• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : خارج الأصول (التزاحم) .
              • الموضوع : 54- الاستدلال بتفرع الحقوق من حق الله والمناقشة - بحث عن مناشئ الحقوق والكشف عنها والجاعل لها ، و فوارقها .

54- الاستدلال بتفرع الحقوق من حق الله والمناقشة - بحث عن مناشئ الحقوق والكشف عنها والجاعل لها ، و فوارقها

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(54)


رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام
ومطلع رسالة الحقوق التي قد يصح الاستناد إليها في تحقيق حال تقدم حق الله على حق الناس أو عدمه، وفي تحقيق حال درجات الحقوق وأهميتها هو: ((اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْكَ حُقُوقاً مُحِيطَةً بِكَ في ِكُلِّ حَرَكَةٍ تَحَرَّكْتَهَا أَوْ سَكَنَةٍ سَكَنْتَهَا أَوْ مَنْزِلَةٍ نَزَلْتَهَا أَوْ جَارِحَةٍ قَلَبْتَهَا أَوْ آلَةٍ تَصَرَّفْتَ بِهَا، بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ
وَأَكْبَرُ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَيْكَ مَا أَوْجَبَهُ لِنَفْسِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْحُقُوقِ وَمِنْهُ تَفَرَّعُ، ثُمَّ أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ لِنَفْسِكَ مِنْ قَرْنِكَ إِلَى قَدَمِكَ عَلَى اخْتِلَافِ جَوَارِحِكَ: فَجَعَلَ لِبَصَرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِسَمْعِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِلِسَانِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِيَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِرِجْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِبَطْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِفَرْجِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، فَهَذِهِ الْجَوَارِحُ السَّبْعُ الَّتِي بِهَا تَكُونُ الْأَفْعَالُ
ثُمَّ جَعَل عَزَّ وَجَلَّ لِأَفْعَالِكَ عَلَيْكَ حُقُوقاً فَجَعَلَ لِصَلَاتِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِصَوْمِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِصَدَقَتِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِهَدْيِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِأَفْعَالِكَ عَلَيْكَ حَقّاً
ثُمَّ تَخْرُجُ الْحُقُوقُ مِنْكَ إِلَى غَيْرِكَ مِنْ ذَوِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْكَ وَأَوْجَبُهَا عَلَيْكَ حَقُّ أَئِمَّتِكَ ثُمَّ حُقُوقُ رَعِيَّتِكَ ثُمَّ حُقُوقُ رَحِمِكَ فَهَذِهِ حُقُوقٌ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا حُقُوقٌ فَحُقُوقُ أَئِمَّتِكَ ثَلَاثَةٌ أَوْجَبُهَا عَلَيْكَ...))([1])
وتحقيق الحال في الاستدلال بها في ضمن المطالب الآتية:

الاستدلال بـ((أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْكَ حُقُوقاً مُحِيطَةً بِكَ)) إجمالاً
المطلب الأول: في الاستدلال للطرفين إجمالاً بقوله عليه السلام: ((أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْكَ حُقُوقاً مُحِيطَةً بِكَ)).
إذ قد يقال: ان المستفاد من الرواية ان كل الحقوق هي لله فلا أرجحية لبعضها على الآخر إذ ظاهر كلامه عليه السلام ان حق الناس هو حق الله أيضاً فانه هو جاعلها فحق الناس كحق الله حقٌّ له تعالى فهما سيان.
وقد يقال: دليل الارجحية هو انه تعالى المصدر للحقوق كلها فكيف يتساوى حقه مع حق غيره مع انه الجاعل لحق غيره؟
وقد يقال: حيث كان هو الجاعل لها جميعاً فقد تساوت لتساوي نسبتها إليه جل اسمه، وإنما لا تتساوى إذا تفرّع بعضها على بعض بان جعل لنفسه حقاً وهو المسمى بحق الله ثم فرَّع من حق الله المجعول حقَّ الناس؛ إذ لا يزيد الفرع على الأصل بل هو دونه.
وفيه: انه ليس كذلك إذ لم يفرِّع عليه السلام حق النفس والجوارح وحق الناس على حقه جل اسمه أي على الصلاة أو العبادة، بل جعلها في عرض واحد متفرعة منه تعالى فلا دلالة في ذلك على أرجحية بعضها من بعض، وسيأتي تحقيق وتعميق هذا المطلب بإذن الله تعالى.

الأهمية اما بلحاظ الجاعل أو الجعل أو المجعول
المطلب الثاني: ان الأهمية تدور مدار أمور:
فقد تكون بلحاظ حال الجاعل، فأين ما شرّعه الله تعالى أو ما جعله حقاً مما شرّعه الإنسان العادي وما جعله حقاً؟
وقد تكون بلحاظ حال الجعل وكيفيته
وقد تكون بلحاظ حال المجعول ووزنه أو درجته وأهميته، فلا بد من لحاظ كل من الثلاثة منفصلاً ثم المقارنة بينها والمفاضلة لدى التزاحم، ثم لا بد من التدبر في كلام الإمام عليه السلام وانه يتحدث عن (الجاعل والفاعل) أو (الجعل والفعل) أو (المجعول والمتعلَّق)، وسيأتي تفصيل هذا المطلب بإذن الله تعالى.

الفرق بين منشأ الحق وجاعله والكاشف عنه
المطلب الثالث: ان للحقوق مناشئ كما لها كواشف، ولها أيضاً فواعل أو جواعل، فهذه ثلاثة أمور يجب التمييز بينها وعدم الخلط بينها فمنشأ الحق غير جاعله وهما غير الكاشف عنه بل قد تتغاير مع الحاكم به، وتفصيله:

من هو جاعل الحق؟
أولاً: ان (جاعل الحق) قد يقال بانه الله تعالى كما ذهب إليه الالهيون، وقد يقال بانه الشعب كما ذهب به المسمون بالديمقراطيين، وقد يقال بانه الحاكم أيّاً كان، أو من بيده الاعتبار مهما كان فرداً أو جهة.

ما هو الكاشف عنه؟
ثانياً: ان الكاشف عن الحق وان هذا حق أو لا، قد يكون هو الشرع وقد يكون هو العقل وقد تكون الفطرة وقد يكون بناء العقلاء أو سيرتهم، فمثلاً: ان الإنسان يدرك بعقله بل وبفطرته([2]) ان الحيازة موجبة لنوع من السلطنة على الشيء لذا يرى غيره ظالماً إذا حاول انتزاعه منه قهراً، فالعقل كاشف عن ذلك أو حاكم به لكنه ليس هو المنشأ لهذا الحق بل – وكما سيأتي - السلطة التكوينية هي المنشأ لهذا الحق الاعتباري.

مناشئ الحقوق الخمسة:
ثالثاً: ان (المنشأ للحق) قد يكون (المصلحة والمفسدة) وقد يكون (السلطة والسيطرة) وقد يكون (العدوان) وقد يكون (الاقتضاء الذاتي) وقد يكون (التباني)([3]).
فالأول: مثل ان المصلحة تقتضي جعل القوّامية للزوج على الزوجة قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)([4]) وهذه القوّامية ليست منشؤها سيطرته عليها تكويناً بل لأن الأمر دائر بين جعل الولاية والقوامية إما لهما فيلزم النزاع، أو لها، أو له وهو أرجح لعقلانيته وعاطفيتها كما فصّل في محله.
والثاني: كالحيازة والإحياء فان منشأ حقه هو سيطرته تكويناً على الطائر أو السمك أو الثمرة.
والثالث: كما لو اعتدى عليه فكسر يده أو قتل ابنه فان عدوان الغير عليه منشأ لحقه في القصاص أو الدية، وكما لو كسر متاعه (بالمعنى المصدري بل حتى الاسم مصدري) فانه يستحق عليه العوض، فضمانه وهو حكم وضعي منشؤه العدوان (المصدري أو الاسم مصدري)
لكن مرجع هذا إلى السلطنة إذ لولا سلطنته على نفسه وماله لما كان لمن أخذه منه معتدياً ولا كان له عليه حق.
والرابع: كحق الطفل الرضيع على والديه فانه للاقتضاء الذاتي لا لسيطرتهما عليه وكذلك حق الشيخ الكبير في ان يُحترم ويُرحم.
والخامس: ككافة العقود حيث تبانى الأجير مع الموجر مثلاً، بل وكذا تباني العقلاء في الأمور العامة مما يسمى بالعقد الاجتماعي، لديهم ولدى الشارع في الجملة.
ولا يخفى ان النسبة بينها من وجه فقد تجتمع مجموعة من هذه المناشئ.
والشاهد هو ان هذه مناشئ للحقوق وليست جواعل لها بل الجاعل الله تعالى أو النبي أو الحاكم أو الشعب، وعند ملاحظة هذه المناشئ نستطيع الحكم على الحاكم بالتشريعات والأحكام المختلفة تكليفيةً ووضعيةً بانه عادل أو ظالم، مصيب أو مخطئ (في غير الله والمعصومين كما هو واضح) فالجاعل غير الـمُنشئ كما ان الكاشف عن ذلك غيرهما كما لا يخفى.

مثال تطبيقي: منشأ حق الحاكم في التصرف في المملكة
اختلف العقلاء بالمعنى الأعم في المنشأ الذي يمنح للحكومة أو الحاكم الحقَّ في التصرف في شؤون العباد والبلاد، سواءً في ذلك من ذهب إلى تضييق صلاحياته ومن ذهب إلى توسعتها على درجاتها ومراتبها الوسيعة، إلى الأقوال التالية في مناشئ حقه:
الاول: ان المنشأ هو الله تعالى، وهو ما يذهب إليه من يرى ولاية الفقيه أو ولاية الفقهاء ولو كان ذلك من باب الحسبة أو القدر المتيقن، وهذا النوع هو المسمى لدى الحداثويين بالحكم الثيوقراطي([5]).
الثاني: ان المنشأ هو الشعب، وهو المسمى بالحكم الديمقراطي.
الثالث: ان المنشأ هو الكفاءة، وهو ما قد يسمى بالحكم التكنوقراطي.
الرابع: انه هو الوراثة، وكان ذلك هو المعهود سابقاً ولا يزال جارياً في بعض الدول.
الخامس: انه هو القهر والغلبة، بانقلاب عسكري أو شبهه.
ومحل الشاهد ههنا هو الخلط بين الـمنشَأ والفاعل: فكونه تعالى هو المنشأ يعني انه الجاعل وكذا كون الشعب هو المنشأ، واما كون الكفاءة هي المنشأ فالمراد به المقتضي فهي بمعناها وكما ينبغي، وكذلك القهر أو الوراثة فليس القول بانها المنشأ يراد به الجاعل بل يراد به المقتضي وانه المنشأ وإن كان ذلك بزعمهم.

ولاية الفقيه غير مقيّدة بالقهر والغلبة
تنبيه: الأدلة على ولاية الفقيه، على فرض تماميتها وبقدر دلالتها، تفيد الولاية، في زمن الغيبة، لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط إذ لا يوجد نصب خاص لفقيه معين في زمن الغيبة، وعليه: فإن أفاد مثل ((الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الْإِسْلَامِ))([6]) و((أَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ))([7]) وغيرهما، الولاية للفقيه أفاد الولاية لكل من جمع الشرائط فكلهم أولياء، وعليه: فإنّ قَهْرَ أحدِهم وإمساكه للسلطة بالقوة، بانقلاب أو ثورة، لا يسلب الولاية من سائر الفقهاء ولا يحصرها فيه بالبداهة لوضوح ان القهر والغلبة ليست من أدلة الولاية أو أسبابها كما ان كافة أدلة ولاية الفقيه لا نجد فيها ما يشير إلى أن الغلبة من شرائطها وقد فصلنا الكلام عن ذلك في (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع.
كما لا يخفى ان الشرع فيما حكم به من الولاية فإنما كان منشؤه المصلحة والكفاءة ولذلك جعلها الشارع، فهو مجمع الأمرين معاً.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين


 من وصية الإمام الكاظم عليه السلام: ((يَا هِشَامُ إِنَّ كُلَّ النَّاسِ يُبْصِرُ النُّجُومَ وَلَكِنْ لَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ مَجَارِيَهَا وَمَنَازِلَهَا وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ تَدْرُسُونَ الْحِكْمَةَ وَلَكِنْ لَا يَهْتَدِي بِهَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِهَا))
تحف العقول: ص392.

--------------------------------------------
([1]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ص255.
([2]) لوجود ذلك في الحيوان أيضاً.
([3]) ذكرنا في الدرس (210) من التفسير مناشئ أخرى فراجع وقد يرجع بعضها إلى ما ذكر هنا أو لا. فتدبر وتأمل
([4]) سورة النساء: آية 34.
([5]) ويشمل ولاية الكهنة وأشباههم.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص38.
([7]) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، ج2 ص469.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3011
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 17 جمادي الاول 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20