بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام في الاحتياط المذموم وتقدم ذكر صور من الاحتياط المذموم وهذه صور أخرى:
4- الاحتياط في حدود سلطة الغير
الصورة الرابعة من الاحتياط المذموم هي الاحتياط في حدود سلطة الغير: فإن احتياط الإنسان بالتنازل عن حقه المالي، مثلاً، كلاً أو بعضاً ممدوح، أما أن يحتاط في حق الغير فهو مذموم، فإذا كان عليه خمس أو حق آخر، فله أن يقتصر على المقدار الأقل إذا شك في مقداره والأحوط استحباباً دفع الأكثر فهو ممدوح، أما إذا كان وكيلاً للغير في إدارة أمواله وإخراج حقوقها، فإن علم أنه ذو صلاحية، لشمول وكالته لحالة الاحتياط، فالاحتياط غير مذموم، وإن علم بعدم الشمول فهنا الاحتياط محرم، وإن شك هل أن وكالته شاملة لدفع الأكثر أم لا، فاحتياطه مذموم، لأن الناس مسلطون على أعمالهم، أما الوكيل فهو مسلط على أموال الموكل بمقدار ما أذن له فكل ما شك فيه يبقى على الأصل أي أنه لا يجوز له التصرف إلا بالقدر المتيقن.
وكذلك حال سائر النظائر كالوصي على صرف الثلث، فليس له أن يحتاط بدفع الأكثر حين الشك، لأن الاحتياط في حق الغير، وهم الورثة، والموارد كثيرة في الفقه.
5- الاحتياط المضر بالنفس الصورة الخامسة من الاحتياط المذموم: الاحتياط المضر بالنفس، مثلاً إذا كان الصوم يضر به، لمرض أو غيره، فالاحتياط بالصوم مذموم، إذا كان الضرر غير بالغ وإلا فهو حرام ومبطل.
مثال آخر: الوضوء للمريض إذا كان مضراً به غير جائز، فالاحتياط بترك التيمم، والاتيان بالوضوء مذموم، ولكن هل يبطل الوضوء أم لا؟
قسم من الفقهاء فصل، وقسم أطلق القول بالبطلان، والبعض قال بالصحة، فصاحب العروة مثلاً أطلق البطلان، والبعض كالسيد القمي فصّل بين الوضوء الضرري فباطل، والوضوء العسري أو الحرجي فصحيح. ( من هو القائل بالصحة مطلقا)
ولا بأس بالإشارة الموجزة لمناشئ هذا الاختلاف:
فإن المسألة مبتنية على تنقيح عدة مباحث:
المبحث الأول: هل النهي في العبادة يقتضي الفساد أم لا؟ فإن قلنا بذلك فلا فرق بين الضرر والحرج والعسر في البطلان، وكان كلاهما منهياً عنه، فتأمل.
المبحث الثاني: إن أدلة الطهارة المائية هل هي مطلقة أم لا؟ ذهب إلى ذلك السيد الخوانساري فقال بصحة الوضوء مطلقاً حتى الضرري.
المبحث الثالث: ما هو مفاد لا ضرر ولا حرج؟
فإن في مفاد لا ضرر خمس أقوالاً، منها:
1) إنها تفيد النهي، ولا شيء منهي عنه يمكن التقرب به، فهو باطل.
2) إنها نفي لا نهي، وعلى هذا فإن الوضوء الضرري لم يجعل، فهذا الوضوء باطل، لأنه بلا جعل ولا أمر به. أما قوله تعالى: (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فالمفصلون يستفيدون منها نفي الإلزام لا نفي الأصل، أما المطلقون فيستفيدون منها نفي الأصل أيضاً، فالمفصل يقول إذا كان الوضوء ملزماً به، فهو حرجي أما إذا خيّر بين الوضوء والتيمم فهنا ليس الحرج ناشئاً من قبل الشارع ليكون منفياً بالآية (ما جعل...)، بل إذا اختار المكلف الوضوء فإنه سيقع في الحرج الناشئ منه ولم ترفعه أدلة الحرج.
إذن (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) لو استفيد منها أن الإلزام مرفوع، فالوضوء صحيح لأن الوضوء قد شرّع، لكن لا إلزام فيه، أما لو استفيد من الآية أنه لم يجعل الحكم الحرجي أصلاً، كما لم يجعل الوضوء الضرري فهذا الوضوء باطل. فعلى رأي المطلقين بأن الضرر والحرج كلاهما يستلزم بطلان الوضوء، فهنا الاحتياط بالوضوء مذموم، لكن على قول المفصلين الذين يرون الوضوء الحرجي صحيحاً، فقد يقال إن هذا الاحتياط فيه حزازة من دون مذمة، لأن المذموم لا يتقرب به إلى الله تعالى، فهذا الوضوء صحيح على مبناهم لأنه مما يتقرب به ولا ذم، فهو كالصلاة في الحمام، ذو حزازة وبها فسرت الكراهة -كما ذهب إليه في الكفاية- نفس الكلام يجري في المقام فالوضوء الحرجي ليس فيه مذمة بل حزازة.
6- الاحتياط المضر بالغير
الصورة السادسة من صور الاحتياط المذموم: الاحتياط المضر بالغير، وذلك كاحتياط الزوجة بعباداتها بما يضر أو يخل بحق الزوج، أو احتياط المرضعة بالابتعاد عن كثير من الأطعمة المحللة شرعاً، تجنباً للشبهة، بما يضر بالرضيع فهذا احتياط مذموم.
7- الاحتياط الموجب للتنفر من الدين
الصورة السابعة من الاحتياط المذموم: الاحتياط الموجب للتنفر من الدين، مثل الاحتياط بعدم مصافحة الآخرين مظنة النجاسة، ومثل تجنب الأكل والجلوس مطلقاً في دار من لا يخمس، فهنا صورتان:
الصورة الأولى: أن لا أعلم إن الخمس قد تعلق بعين هذه الدار وعين هذا الطعام وإن احتملته فالاحتياط هنا مذموم.
الصورة الثانية: أن أعلم بتعلقه به بعينه -والمشهور قالوا بتعلق الخمس بالعين لا بالذمة، ولعل المخالف نادر، هذه كبرى، فلو علم أن هذه الدار قد تعلق بها الخمس، صغرى- فهنا يجوز الدخول والأكل ولكن يجب تخميس مقدار الطعام ومقدار البقاء في الدار، فلو أراد الاحتياط بعدم الذهاب وكان الاحتياط منفراً عن الدين فهو مذموم، للعنوان الثانوي، فتأمل، ومثل إغلاق بعض الدول المسماة بالإسلامية المحلات أوقات الصلاة، فهذا احتياط مذموم، لأن الصلاة أول الوقت أمر مستحب، وجبر الغير على إغلاق محله أو شركته، أمر محرم، واللا اقتضائي لا يزاحم الاقتضائي، وكذا الاحتياط بعدم معاشرة الكتابي مطلقاً في الجامعة ونحوها، للأقليات المسلمة التي تعيش في دولهم، مما يوجب التنفر من الدين أو الاحتياط بمنع المرأة من اسفار وجهها رغم تقليدها مَن يجوّزه. ويأتي الكلام في بقية الصور المذمومة إن شاء الله تعالى وصلى الله محمد وآله الطيبين الطاهرين. |