في عصرنا الحاضر الى مستوى الذروة لخلق حالة من العداء النفسي والفكري والاجتماعي والسياسي للإمام عليه السلام في أوساط القاعدة الشعبية الموالية له سواء الخاصة منها أو العامة، والى تغييب وتهميش فكرة وجود الإمام عليه الاسلام وما تحمله هذه العقيدة من روحية تفاؤل وإيجابية وحيوية ونشاط ودافعية نحو المستقبل. وذلك من خلال حشد العدد الأكبر من الناس للانضواء تحت راية المدعين, لتكثير سوادهم، وتقوية حركاتهم لهدم الإسلام من داخله، وإغداق الأموال والمساعدات على هؤلاء الأفاكين وأتباعهم، وإغراء ضعاف الإيمان للانضمام الى تلك الحركات.
من أجل ذلك نلحظ أن معدل, ونسبة عدد المدعين للسفارة المهدوية في العصر الحديث يظل مرتفعاً جداً ومتضخماً مقارنة بالحالات المتشابهة في التاريخ. فقد أخذ أعداء الإسلام, خصوصا أجهزة الاستخبارات المعادية وبإرادة دولية, على عاتقهم في السنوات الأخيرة خلق ظروف مناسبة، تفرز مناخاً يساعد على تقويض العقيدة المهدوية، لجعل مبادئ العقيدة المهدوية خاوية وفارغة من محتواها الأصلي.
ومن غايات مدعي السفارة:
(1) إيجاد حالة من الرفض للفكرة المهدوية بسبب الفشل المتكرر وتخبط المدعين. فأن انتشار ظاهرة ادعاء المهدوية الكاذبة وبكثرة في العصر الحديث وتكرار فشلها، سيؤدي الى اقتران هذا الفشل المتكرر بتكوين كره نفسي وعقلي للعقيدة المهدوية عند الشعوب الاسلامية، مما تدفعها لاتخاذ مواقف مضادة ومنفردة منها وتدفع كذلك المسلمين لتكوين مواقف مضادة لها وتنفير الناس من حولها.
(2) إضعاف حالة الاستعداد لدى المنتظرين, وهو تعبير آخر عن بث عوامل التحلل الديني والأخلاقي لدى المجتمع الموالي, وفك ارتباطه بالمبادئ السامية لمذهب أهل البيت(عليهم السلام). فتتضاءل حالة الاستعداد ويفتر حماس المؤمنين وكأن الأمر لم يكن، وهكذا تموت العقيدة المهدوية في النفوس والعقول وتموت معها فاعلية ثقافتها.
(3)تسقيط المرجعيات الدينية، والتي تمثل المركز الحقيقي والقلعة الحصينة للشيعة, والمناداة ببطلان تقليدهم، فهم يسعون الى هدم ثقة الناس بعلماء الدين الممثلين للامتداد الشرعي والتشريعي للمعصوم. ثم عزلهم ثم تصفيتهم ان تطلب الأمر.
(4) إشاعة ثقافة التكفير والغاء الرأي الآخر وتهميشه, مما يمهد لانتهاك الحرمات واستباحة الدماء. وهو ما يكشف حقيقة الدور الذي تقوم به (الصهيونية العالمية وتوابعها) في تسيير وتوجيه هذه الحركات. وما يترتب على التكفير من سفك الدماء وانتهاك الأعراض وتفتيت المجتمع الشيعي.
(5) أنّها تمثّل مادة خصبة لمنكري العقيدة المهدوية لاستغلال هذه الادعاءات، في سعيهم ومحاولاتهم لتشويه صورة العقيدة المهدوية، وصورة المعتقدين بها. فهذا الاستغلال لاسم المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، وتوظيفه بهذه الطريقة الرخيصة، يدفع أولئك إلى تسخيف العقيدة المهدوية نفسها. وقد لاحظنا كيف تعمل بعض وسائل الإعلام المغرضة أو التي تهدف إلى الإثارة واجتذاب المشاهدين إلى الترويج لهؤلاء ونشر مزاعمهم وبث آرائهم، ناهيك عن أن الفرصة قد أصبحت متاحة لهؤلاء لنشر أفكارهم والترويج لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
 
------------------
[1]الشريف الرضي, نهج البلاغة: 1/100.
[2] الشيخ الطوسي, الغيبة: 395.
[3] الشيخ الكليني, الكافي: 1/330.
[4] الشيخ الصدوق, كمال الدين وتمام النعمة: 17.
[5] ينظر: الشيخ الصدوق, كمال الدين:645. ابن شعبة الحراني, تحف العقول عن آل الرسول: 115. القاضي النعمان المغربي, شرح الأخبار:3/560.
[6] الشيخ الكليني, الكافي: 1/330 .
[7] الشيخ الطوسي, الغيبة: 397.
[8] الشيخ الطوسي, الغيبة: 397.
[9] المصدر نفسه: 398- 399.
[10] الشيخ الصدوق, كمال الدين وتمام النعمة: 489. الشيخ الطوسي, اختيار معرفة الرجال: 2/816 .
[11] النجاشي, فهرست أسماء مصنفي الشيعة: 378. الشيخ الطوسي, الفهرست: 224 .
[12] الشيخ الطوسي, الغيبة: 400 .
[13] الشيخ الطوسي, الغيبة: 401, 402 .
[14] مقال بعنوان (الدافعية) للأستاذ حيدر حاتم فالح العجرش/ كلية التربية الأساسية في جامعة بابل/ الموقع الإلكتروني الرسمي لكلية التربية الأساسية في جامعة بابل. نشر في 5/6/2011 .
[15] الشيخ الطوسي, الغيبة: 400.
[16] النجاشي, فهرست أسماء مصنفي الشيعة: 378. الشيخ الطوسي, الفهرست: 224 .


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2802
  • تاريخ إضافة الموضوع : 27 ذي الحجه 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29