• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : خارج الأصول (التزاحم) .
              • الموضوع : 69- توضيح البحث السابق ودفع إشكالات عنه .

69- توضيح البحث السابق ودفع إشكالات عنه

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(69)


تتمة: الصحة اما شرعية أو عرفية أو واقعية
سبق: (الصحة اما واقعية أو شرعية أو عرفية، فإن كانت شرعية فجاعلها الشرع، أو عرفية فمرجعها العرف وممضيها الشرع فعادت إليه، أما إذا كانت واقعية فقد يتوهم انها تكون دقية حينئذٍ لكن قد يقال بان العنوان الواقعي أيضاً يكون الدال عليه عرفياً أي بحسب ما يفهمه العرف من اللفظ المشير إليه فالمرجع العرف إذاً. وسيأتي بيان ذلك)([1])
وتوضيحه: ان موضوعات الأحكام والاعتباريات مطلقاً، كالبيع والطلاق والصلاة والصحة والفساد، اما شرعية([2]) أو عرفية([3]) أو واقعية([4]):
فإن قيل بان الصحة والفساد أمران انتزاعيان – كما بنى عليه الشيخ – فهما واقعيّان وكذا لو قيل بانهما واقعيّان غير انتزاعيين كالقول بانهما يعنيان كون الشيء مؤثراً فتأمل.
وإن قيل بانهما اعتباريان فهما اما شرعيان أي باعتبار الشارع أو عرفيان.

الصحة الشرعية اعتبار شرعي مجعول للشارع
أ- فإن قلنا بانهما شرعيان، فالأمر واضح إذ هما اعتبار شرعي فله ان يعتبر (يعتبر هذا البيع صحيحاً) وله ان لا يعتبر (فيكون فاسداً) فهما مجعولان للشارع بما هو شارع، وقد مضى ان العرف والوجدان بذلك شاهدان.

الصحة العرفية كذلك اعتبار شرعي مجعول بالإمضاء
ب- وإن قلنا بانهما عرفيان، فالأمر كذلك إذ كل معتَبر عرفي (كالبيع) ككل حجة عرفية (كخبر الثقة) فانه بحاجة إلى إمضاء من الشارع والإمضاء يعني ان الشارع قد اعتبره أيضاً، فهو معتبَر شرعي، بعبارة أخرى: كل ما أمضاه الشارع من العرفيات من عقود وإيقاعات وحجج وغيرها فانها حدوثاً عرفية لكنها بقاءً شرعية([5]).
بعبارة أخرى: الإمضاء تأسيس في مرحلة العِلّة المبقية في عالم اعتبارٍ آخر وهو عالم اعتبار الشرع وليس كما قد يتوهم انه مجرد إخبار أو تأييد بل الإمضاء يعني ان ما هو معتبر عرفاً قد اعتبر شرعاً فالإمضاء إنشاء ونوع تأسيس، وفرقه عن التأسيس هو في ان التأسيس اعتبار ابتدائي من الشارع من غير ان يسبقه اعتبار آخر (عرفي أو غيره) اما الإمضاء فاعتبار شرعي مسبوق باعتبار آخر.
وتحليل ذلك في مثل حجية خبر الثقة ان قولنا انه حجة عرفاً يعني انه منجز ومعذر لديهم أو يعني متممية الجعل أي متممية الكاشفية أو إلغاؤهم لاحتمال الخلاف، فإمضاء الشارع يعني انه جعله منجزاً ومعذراً لديه كما هو لديهم ويعني انه ألغى احتمال الخلاف كما ألغوا، ولذا جعلها الطريق إلى أحكامه، وانه تمّم الكشف كما تممّوا.

الصحة الواقعية، مجعولة شرعاً في عالم الإثبات
ج- وإن قلنا بانهما واقعيان، فكذلك بوجه لطيف وهو ان الطريق إلى الواقع في الموضوعات والحجج هو العرف، إذ لا طريق لنا إليه غيره، إلا لو تدخل الشارع فهو حينئذٍ الطريق، والعرف قد يكون صانعاً للواقع وقد يكون كاشفاً عنه فالأول كما في المعدود أو المكيل والموزون فان العرف يوجِد الموضوع، وهو كونه معدوداً مثلاً، فيتبعه الحكم الشرعي بجواز الربا فيه، والثاني كما في الموت والحجة بل ومثل البيع أيضاً فتأمل وغيرها فان المدار يكون حينئذٍ على كاشفيته فقد تكون أوسع أو أضيق فانها المدار ما لم ينكشف الخلاف.
فمثلاً: الموت الواقعي هو موضوع تقسيم التركة وإرثها وموضوع بينونة الزوجة، لكن ما يراه العرف موتاً فهو المعدود موتاً واقعياً فإذا رأى توقف القلب والمخ تماماً موتاً فانه تترتب عليه الأحكام وإن عادت إليه الحياة بعد يومين مثلاً([6]) فمهما كان الموت الواقعي إلا ان الموت العرفي هو الطريق إليه، فإذا كان الموت العرفي هو الطريق مع انه قد يكون أوسع أو أضيق احتاج إلى إمضاء الشرع، في توسعته وتضييقه، فعاد شرعياً. فتأمل
وكذلك الفرسخ وغيره، بناء على رأي مثل السيد الوالد، والخلاف ينشأ من هذا الموطن وهو ان الفرسخ الواقعي إذا كان هو الملاك فان العرف إذا تسامح فيه فرأى التقريبي فرسخاً فهل أمضى الشارع مرآتيته أو لا، فالمرجع حتى في مدارية الواقع بما هو هو مطلقاً إلى إمضاء الشارع للكاشف عنه المغاير له في الجملة وعدمه. فتأمل

الصحة التنزيلية، مجعولة للشارع
كما سبق: (وفي (الصحة والفساد) فانهما بما لهما من المعاني الواقعية (المطابقة، ترتّب الأثر.. الخ) ليست بيد الشارع كما قال، لكن له ان ينزّل اللاصحيح (غير المستجمع للأجزاء والشرائط أو غير المطابق للمأمور به أو غير ذي الأثر بما هو هو) منزلة الصحيح، وقد فَعَلَ ذلك)([7]) و(بعبارة أخرى: (جَعْلُ المأتيِّ به المطابِق للمأمور به، مطابِقاً له) ليس بيد الشارع، لكنَّ جَعْلَه المأتيَّ به غير المطابق للواقع مطابِقاً له تنزيلاً، بيده)([8]).

إشكال: الشارع تصرف في المطابَق لا في المطابَقة
لا يقال: الشارع تصرف في المطابَق لا في المطابَقة، أي ان الصلاة إذا كانت أجزاؤها عشرة فأمر بها فالمأمور به هو الصلاة ذات الأجزاء العشرة اما الجاهل والناسي وشبههما فانه خفّف على العبد وامتنّ وجعل المأمور به منها هو الأجزاء التسعة (أي غير القراءة التي نسيها أو السجود الذي نسيه مثلاً) فقد تصرف الشارع في المأمور به فإذا اتى الناسي أو الجاهل قصوراً بالصلاة ذات الأجزاء التسعة فان المطابقة قهرية أيضاً وليس بيد الشارع منها شيء. إذ الصلاة ذات الأجزاء التسعة هي المأمور بها حينئذٍ.

الجواب: بل تصرف في المطابقة فقط
إذ يقال: كلا، بل الشارع تصرف في المطابَقة لا في المطابَق، فانه نزّل الصلاة الفاقدة لجزء المأمور به منزلة الواجدة له أي انه اعتبر اللامطابِق مطابِقاً ونزّله منزلته.

إذ الجهل لا يغير الواقع عكس العنوان الثانوي
والدليل على عدم تصرفه في المطابَق والمأمور به نفسه هو وضوح اختلاف حال الجهل والنسيان عن حال الاضطرار وشبهه من العناوين الثانوية، لبداهة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والناسين عكس المضطر والمكرَه، فإذا نسي الإتيان به فلا ترتفع جزئيته بنسيانه كما لا يرتفع وجوبه بجهله وجوبه أو بنسيانه لوجوبه غاية الأمر انه يرتفع تنجّزه، والتنجّز خارج عن حقيقة الحكم وليس بحكم وضعي، على انه لو سلَّم انه حكم وضعي فهو خارج عن البحث إذ الكلام عن الصحة بمعنى المطابقة – حسب تفسير الشيخ – وقد اثبتنا انها مجعولة تنزيلاً في الجاهل بوجوب هذا الجزء أو الناسي للإتيان بالجزء.
والحاصل: انه بقي جزء وواجباً (إنشاء وفعليةً وهما الحكم بل ثانيهما الحكم، لا الاقتضاء ولا التنجز) فلم يغيّر الشارع المأمور به وهو المطابَق لكنه تصرف في المطابقة فاعتبر، حسب قاعدة الميسور العامة أو الخاصة في مواردها بأدلتها، المأتي به غير المطابِق للمأمور به مطابِقاً له فقد اعتبر الناقص كاملاً لا انه تصرف في الكامل بجعله ناقصاً، وهذا على عكس الاضطرار فانه يغير الحكم الثبوتي ولذا عبّروا عنه بانه واقعي ثانوي، ومنه موارد التقية وكذلك قاعدة الإلزام على المنصور من انها حكم واقعي ثانوي وليست حكماً ظاهرياً.

لتغيّر المصلحة بالعناوين الثانوية، لا بالجهل
والوجه في كل ذلك ان المصلحة في المتعلَّق لا تتغير بالعلم أو الجهل لكنها تتغير بالاضطرار والإكراه وسائر العناوين الثانوية، لذلك فانه إذا جهل لا يتغير حكمه الواقعي اما إذا اضطر تغير هذا. فقد تغيّر، في الاضطرار، المأمور به، ولم يتغير المأمور به في صورة الجهل، فالميسور لا يفيد تغيّر المأمور به بل تنزيل الفاقد منزلته.
وسيأتي جواب آخر مبني على تسليم كون المطابقة انتزاعية، لكنها مجعولة بجعل منشأ انتزاعها، فانتظر.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين


 قال الإمام الصادق عليه السلام: ((الزَّاهِدُ [فِي الدُّنْيَا] مَنْ وُعِظَ فَاتَّعَظَ وَمَنْ عَلِمَ فَعَمِلَ وَمَنْ أَيْقَنَ فَحَذِرَ، فَالزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا قَوْمٌ وُعِظُوا فَاتَّعَظُوا وَأَيْقَنُوا فَحَذِرُوا وَعَلِمُوا فَعَمِلُوا إِنْ أَصَابَهُمْ يُسْرٌ شَكَرُوا وَإِنْ أَصَابَهُمْ عُسْرٌ صَبَرُوا))
مستدرك الوسائل: ج12 ص44.

 

-------------------------------------------------------

([1]) راجع الدرس (68).
([2]) كالصلاة فانه موضوع مخترع شرعي.
([3]) كالبيع.
([4]) كالموت.
([5]) وعرفية أيضاً.
([6]) وكذا لو جمّدت أعضاؤه بطريقة علمية (في درجة برودة تحت الصفر) ليحيى بعد ألف سنة مثلاً كما ان العلم يسعى لذلك متعلمين من عجيب صنع الله إذ رأوا بعض الأسماك المجمدة لمئات الألوف من السنين تحيى عند إخراجها من التجمد، فهل هي ميتة عرفاً أو لا؟
([7]) راجع الدرس (68).
([8]) راجع الدرس (68).


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3058
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 15 جمادي الاخر 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19