• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 261- مباحث الاصول: بحث الحجج (حجية الشهرة) (3) .

261- مباحث الاصول: بحث الحجج (حجية الشهرة) (3)

مباحث الاصول: بحث الحجج (حجية الشهرة)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين*

الفائدة الثالثة: أن نقل المشهور للرواية  أعم من الالتزام بحتمية الصدور أو صحة الدلالة  ؛ لأن مبناهم لا يختصر على نقل الرواية الصحيحة  فقط ؛ لذا فصرف الشهرة الروائية لا توجب نفي الريب الحقيقي  بل غايته النسبي والإضافي؛ لذا ليس كل مشهور قطعي المتن أو الدلالة؛ وإنما الشهرة  بنحو المقتضي لا العلة التامة لنفي الريب ،  نعم ما هو مشهور رواية وفتوى وعملاً  يمكن القول إنه مما  لا ريب فيه.

بحث تطبيقي:
يمكن الاستدلال بمجموعة مستفيضة - بل متواترة-  من الروايات الشريفة الواردة حول الاستشارة واتباع المشير، وسنقتصر هنا على روايتين.
أولاً: ما جاء في المرفوعة من قوله عليه السلام: خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، فقلت يا سيدي: إنهما معاً مشهوران مأثوران عنكم، فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك)[1] .
وثانياً: ما جاء في المقبولة من قوله عليه السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمها ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله حلالٌ بيّن وحرامٌ بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم) [2].
أما الاستدلال بالمقبولة فإنه قد أمر الإمام عليه السلام بالأخذ بـ(المجمع عليه) وعلله بأن ( المجمع عليه لا ريب فيه) والمراد بـ(لا ريب فيه) عدم الريب الإضافي لا الحقيقي كما سيأتي تفصيله فالمجمع عليه أقل ريباً مما يعني أنه أقرب للواقع من غيره ولذلك أمرنا بالتمسك به.
لا يقال: إن اللام في (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) للعهد فتدل الرواية على نفي الريب عن خصوص الخبر المجمع عليه لا مطلق ما لا ريب إضافي فيه وإن كان اجتهاداً واستنباطاً.

إذ يقال:
أولاً: إن الأصل في اللام الجنس كما فصلناه في موضع آخر.
وثانياً: أن ظاهر التعليل هو التعليل بكبرى ارتكازية لا تعبدية ، وتخصيص الكبرى بـ(الرواية المجمع عليها) يخرجها عن الارتكازية إلى التعبدية، واحتمال خصوصية في الخبر والرواية موجبة لترجيحه بالشهرة دون غيره يدفع بالأصل.
ومن ذلك يظهر أن سبق (الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك) غير مضر وغير موجب لعهدية اللام في (فإن المجمع عليه)، ألا ترى أن الطبيب أو المولى إذا قال للمريض أو لعبده[3]: (لا تأكل الرمان الحامض فإن الحامض كذا وكذا) لا يسبب سبق الحامض حمل (فإن الحامض) على خصوص الرمان، بل أن العرف يرى اللام للجنس لا للعهد رغم سبق معهود، ولو أكل برتقالاً حامضاً لامه العقلاء على ذلك ولم يقبلوا منه تعلله بأن اللام للعهد.
هذا إضافة إلى ما سبق مفصلاً عند الكلام حول الآية الكريمة ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [4]) من أن سبق معهود لا يسبب حمل اللام على العهد فيما كان المقام مقام تعليل وفيما ذكر المحلى بال في ضمن العلة.
نعم، لو لم يكن المقام مقام التعليل يكون السبق سبباً لكون اللام للعهد كما في ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) [5] ولذا لا تحمل اللام على العهد عرفاً لو وقع (الرسول) ضمن علة كما لو قال تعالى : (أرسلنا إلى فرعون رسولاً لأن رحمتنا تقتضي إرسال الرسول أو لأن الرسول سبب لهداية بعض ولإتمام الحجة على بعض آخر) ولو كان تأمل في محلى بأل وقع علة لما وقع فلا مجال له في محلى جعل علة للأمر أو النهي كما فيما نحن فيه (فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه) ،  وكما في قول المولى انصر زيداً إذا ظلم أو انصر هذا الرجل المظلوم فإن المظلوم تجب نصرته إلى غير ذلك من الأمثلة.
ثالثاً: سلمنا أن اللام للعهد إلا أن الحكم هنا - وهو الترجيح-  منصوص العلة (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) ؛ والعلة معممة ومخصصة لدوران الحكم مدارها ، فيتدعى من هذا الموضوع – الخبر-  إلى موضوع آخر كالاجتهاد مثلاً لمعممية العلة كما يتعدى من الخمر إلى النبيذ لعلة الإسكار واحتمال خصوصية في الخبر ؛ ولحاظ جانبي الموضوعية والطريقية يدفع بالأصل كما في لا تشرب الخمر لأن الخمر مسكر ، فتأمل.
لا يقال: ليست العلة هي عدم الريب الإضافي وإن كان فيه ألف ريب : لتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها ؛ مع أن الشهرة في الصدر الأول بين الروات وأصحاب الأئمة موجبة لكون الرواية مما يطمئن بصدورها بحيث يصح أن يقال عرفاً أنها مما لا ريب فيها كما لا يخفى ، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمينان بالصدور ، لا إلى كل مزية ولو لم توجب إلا أقريبة ذي المزية إلى الواقع من المعارض الفاقد لها [6].
فإنه يقال[7]: أولاً: إن هذه الدعوى عهدتها على مدعيها خاصة وأن الشهرة روائية لا فتوائية، ونقل المشهور لرواية أعم من الالتزام بصدورها أو دلالتها وكونها لا ريب فيها في نفسها؛ ولذا رووا روايات ضعافاً كثيرة في كتبهم حيث لم يكن مبناهم على نقل صحاح السند فقط ، بل كان على نقل مختلف الروايات فصرف الشهرة الروائية لا توجب نفي الريب الحقيقي عن الرواية بل غايته النسبي والإضافي،  فتأمل.
ثانياً: أن المرجحات الصدورية لو وجب الأخذ بها فليس ذلك إلا لإفادتها أقوائية كون المضمون هو حكم الله ؛ وذلك لأن صدور الحكم عن الإمام ملحوظ طريقاً إلى كشف أحكام الله الواقعية وحجية كلماتهم إنما هي بلحاظ كونهم الوسيلة إلى الله والطريق إليه؛ ولذا قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَقاوِيلِ * لأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)[8] و(وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)[9] ولذا لو انفكا لم يعمل به حتى في صورة القطع بالصدور[10]، فلو قطعنا بصدور خبر وشككنا في كون مضمونه حكم الله - إما لاحتمال التقية أو لاحتمال كون الأمر صورياً أو إرادة معنى آخر كناية أو ما أشبه ذلك - لما وجب علينا العمل به إلا لو دل دليل أو أصل على نفي تلك الاحتمالات مما يرجع بالآخرة إلى قيام حجة على تمامية المضمون وكاشفيته عن حكم الله ، وأما لو لم تقم حجة على كون هذا المضمون حكماً إلهياً لما وجب العمل به[11].
ولا يخفى أن مرادنا من المضمون هو ((مدلول الدليل وهو حكم الله)) لا ما اصطلح عليه الشيخ قدس سره في بحث المرجحات المضمونية[12]، فتأمل.
هذا لو قطعنا النظر عن عدم تمامية جعل المرجح المضموني قسيماً للصدوري والدلالي : إذ احتمال الاشتباه في التعبير يعني احتمال ذكره العام خاصاً والمطلق مقيداً أو بالعكس[13]أو إبدال المشترك اللفظي بأحد معنييه أو معانيه مما تبادر إلى ذهنه أنه المراد كإبدال القرء بالحيض أو بالطهر، أو التقديم والتأخير كإبدال ما ضرب زيداً إلا عمرو بـ: ما ضرب عمروٌ إلا زيداً،  وهكذا.
ومن الواضح أن معنى احتمال الاشباه هو احتمال عدم الصدور[14]أو احتمال عدم الدلالة ، فتأمل.
فمورد الرجحان هو الصدور أو الدلالة وإن كان محل المرجح هو المتن[15] أو الخارج كما في الشهرة الفتوائية التي ترجح صدور ما طابقته من الخبرين لا مضمونه دون صدوره وكذا ما يمكن فرضه من المرجحات المضمونية ، فتأمل.
ومما ذكرنا يظهر وجه الإشكال في كلام الشيخ قدس سره:  وإما أن يكون من حيث المضمون بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع[16].
وقد علق عليه الآخوند قدس سره  بقوله: لا يخفى أنه يمكن أن يجعل هذا أيضاً من موارد مرجح الصدور بداهة أن كون مضمون الخبر أقرب في النظر إلى الواقع يوجب أقربية صدوره كأفصحية لفظه بل هو أولى بذلك كما لا يخفى فتدبر جيداً[17].
ولأجل ما ذكرناه يقدم المرجح الدلالي على المرجح الصدوري وذلك لكون كاشفية الخاص مثلاً عن حكم الله أقوى من كاشفية العام عنه في مادة الاجتماع -لأنه نص أو أظهر بالنسبة له- وقوة سند العام،  بل قطعيته لا تنفع في تقديمه لعدم إفادتها قطعية كون هذا المضمون حكم الله ، ولو لا لحاظ طريقية مرجحات الصدور لأقوائية كون هذا المضمون هو حكم الله لما تم ذلك.
وقولنا كلما كان السند أقوى أفاد أقوائية المضمون ليس على نحو العلة التامة كي لا يمكن التخلف ويستشكل بتقديم الأرجح دلالة على المقطوع صدوراً، بل يعني أن الخبرين لو تساويا دلالة وجهة أو دلالة فقط -على المسلكين- كان المرجح الصدوري سبباً لأقوائية كون مضمونه هو حكم الله، وأما مع أقوائية أحدهما دلالة فليس موجباً لتلك الأقوائية فسببيته مشروطة بفقد المرجح الدلالي إذ هو مقتضي لا غير، أو يقال بكونه جزء العلة والجزء الآخر هو تساويهما دلالة.
والخلاصة: أن الوثوق بالصدور لا موضوعية له، بل إنما لوحظ طريقاً للوثوق بكون مضمون الصادر هو حكمالله، للشواهد الآنفة الذكر ولغيرها ، فليتدبر جيداً .
وإذا كان كذلك لزم التعدي منها إلى كل ما هو أقرب للواقع وإن كان بسبب التعدد كتظافر أكثرية أهل الخبرة على أمر.
ورابعاً: سلمنا أن الشهرة الروائية في نفسها مما لا ريب فيها لا أنها لا ريب فيها بالإضافة، وسلمنا أنها لا ريب فيها صدور لا مطلقاً  ؛ فإنه المترقب من الشهرة في الرواية ونفي الريب من جميع الجهات مخصوص بالمشهور رواية وفتوى وعملاً وهو غير مفروض في المقبولة والمرفوعة ولا في غيرهما[18].
وسلمنا أن اللا ريبية الصدورية ليس ملحوظة من حيث سببيتها لللاريبية المضمونية.
ولكن نقول: إن تحيث العلة بحيثية عند لحاظها باعتبار المورد ومنسوبة إليه لخصوصية فيه لا يخرجها عن المعممية.
بيان ذلك يظهر بالمثال التالي: فلو قال المولى لعبده : (لا تكرم زيداً لأنه لا ينصر المظلوم) وكان المترقب من زيد لكونه ثرياً نصرته بالمال، فهل تعمم العلة الحكم لكل من لا ينصره بالمال ممن من شأنه ذلك فقط أم أنها تعمم الحكم لمطلق من لا ينصره سواء لم ينصره بالمال أم باللسان[19].
وبعبارة أخرى: أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد ؛فكون زيد مترقباً منه النصرة المالية لا يخصص الوارد[20] حتى يتقيد الحكم بصورة معينة،  وكذا لو قال : (أكرمه فإنه خدوم) أو (فإنه ناصرنا)[21] وكانت حيثيات وأنواع الخدمة أو النصرة مختلفة[22]-  بل حتى لو لم يكن يجمعها إلا جامع انتزاعي كالضرب بالسيف في خدمة مولاه وهبة المال وعدم احترام من أهان المولى وعدم ترويجه، وكونه مطأطأ رأسه في حضوره[23] -  فإنه لا جامع حقيقي بين الوجود والعدم وبين مقولتي الفعل والوضع.
وفيما نحن فيه: تسليم كون الشهرة الروائية مما لا ريب فيها في نفسها صدوراً لا يسبب تخصيص الوارد (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) بـ: خصوص ما لا ريب فيه في نفسه صدوراً باعتبار أن المورد كذلك، وبعبارة أخرى : أن تحيث هذه العلة بهاتين الحيثيتين إنما هو بلحاظها منسوبة للمورد وملحوظة بالنسبة إليه لا في حد ذاتها ولو سبب ذلك خروجها عن العموم لخرجت جل العلل لو لم نقل كلها عن المعممية إلا لواجد خصوصية المورد.
هذا إضافة إلى لزوم أن يلتزما - الآخوند والكمباني -  بالتعدي عن مورد الرواية إلى خصوص المرجحات الصدورية الداخلية لا مطلقاً حتى لو كانت خارجية لكون المورد مرجحاً لا ريب فيه في نفسه وصدورياً داخلياً، فما وجه التقييد في التعدي بالأولين دون الأخير؟
وخامساً [24]: إن دعوى إرادة عدم الريب صدوراً من (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) مما لا وجه لها ، بل الظاهر إرادة عدم الريب مطلقاً صدوراً ودلالة وجهة إن كان على الكل الإجماع ، وإلا ففيما كان الإجماع عليه لعدم التقييد أولاً وبقرينة أمره عليه السلام بالأخذ بالمشهور معللاً إياه بأن المجمع عليه لا ريب فيه،  ومن الواضح أن لزوم الأخذ بخبر متفرع على عدم الريب فيه من الجهات الثلاث ، ولا يصح تفريع لزوم الأخذ على قوة السند فقط ، إلا أن يقال بكون سائر الجهات مفروغاً عنها مفروضة التساوي أو مقطوع عنها النظر ، فتأمل.
ومنه يظهر: وجه النظر فيما ذكره الآخوند معلقاً على قول الشيخ: (لا ريب أن المشهور بهذا المعنى ليس قطعي المتن والدلالة)[25] بقوله : (لا يخفى أن حيثية الدلالة أجنبية عما هو مفروض المقام إذ الكلام إنما هو من حيث خصوص الترجيح بين الخبرين بالسند لا الدلالة ولا الأعم منهما)[26].
إذ يرد عليه: أن أجنبية الدلالة عن مفروض الشيخ في المقام -لو سلم ذلك- لا يستلزم أجنبيتها عن الرواية الشريفة، وليس في الرواية تخصيص بأن الكلام في المرجحات السندية كما لا يخفى، خاصة وأن الحاكمين إنما استندا إلى روايتين في حكمهما لتمامية السند والدلالة والجهة عندهما وكون رجوع العامي إليهما بعد الفراغ عن ذلك ولذا حكم كل على طبق رواية ؛ فالأمر بالأخذ بالرواية المشهورة أمر بالأخذ بحكم من استند إلى الرواية المشهورة لكونه مورد السؤال ؛ بل قد صرح عليه السلام بحكمه أولاً حيث قال: ( فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه).
إضافة إلى ظهور كلام السائل في الأعمية سند الحديثين أو دلالتهما أو جهتهما، ومما يشهر به أيضاً ورود كلمة (نظر في حلالنا وحرامنا) وجعل الإمام الترجيح بالفقاهة المعتبرة في استنباط الدلالة كالسند بل بشكل أقوى ، فتأمل.
وقد يقال: إن السياق ظاهر في كون الترجيح بالشهرة من حيث السند لا غير خاصة مع ذكر (قد رواهما الثقات عنكم) واعتباره تفسيراً لـ(مشهورين) ، فتأمل.
وحيث إن عدم الريب الحقيقي صدوراً وجهة ودلالة غير ممكن إرادته وإلا لما أمكن فرضهما مشهورين كان المراد عدم الريب الإضافي ؛ فيكون مناط الترجيح ما لو كان أحدهما أقل ريباً من الآخر ؛ فتأمل.
وبعبارة أخرى: أن الريب في ((لا ريب)) إما أن يراد به الأعم من البطلان القطعي والظني[27] والشكي والوهمي مطلقاً أي صدوراً ودلالة وجهة،  أو الأعم من الثلاثة مطلقاً أيضاً أو الأعم منها صدوراً فقط.
والأول: مساوق للقطع بالصحة، وإرادته ممتنعة للقطع[28] بعدم حصول القطع بالصحة من الشهرة الروائية،  ولامتناع فرضهما مشهورين لامتناع تعارض دليلين قطعيين من جميع الجهات ، ولامتناع الحكم مع شهرتهما بالرجوع إلى المرجحات الأخر.
والثاني: مساوق للظن بالصحة،  وحيث تعذر المعنى الحقيقي وكان هذا أقرب المجازين تعين حمله عليه،  إضافة إلى ما سبق من كون التقييد بـ(لا ريب فيه صدوراً) خلاف الأصل.
ببيان آخر : أن  ((لا ريب فيه)) له إطلاقان من جهتين (شكاً ووهماً، صدوراً ودلالة) والخروج عن الإطلاق الأول لدليل لا يستلزم الخروج عن الإطلاق الثاني بلا دليل كما هو واضح.
ولا يرد : (ولا يمكن إرادته من الخبر وإلا لم يعقل فرض الشهرة في الطرفين مع أنه مفروض في المقبولة والمرفوعة، لكنه إنما أريد من نفي الريب بقول مطلق نفيه من حيث الصدور فإنه المترقب...)[29] ؛ وذلك: لأن تعارض ما كان حجيتهما من باب الظن النوعي غير عزيز، فكون الشهرة الروائية موجبة لنفي الريب مطلقاً[30] بالمعنى الثاني[31] يعني أنها توجب الظن بالصحة ، فلو كان المراد الظن الشخصي لما أمكن فرض مشهورين متخالفين لعدم إمكان اجتماع ظنين شخصيين على الخلاف.
وأما لو كان المراد الظن النوعي فلا مانع من فرض الشهرة في الطرفين، ألا ترى أن المولى لو قال: (خبر الواحد العدل المؤمن الضابط ) حجة، كان للعبد أن يسئل وماذا لو تعارض خبران بتلك الصفة عامان من وجه أو متباينان كلاهما موافق أو مخالفان لهم؟
وبعبارة أخرى: لو كان المراد من (لا ريب) اللا ريب الشخصي لم يمكن ذلك الفرض لا ما لو أريد النوعي.
وبعبارة ثالثة: أن كون المجمع عليه لا ريب فيه إنما هو بنحو المقتضي لا العلية التامة بمعنى أن الشهرة الروائية تقتضي نفي الريب لا أنها علة تامة له ؛ إذ من الواضح تقيد هذه القضية بعدم المانع كقولك ( النار محرقة) المقيد بعدم الرطوبة المانعة عن الإحراق؛ وخبر الواحد حجة أو الظواهر حجة المقيدين بعدم المانع عن الحجية[32]، فلو تعارضا كان العلم بكذب أحدهما إجمالاً مانعاً عن لا ريبيتهما فيكون في كليهما ريب ، ولذا أرجع الإمام إلى سائر المرجحات عند ذلك حيث ينفى الريب بها.
ألا ترى أن الصحيح الأعلائي التام الدلالة لا ريب فيه، مع صحة السؤال عن صورة معارضته لآخر ومع تقيد حجيته بعدم وجود متواتر قطعي الدلالة أو ظنيها وكونها نصاً أو أظهر من ذلك الصحيح على خلافه؟ ويمكن جعل ما جاء في ( وبعبارة ثالثة )جواباً آخر عن كلام الاصفهاني بناءً على كون مرجع الضمير هو الاحتمال الأول بأن أريد لا ريب فيه حتى وهماً، إذ لا شك في أن نفي الريب عنه نفي حكمي لا حقيقي[33]؛ وإذا كان المراد ذلك بنحو الاقتضاء لم يكن مانع من فرض التعارض.
سادساً: أن تخصيص (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) باللا ريبية صدوراً يخرج التعليل عن كونه تعليلاً بأمر ارتكازي إلى التعليل بأمر تعبدي وهو خلاف الأصل؛ لكون الأصل في التعليل الارتكازية لما ذكره السيد الحكيم قدس سره  : (لأن الغرض من التعليل التنبيه على وجه الحكم بحسب ما عند المخاطب فلو كان تعبدياً لم يترتب عليه الغرض المذكور)[34] أو لغيره.
وقد التزم بهذا الأصل الآخوند قدس سره بنفسه في مواضع منها عند الاستدلال بصحيحة زرارة حيث ضعّف احتمال اختصاص (ولا ينقض اليقين بالشك أبداً) باليقين والشك في باب الوضوء بـ(فإنه ينافي ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعاً)[35] .
كما قال قبل ذلك : (أنه لا ريب في ظهور قوله عليه السلام وإلا فإنه على يقين.. الخ عرفاً في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه وأنه عليه السلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله عليه السلام (لا) في جواب فإن حرك في جنبه.. الخ وهو اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية الغير المختصة بباب دون باب[36].
وأما كون التخصيص بالصدور موجباً لتعبدية التعليل فلأن العقل والعرف لا يريان خصوصية في الصدور ليكون اللا ريب فيه فقط موجباً لأرجحيته دون الدلالة ووجه الصدور ، بل إنهم إما أن يرون اللا ريبية الحقيقية أو الإضافية موجبة للترجيح مطلقاً أو لا مطلقاً ، فليتدبر هذا.
وقد تحدثنا عن تعبدية التعليل أو ارتكازيته في مكان آخر من هذا الكتاب فليراجع[37][38].


-----------------

* * هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد الاستاذ في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] عوالي اللئالي: ج4ص133.
[2] الكافي:ج1ص68.
[3] إرشاداً على الأول ومولوية على الثاني.
[4] سورة آل عمران: 50.
[5] سورة المزمل: 15، 16.
[6] الكفاية: ج2 ص398.
[7] غير خفي أن بعض هذه الأجوبة وارد عليه قدس سره،  وبعضها على تطبيق كلامه على المقام ، فليلاحظ.
[8] سورة الحاقة: الآية 44-47.
[9] سورة العنكبوت: الآية 18.
[10] فكيف في صورة الترجيح فقط؟ .
[11] قد يكون الأفضل التمثيل بما إذا علمنا بالصدور وعلمنا بأنه صدر تقية أو صورياً أو غير ذلك.
[12] الرسائل: التعادل والتراجيح، ص451.
[13] بأن تكون اللام للعهد فيتوهمها للجنس فيعبر بكلمة كل أو بالجمع المحلى، أو بالعكس.
[14] أي عدم صدور هذه الكلمة الخاصة الدالة على حكم خاص واحتمال صدور غيرها مما يدل على حكم آخر أعم أو أخص أو مباين.
[15] كما في مثال النقل باللفظ والمعنى.
[16] الرسائل: التعادل والتراجيح، ص462.
[17] حاشية الآخوند على الرسائل ص281 قبل عنوان (في المرجحات السندية) وقد يكون الأولى إضافة (أو دلالته) كما في بعض الأمثلة مما سبق.
[18] نهاية الدراية: ج3 ص174.
[19] ممن من شأنه تلك النصرة وتترقب منه.
[20] فإنه لا ينصر المظلوم.
[21] قد يكون الأولى التمثيل بأكرم زيداً لأن العالم يكرم وكان عالماً بالطب لانطباقه على المورد أكثر وقد سبق الجواب عن احتمال كون اللام للعهد ولكن الأمر هين، إذ الكلام ههنا من حيث خصوصية المورد وأن المترقب من الرواة كذا لا من حيث الألف واللام إضافة إلى عدم احتمال كون اللام للعهد باعتبار أقوائية الصدور، إذ المعهود المذكور هو الخبر فقط وأقوائية الصدور مورد لا غير.
[22] وكان قد اتصف بواحد منها فقط.
[23] وكان المترقب منه أحد تلك الأقسام لعدم تأتي سائرها منه فرضاً.
[24] هذا الجواب مقدم رتبة على الجواب الرابع لفرض تسليم أن الشهرة الروائية مما لا ريب فيها صدوراً فقط لا مطلقاً.
[25] الرسائل: ص450.
[26] حاشية الآخوند على الرسائل: ص273.
[27] هذان من باب الأولوية لا لشمول لا ريب لهما.
[28] هذا الوجه لعدم الوقوع والأخيران للامتناع.
[29] نهاية الدراية: ج3 ص174، إن كان مرجع الضمير في (إرادته) هو الاحتمال الثاني لا الأول مما ذكرناه من الاحتمالات الثلاثة.
[30] صدوراً ودلالة.
[31] إذ يعني (لا شك فيه) وإن كان الوهم على خلافه.
[32] كوجود معارض أقوى ووجود قرينة على الخلاف.
[33]  أي هو بمنزلة القطع في ترتب الآثار.
[34] حقائق الأصول: ج2 ص402.
[35] الكفاية:ج2 ص284.
[36] المصدر: ص282.
[37] لا يخفى أن بعض هذه الإشكالات الستة وارد على كلام الآخوند قدس سره بلحاظ ما ذكره الكمباني قدس سره دفاعاً عنه ، فتأمل.
[38] شورى الفقهاء: ص 222.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3083
  • تاريخ إضافة الموضوع : 1 رجب 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29