بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان البحث حول حرمة حفظ كتب الضلال ومسبباتها بقول مطلق ,وسائر انواع التقلبات فيها , وذكرنا ان الشيخ الانصاري, وكذلك صاحب الجواهر وآخرون قد استدل على ذلك بالأدلة الاربعة, و ابتدأنا بالآيات القرآنية, حيث ذكرنا آيتين :
الآية الاولى : قال تعالى :" ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين " , وبينا ان الاستدلال بهذه الآية يتوقف على أحد وجوه ثلاثة ثالثها اثبات ان المراد من كلمة يشتري ليس المعنى الحقيقي المتداول العرفي أي: خصوص الإشتراء, و انما المراد منها هو المعنى الكنائي (او المجازي ) , وذكرنا ان الاعلام قد اختلفوا في المعنى الكنائي على ثلاثة اقوال , فالقول الاول لكلمة ( يشتري ) هو التحدث فيكون معنى الآية (يشتري لهو الحديث) هو يتحدث به.
واما القول الثاني فهو أن معنى يشتري يتعامل بلهو الحديث بيعا او شراءا او غيرها. واما القول والمحتمل الثالث فهو ان المراد منها هو الكناية عن مطلق التعاطي فيشمل المطالعة والكتابة والحفظ وغيرها ,
تكملة وإضافة :وهنا نضيف ونقول : ان بعض العلماء رأى أن يشتري في الآية الشريفة تعني (الأخذ والتسلط) فقالوا:ان كلمة (يشتري) في الاية كناية على الاخذ والتسلط فتشمل كل هذه المعاني.
لكن لو صرنا الى المعنى الرابع فإن التعبير بـ(التعاطي) افضل واوضح في الدلالة على المراد من معنى الاخذ والتسلط , وان كان كلا الرأيين يرجع الى معنى واحد كما يظهر بالتامل في كلمات الفريقين , ولكن القول بأن كلمة يشتري كناية عن التسلط والاخذ هو في غاية البعد.
ادلة التعميم لكلمة يشتري :وعودا على ادلة التعميم لكلمة يشتري حتى تشمل مختلف الموارد من البيع والشراء والكتابة والحفظ وغيرها, نقول: من هذه الادلة الروايات – كما ذكرنا – حيث فسرت رواية الكافي لهو الحديث بالغناء وكذا بقية الروايات .
استفهام وسؤال : المعنى الدقي والمعنى العرفي لكلمة ( لهو الحديث ) وهنا يرد استفهام على الرواية وهو كيف ان الامام ع عبر عن الغناء بـ( لهو الحديث ) ؟ والحال ان الغناء ليس من سنخ الحديث؛ لانه يرتبط بالعلة الصورية دون المادية ,و اما الحديث فهو يرتبط بالعلة المادية .
وحال الغناء كحال الموسيقى فان: الموسيقى هي من لهو الصوت لا لهو الحديث ايضا.
توضيح ذلك : ولتوضيح ذلك نقول :لو ان الانسان قد تغنى بالقران الكريم فانه حرام بحسب رأي المشهور شهرة عظيمة حتى كاد ان يكون اجماعا, مع ان المادة – وهي مادة القران الكريم – والحديث حق؛ وذلك ان الغناء يرتبط بالصوت وبحالة اداء الكلمات والحروف وهو محرم في القران وغيره.
جواب الاستفهام :ونقول في مقام الجواب عن السؤال والاستفهام :اولا ) ان الالفاظ العرفية لا تدور مدار التدقيقات العقلية -وهذا بحث مبنائي مهم – ثم ان الشرع جعل موضوعات أحكامه دائرة مدار العرف فان العرف هم الملقى اليهم الكلام قال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ(
وهاتان قضيتان كبريان ,واما صغرى المقام فان العرف يطلق على الغناء لهو الحديث , وما ذكر ابتداءا من العلة الصورية والمادية فهو تدقيق عقلي لا يخطر بالبال عادة ؛ لانه خلاف الارتكاز العرفي, والشارع قد رتب احكامه على ما يفهمه العرف من الموضوع لا على الدقة العقلية في الموضوعات , هذا اولا .
وثانيا – وهو جواب تنزلي – واما ثانيا فنقول: سلمنا ان لهو الحديث ليس حقيقة عند العرف في (الغناء) بل هو مجاز فيه وانه اطلق اللفظ الموضوع لمعنى معين الى معنى اخر اعتمادا على الملابسة بين المعنيين فان العلة الصورية ملابسة للعلة المادية , لكن تفسير الامام ع للهو الحديث بالغناء هو دليل على انه قد اريد من لهو الحديث المعنى الكنائي وهو المطلوب في المقام , فان همنا من البداية كان ان نثبت ان كلمة ( يشتري ) وكلمة ( لهو الحديث ) لم يقصد بهما الله تعالى حرفية هذين المصطلحين وهذين اللفظين , بل كنّى بهما عن الاعم , ومراده ذلك , ومن نزل القران في بيوتهم يبينون تلك المرادات عن الله تعالى , فإذا قالوا – كما بين الامام ع – انه تعالى كنى بهما عن الاعم كان قولهم حجة دون ريب, وهذا مما لا اشكال فيه , هذا ثانيا .
عبارة الميرزا الشهيدي ووجه الاستدلال بها : ان الميرزا الشهيدي في حاشيته على المكاسب ارتأى أن الروايات فسرت (لهو الحديث) بالغناء أي انها عممت لهو الحديث اليه ,
إلا ان المشكلة لازالت قائمة فان كلامنا هو عن حرمة حفظ كتب الضلال ونحن نحتاج الى تعميم كلمة يشتري للحفظ لا كلمة لهو الحديث فقط , والشهيدي باعتماده على الروايات عمم المتعلَق ليكون المعنى هو ( يشتري الغناء ) إلا ان ذلك ليس بنافع كما اوضحنا
تفصي الميرزا الشهيدي عن الاشكال : وقد تفصى الميرزا الشهيدي عن هذا الاشكال - والذي وقع فيه صاحب فقه الصادق ع - وذلك من خلال الاجابة بجواب لطيف حيث قال – مع إضافة وتوضيح منا -: " انه حيث تعمم المتعلَق تعمم المتعلِق , - لا لتلازم بينهما - وانما كان ذلك التعميم لنكتة لطيفة وهو ان الاشتراء في ( يشتري ) لا يتعلق بالغناء؛ لان الغناء من سنخ الافعال ولا شراء للأفعال, انما الشراء يتعلق بالاعيان – وهو الرأي المشهور ولعله اجماعي – , نعم الاجارة تتعلق بالمنافع والافعال كمن استأجر خياطاً لخياطة شيء حيث انه استأجر منفعته وعمله .
توضيح اكثر لجواب الميرزا الشهيدي: بل قد يقال: ان اشتراء الغناء ليس بمعقول, فاذا استحال ذلك – أي شراء الغناء - عقلا او لم يصح فتوى كان المتعلَّق قرينة للتعرف على المتعلِّق ويكون معنى شراء الغناء – بناءا على التعميم – هو تعلم الغناء ,
وعليه :فاننا لن نجمد على المعنى الظاهري في يشتري وانما يكون المعنى هو مطلق التعاطي . واما عبارة الشيخ الشهيدي فهي " المراد من الاشتراء مطلق الاخذ والتسلط ولو بغير الشراء... ويدل عليه تفسير (لهو الحديث) بالغناء في بعض الأخبار, فان اشتراء الغناء لاجل الاضلال ليس إلا عبارة عن تعلمه كما ان الذي صدر من هذا البعض ( الكافر ) هو التعلم " .
الحق في المقام :ونقول ان الحق في المقام هو : ان هذه الروايات والتي فسرت لهو الحديث بالغناء هي مفسرة للاشتراء ( أي المتعلِّق) بالكسر فالروايات تفسر ( اشتراء لهو الحديث ) بالغناء لا انها تفسر لهو الحديث به ,وهذا ظاهر من خلال تتبع الروايات الواردة في مقام الاستدلال على المراد
عودا على رواية الكافي : ونعود الى رواية الكافي حيث جاء فيها : " .. سمعته يقول : الغناء مما وعد الله عز وجل عليه النار , وتلا الاية ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم .. ) , فانه عند ملاحظة هذه الرواية نجد ان الآية اثبتت العذاب المهين على (اشتراء لهو الحديث), والامام (ع) جعل الغناء مساويا لما يترتب عليه العذاب المهين ايضا فيكون نتيجة هاتين المقدمتين : ان معنى اشتراء لهو الحديث هو الغناء , حيث عمم الامام ع كلمة الاشتراء لمطلق التعامل من خلال تفسيره اشتراء لهو الحديث بالمعنى المساوي له وهو الغناء .
وبتعبير اخر :انه في المقام يمكن ترتيب قياس من الشكل الأول، هكذا: كل غناء فهو اشتراء لهو الحديث وكل اشتراء لهو الحديث مما أوعد الله عليه النار فكل غناء فهو مما أوعد الله عليه النار.والخلاصة : ان الامام ع قد فسر اشتراء لهو الحديث بالغناء, وعليه فنحن في غنى عن التكلفات التي ارتكبها البعض من اجل تعميم استدلالهم ليشمل (يشتري) الحفظ وغيره, وهذه هي القرينة الاولى للتعميم في مقام الاستدلال .
القرينة الثانية : واما القرينة الثانية في كلام الامام ع فهي كلمة ( مما ) في الرواية ( ... مما وعد الله عزوجل عليه النار ) وهذه القرينة هي قرينة دقيقة , فان ( مما ) هي كلمتان وهما : ( من ) و(ما), ومن في المقام تبعيضية فقد يقال: انه تدل على ان هذه الاية قد رتبت العذاب على مجموعة من الاشياء منها الغناء – وهو البعض منها – فتدل هذه القرينة على كنائية كلمة ( يشتري ).
احتمالان في ( مما ) : ولكن ومن خلال تحليل كلمة ( مما ) الواردة في الرواية نجد ان هناك احتمالين فيها : الاحتمال الاول / ان قول الامام ع ( مما وعد الله النار عليه ) هي بلحاظ القران الكريم كله , أي : ان الامام ع قد لاحظ كل القران فقال : ان في القران ايات كثيرة قد وعد الله النار على من ارتكب الذنوب والكبائر فيها , ومن هذه الموارد هو الغناء.الاحتمال الثاني ) واما الاحتمال الاخر في كلمة ( مما ) – وهو المجدي لو استظهر – ان الامام ع يقول ان الغناء هو مما وعد الله عليه النار في هذه الاية أي ان نظر الامام ع مقصور على هذه الاية فقط ولو تم ذلك فسيكون المعنى الكنائي قريبا ومؤكدا لتعميم الامام ع الآية ببركة (من التبعيضية)
وبعبارة اخصر واوضح : ان الغناء مما وعد الله عليه – أي في القران - النار ,هذا احتمال , واما الاحتمال الاخر ان الغناء مما وعد الله عليه النار - أي في هذه الاية- , فهل المستفاد هو المعنى والاحتمال الاول ؟ او المعنى والاحتمال الثاني ؟ او ان المعنى ليس بظاهر وانما مجمل؟ وعلى الثالث والأول، لا قرينة لمن التبعيضية.
وجوابه سيأتي وللكلام تتمة وصلى الله على محمد واله الطاهرين....