• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 225- مباحث الأصول: (القطع) (6) .

225- مباحث الأصول: (القطع) (6)

مباحث الأصول: ( القطع )

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين

الفائدة الرابعة عشر: إن قلنا أن معنى حجية القطع هو لزوم الاتباع  فلا يكون القطع ملاكاً لحكم العقل بلزوم اتباعه مطلقاً ؛  لعدم المقتضي للحجية ؛ حيث إن  القطع بما هو هو لا ربط له  بالواقع، إذ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وليست الصفات النفسية ملاكاً وسبباً لذلك ؛ إذن الواجب اتباع العلم لا القطع.
إن القطع إذا فسرت حجيته بلزوم الاتباع [1]، فليس القطع مما يحكم العقل أو العقلاء، أو عقل المكلف بلزوم اتباعه بقول مطلق، بل إنما يحكم بلزوم اتباع العلم فقط، ونضيف: إنه ليس القطع ـ أي: البت والجزم النفساني ـ ملاكاً لحكم العقل أو العقلاء بلزوم الاتباع؛ وذلك لعدم المقتضي للحجية، فإن البت والجزم صفة نفسية لا ترتبط بما هي هي بالواقع، فلا مقتضي لجعلها حجة، وهذا برهان آخر بالإضافة لما سبق.
وتوضيحه: إنه إذا كان القطع مطابقاً للواقع ـ أي: كان علماً ـ فإن الملاك لحجيته موجود، وهو مرآتيته للواقع، وكاشفيته عن الواقع، أما إذا أغمضنا النظر عن جهة الإصابة والمطابقة ولاحظنا القطع بما هو هو، أي: بما هو صفة نفسية، مثل الجُبن أو الشجاعة، أي: لاحظنا صِرف كونه جزماً، فإنه لا مقتضي لجعله حجة، بمعنى لزوم الاتباع؛ لأن الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات، وليست الصفات النفسية ملاكاً وسبباً ومنشئأ للمصلحة الخارجية في المتعلق، كي يأمر الشارع في القطع الطريقي بوجوب اتباع جزم المكلف بما هو جزم، فإنه بما هو هو أجنبي عن المصلحة في المتعلقات؛ إذ فرض قطع النظر فيه عن جهة الإصابة, فليتدبر.
ونقول الظاهر: أن خلطاً حدث ههنا، فإن الحكم العقلي المستقل هو وجوب اتباع العلم لا القطع، لكن لشدة ملابسة أحدهما بالآخر تُوهِم أن المستقل هو هذا لا ذاك (المولوي أو الإرشادي) إذ هنا خلاف، هل أنَّ العقل له مولوية بالنسبة لآحادنا أو إنما هو مرشد؟ فذهب البعض إلى أن العقل لا مولوية له؛ إذ لا علو له على الإنسان ولا استعلاء، فأوامره إنما هي إرشاد للمنفعة، وزواجره ونواهيه إنما هي إرشاد للمضرة، فلذا نجد السيد اليزدي قد ردّد الأمر فقال: ((بحكم العقل المستقل المولوي أو الإرشادي)).
ولكن الرأي المنصور هو ان حكومة العقل مولوية؛ لتحقق الشرطين [2]: العلو والاستعلاء, فإنه عالٍ؛ إذ إن أعلى وأفضل ما في الإنسان هو عقله، وهو أسمى ما فيه، فالعلو متحقق، والاستعلاء موجود أيضاً؛ لأن العقل يتكلم من موضع الفوقية والقوة، فيقول: امش على هذا الدرب يا صاحبي,ثم لمزيد بعثه أو زجره يعلل له بمثل: كي [3] لا تدخل النار مثلاً [4] .

بحث تطبيقي:
ذهب المشهور إلى أن القطع حجيته ذاتية، فالحجية معلول للقطع بنحو المعلول التام للعلة التامة، فلا يمكن الانفكاك بينها.
وذهب السيد اليزدي قدس سره بوجوب اتباع القطع ولكنه قيده بــ ((ما لم يمنع الشارع عن العمل به أو يرخص العمل بغيره من دليل تعبدي أو أمارة )) [5] .
لذا تكون حجية القطع عنده اقتضائية، وعلى هذا يمكن رفعها عنه ، ويمكن التمثيل لمدعاه  بأمثلة عدة ذكر قدس سره بعضها [6] :

المثال الأول: القياس ؛ فإن الشارع قد منع من العمل بالقياس وإن أورث القطع, وتلك الرواية [7] خير شاهد، حيث إن دية أصابع المرأة إلى الثلاثة تُجاري دية الرجل، ثم لو قطع الأصبع الرابع تعود إلى عشرين؛ إذ دية قطع ثلاثة أصابع ثلاثون، ولو قطع الرابع ترجع إلى عشرين، ورغم أن الراوي قال للإمام: كنا نقول الذي يأتي به شيطان، فكان ذلك قطعاً باطلاً بنظره، لكن الإمام عليه السلام مع ذلك ردعه، وأن هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله [8].
وأما المحقق اليزدي فقد ذكر الظن الناشئ من القياس زمن الانسداد، فقال ((ومنها: منع العمل بالقياس الوارد في الشرع بالأخبار المتواترة مع حكم العقل المستقل بوجوب العمل بالظن في زمان انسداد باب العلم بمقدماته المذكورة في بابه بناء على الحكومة، فقد أشكل عليهم الأمر في إخراج القياس في الغاية ووقعوا في حيص وبيص، وتكلّفوا في الجواب بأجوبة كثيرة بعيدة أو ممنوعة، والتحقيق في الجواب هو ما اختاره المصنف هناك من أنّ موضوع حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مختصّ بغير مورد القياس ممّا قد ثبت من الشارع منع العمل به بالخصوص)) [9] .
ولعل عذره أنه أراد الاستشهاد على أن للشارع المنع عن العمل بحكم العقل المستقل المولوي أو الإرشادي، أو جعل طريق في قباله, فكما منع عن العمل بالظن القياسي رغم استقلال العقل به زمن الانسداد، كذا له المنع عن العمل بالقطع، فيرفع العقل يده عن حكمه بوجوب متابعته. وقد أجاب بعد صفحتين عن إشكال لزوم التناقض وغيره,فتأمل.

المثال الثاني: ما ذكره الأصوليون [10] من عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان أحد طرفيه، أو أحد أطرافه خارجاً عن دائرة الابتلاء، حسب رأي كثير من الأعلام، فرغم أن العلم الإجمالي موجود إلا أن الشارع رخص في الاقتحام.

المثال الثالث: ما ذكره المشهور [11] من عدم منجزية العلم الإجمالي إن كانت الأطراف غير محصورة، وان كانت كلها في دائرة الابتلاء، فمع أن العلم موجود لكن الشارع لم يعتبره منجزاً [12].

المثال الرابع: ما ذكره السيد اليزدي من العلم في زمن الانفتاح، قال المحقق اليزدي: ((ومنها:جواز جعل الطرق والأمارات في زمان انفتاح باب العلم قطعاً، ولم ينكره أحد)) [13]، فرغم انفتاح باب العلم أجاز الشارع اتباع الطرق والأمارات الظنية، فيظهر منه أن العلم حجيته غير ذاتيه؛ لأن الشارع جعل له بديلاً، وسوّغ الإعراض عنه، دفعاً أو رفعاً.
ونضيف لكلامه: إنه ورد أن الأمام عليه السلام  أمر البعض بالرجوع للرواة [14] رغم إمكان رجوعهم للإمام مباشرة، فمع أن الإمام موجود وكان باستطاعة المكلف أخذ العلم القطعي منه مباشرة لكنه عليه السلام أرجعه للراوي، مع أن جواب الراوي يفيد الظن عادة؛ إذ قد يكون مخطئاً في فهم كلام الإمام عليه السلام ، وقد يكون قد خلط في الأسانيد [15] أو لغير ذلك, فالإمام رغم انفتاح باب العلم أمر بالرجوع للراوي .
وكذا الحال في الموضوعات فإن كثيراً من المكلفين كان يستطيع أن يسأل الإمام عن الطهارة والنجاسة، كطهارة هذا المسجد ونجاسته، لكنه عليه السلام لم يوجب عليهم السؤال حتى في موارد عدم لزوم الحرج وعدم مزاحمة الإمام، ومنه يتضح أن الإسلام جعل بديلاً للقطع؛ إذ رخص العمل بغير القطع من دليل تعبدي أقامه في مقابل القطع، أو ظني نزّله منزلته، فإذا كانت حجية القطع ذاتية فلا يمكن أن يجعل له بديلاً، كالأمارة التي تفيد الظن، ثم كيف يتمسك بالمرجوح مع وجود الراجح؟ لكن الشارع قد صنع ذلك لحِكَمٍ ليس المقام مقام بيانها، فتأمل [16].

المثال الخامس: علم القاضي حسب رأي البعض غير المشهور[17]، فإن القاضي لو علم فلا يحق له أن يعمل برأيه ما دامت البينة على خلافه، وأما الرأي الآخر فإن القاضي لو علم فأنه مخير بين العمل بعلمه وبين العمل بالبينة، وهناك رأي آخر وهو ما قاله اليزدي: ((أو جعل طريق آخر في قباله)) [18] وإن لم يمثل بهذا.

المثال السادس: ما ذكره المحقق اليزدي من علم الإمام عليه السلام ، حيث قال [19]:((ومنها: إن الإمام عليه السلام  كان لا يحكم بعلم الإمامة في كثير من الموارد، بل بما يحصل له بالأسباب الظاهرية)) ثم استشهد بقوله صلى الله عليه وآله: ((إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان))، واستشهد بمعاملته صلى الله عليه وآله للمنافقين معاملة المسلمين وناقش فيه في الحاشية.
أقول: ونضيف له:إن الإمام عليه السلام كان يعلم أنه سيقتل لو أكل السم، لكنه لم يعمل بمقتضى علمه، كما أنه عالم بأشياء كثيرة بحقائقها لكنه كان لا يعمل بعلمه، بل بالبينة  ـ كما قال ـ وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله: ((إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان)) [20] وهي مرجوحة بالقياس لعلمه صلى الله عليه وآله إذ كثيراً ما كان الشهود يكذبون أو يخطأون، لكنه لم يكن يقضي بعلمه وهو يعلم ((فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار)) [21] وهذا يعني أن الآخذ غير حقه ليس له أن يتشبث بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله له، ويدعي أن هذا أصبح ملكي، كلا بل إنه لم ينتقل بحكم الرسول صلى الله عليه وآله إلى ملكك، لأن الرسول صلى الله عليه وآله مأمور بالظاهر.
إذن فقد امتنع الرسول صلى الله عليه وآله عن العمل بعلمه في باب القضاء، بل كان يعمل ـ حسب الرواية ـ بالبينة المرجوحة واليمين المرجوح قطعاً بحسب مقياس الإصابة واللاإصابة.
هذا كلام السيد اليزدي مع زيادة توضيح له، إذن فالقطع ليست حجيته ذاتية، بل هي قابلة للردع والمنع.

المثال السابع: الأحلام والكشف والشهود [22].
والحديث حول ما قال قدس سره جرحاً وتعديلاً، وحول سائر الأدلة والمناقشات طويل نكتفي منه بهذا المقدار[23].

-----------------
[1] وهو ما ذهب إليه السيد اليزدي قدس سره في حاشيته  على فرائد الأصول: ص26 .
[2] إن اعتبرناهما شرطين.
[3] إذا لم توجب كي التشويش كما أوضحناه في كتاب (الأوامر)، من أن التعليل بالمضرة أو المنفعة لا يخرج الأمر عن المولوية إلى الإرشادية.
[4] فقه الروى : ص57.
[5] حاشية فرائد الأصول1: 26.
[6] وقد ذكر بعضها وهي الأول لكن في الظن، والرابع والسادس وأضفنا لها بعضاً، وتتضح وجوه مناقشة بعض أمثلته مما سبق ومن كتاب (الحجة) لذا لم نتوقف ههنا لمناقشة الأمثلة أو تأييدها.
[7] وهي ما رواه  الكافي : ج7 ص 300 عن أبان بن تغلب، قال: ((قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل قطع أصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشر من الإبل، قلت: قطع اثنين، قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثاً، قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعاً، قال: عشرون، قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون، إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله،  ونقول الذي جاء به شيطان، فقال: مهلا يا أبان، هكذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله  إن المرأة تقابل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان، إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين)) .
[8] أجبنا عن إشكال امتناع نهي القاطع للزوم التناقض بنظره وغير ذلك من الإشكالات في كتاب : ( الحجة معانيها ومصاديقها) وفي كتاب : (الأوامر المولوية والإرشادية).
[9] حاشية فرائد الأصول1: 27 ـ 28 .
[10] انظر: درر الفوائد في الحاشية على الفرائد1: 93، كفاية الأصول: 363، نهاية النهاية2: 130 .
[11] انظر: أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 2، فرائد الأصول2: 201 .
[12] أضفنا هذين المثالين إلى ما ذكره السيد اليزدي،ولم يذكرهما, ويرد عليهما أنّه في موارد العلم الإجمالي فالمكلف يحتمل الخلاف دون  موارد القطع,وأجبنا في (الحجة) أو غيرها بأن هذا الفرق غير فارق في جهة البحث، فراجع.
[13] حاشية فرائد الأصول :  ج1ص 27.
[14] كما في الرواية التي رواها الحر العاملي في الوسائل27: 143، ح19، وهي: عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، أن أبا عبد الله عليه السلام قال للفيض بن المختار في حديث: فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس، وأومأ إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين.
[15] فمثلاً: إن ابن أبي عُمير وجمع كبير من الأصحاب ترك الرواية عن العامة؛ لأن بعض هؤلاء كانوا ينقلون روايات عن العامة لتثبيت العقائد الحقة، لكنهم بعد ذلك تركوها بالمرة، ومنهم: ابن أبي عُمير؛ لأنّه رأى أحياناً أنه قد حصل خلط في الأسانيد؛ إذ تصور أن الرواية هي عن الأمام الصادق عليه السلام  والحال أنه قد أخذها من أبي حنيفة مثلاً، فإن الراوي بشر قد يخطئ، فلذا أغلقوا هذا الباب, وهذه مسألة مهمة، وهي: إن الإنسان عليه أن لا يراجع كتب العامة قدر المستطاع لما سبق، ولكي لا تضيع عليه الموازين من حيث لا يدري.  وهذا بحث قد نعقد له فصلاً خاصاً .
[16] فيما سبق وجوه للتأمل، فتأمل.
[17] انظر: المبسوط8: 128، السرائر :ج2ص 179.
[18] حاشية فرائد الأصول: ج1ص 26.
[19] حاشية فرائد الأصول1: 27.
[20] الكافي : ج 7ص 414.
[21] تكملة الحديث المتقدم.
[22] وكذلك القياس والاستحسان وشبههما.
[23] فقه الروى: ص 64.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2915
  • تاريخ إضافة الموضوع : 25 ربيع الاول 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18