• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في مبادئ الاستنباط .
              • الموضوع : الدرس الاول .

الدرس الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

مقوِّمات الاستنباط ومبادئه وشروطه

 

وعناوين المباحث هي: تعريف الاجتهاد، حقيقته وماهيته، مقومات الاجتهاد وأركانه، المبادئ التصورية والتصديقية للاجتهاد وللفقه والأصول، أقسام الاجتهاد ومناهجه، كيفية الاجتهاد والاستنباط، شروط الاجتهاد وما يتوقف عليه أصله أو استقامته أو كماله. والمباني الجديدة في الاستنباط وهكذا.

 

تعريف الاجتهاد لغةً:

ولا بد من البدأ بتعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً إشارةً فقط إذ ليس البحث معقوداً للاستيعاب والتفصيل، وهو لغة: (بذل الجهد واستفراغ الوسع) أو بمعنى (جَهد) نظير (اجتذب) بمعنى (جذب) أو بمعنى المبالغة في الجهد([1]) نظير (اكتسب) بمعنى بالغ في الكسب – وسيأتي تحقيق ذلك، وليس بمعنى (تحمّل الجهد) كما فسره به في شرح العضدي والمعالم أو (تحمل المشقة) كما ذكره في (الكفاية)، كما انه ليس بمعنى الطلب نظير (اكتدّ فلان) أي طلب إليه الكدّ.

وتحقيق ذلك: انه لا بد عند مواجهة الألفاظ التي وقعت موضوعاً لاحكام الشارع أو لإمضائه، كالبيع والسوق([2]) والتفقه والاستنباط وغيرها، من:

أولاً: مراجعة كتب اللغة([3]).

وثانياً: مراجعة المعاني المذكورة في كتب الصرف للتعاريف المختلفة ومعانيها إن كانت الكلمة منها.

وثالثاً: الرجوع للمباني والأدلة عليها، في تعريف الكلمة التي وقعت موضوعاً للحكم – إن كانت –.

 

مراجعة كتب اللغة

أ- أما المراجعة لأهل اللغة فلأنهم أهل خبرة واختصاص لا بالاستعمال فقط بل بالوضع أيضاً، كما فصلناه في بعض المباحث، ولأنهم مرآة للعرف، نعم لو وقع الخلاف بينهم وبين العرف كان المرجع عرف زمن الشارع إذ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ)([4]) وعرفنا مرآة لعرفهم.

وقد كان المشهور سابقاً، كما صرح به الميرزا النائيني حجية قول اللغوي، وعليه بناء العقلاء في كل الملل والنحل ويشهد له اعتمادهم على الخبراء في الترجمة، وهما من وادٍ واحد.

سلمنا لكن المراجعة ضرورية كي يطّلع الفقيه على موارد الاستعمال فان وجدها مطردة أو متبادرة من حاق اللفظ أو أحرز عدم صحة السلب أحرز الوضع بذلك، وقد يصلح قول اللغوي مؤيداً بل قد تتجمع لديه القرائن فتفيده الاطمئنان، هذا إذا لم ندرج قوله في الشهادة وإلا كانت بشروطها وإذا لم ندرجه في خبر الثقة بل أدرجناه في قول الخبير؛ فانه إذا ادرج في خبر الثقة كان حجة من غير حاجة لإعمال نظر، وذلك كله على القول بالانفتاح وإلا فان الظنون المطلقة تكون حجة حينئذٍ.

والحاصل: ان الفقيه لا بد من ان ينقح أولاً مبناه في حجية قول اللغوي وعدمها، وعلى تقدير الحجية فهل وجهها: كونه من قول أهل الخبرة؟ أو من خبر الثقة؟ أو من الشهادة والبينة؟ أو من الفتوى؟ أو إذا وصل إلى درجة الاطمئنان فقط؟ أو في المقابل: الحجية من باب الانسداد على فرض القول به في اللغة.

وعند مراجعتنا لبعض كتب اللغة نجدهم ذكروا غير ما ذكره صاحب الكفاية والمعالم إذ جاء في مجمع البحرين مثلاً: (الاجتهاد: المبالغة في الجهد).

 

مراجعة كتب الصرف

ب- واما المراجعة لكتب الصرف فلمعرفة المعنى الموضوع له هذا التصريف الخاص والمعاني الأخرى المستعمل فيها، والتدبر في وجود قرينة، من مناسبات الحكم والموضوع، دالة على إرادة غير الموضوع له.

 

معاني باب الافتعال (الاجتهاد)

وعند مراجعة معاني باب الافتعال نجد انها كالتالي:

أ- المبالغة: كـ: اكتسب زيد، وهذا هو المعنى الظاهر من هذا الباب، فان المراد من اكتسب زيد العلم أو التقوى أو المال أو الأخلاق الفاضلة، انه بذل جهداً في كسب المال أو العلم وانه بالغ فيه لا انه قد كسب العلم أو المال فقط وإلا لقيل كسب المال أو العلم لا اكتسبه.

ب- المطاوعة: كـ: جمعته فاجتمع.

ج- التفاعل: كـ: اختصم زيد وعمرو.

د- الطلب: كـ: اكتدّ زيد أي طلب إليه الكدّ.

هـ- المجرد: أي انه قد يأتي بمعنى المجرد كـ: اجتذب أي جذب.

و- اتخاذ الفعل من الاسم: كـ: اختبز أي اتخذ الخبز، فان الفعل يتخذ من المصدر كـ: أكل من الأكل، ولا يؤخذ من الأسماء والجواهر كالخبز والحائط، وحينئذٍ يرجع إلى صيغة باب الافتعال أحياناً، لأجل ذلك أي لإدخال الاسم في دائرة الفعل بوجهٍ.

وعند التدبر في هذه المعاني نجد ان المتبادر عرفاً من (الاجتهاد) هو أولها، كما نجد ان تفسير الكفاية لا ينطبق على شيء منها.

 

 تعريف (الاجتهاد) اصطلاحاً

واما اصطلاحاً فقد عرّفه العلامة الحلي والحاجبي بـ(استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بالحكم الشرعي).

وعرّفه الشيخ البهائي وتبعه الكثير من المتأخرين بـ(الملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي عن الأصل فعلاً أو قوة قريبة).

وعرّفه في الكفاية بـ(استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي) بتبديل الظن بالحجة، وقد يضاف إليها (أو على الوظيفة الشرعية).

وعرّفه المحقق العراقي بـ(إعمال القواعد لاستخراج الأحكام).

والكلام عن تقييم هذه التعاريف وغيرها وما قد يورد عليها أو يجاب به، متروك لكم كبحث تمريني، فمثلاً أشكل في (النور الساطع) على التعريف الأول بخمسة عشر إشكالاً وناقش بعضها فراجع([5]) وتأمل

 

الآخوند: التعريف مجرد شرح الاسم فلا حاجة للنقاش فيه

وارتأى الآخوند ان التعريف شرح الاسم وليس بالحد ولا بالرسم.

قال في الكفاية: (ولا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحاً، ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته، لوضوح إنّهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه، بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه والإِشارة إليه بلفظ آخر وأنّ لم يكن مساوياً له بحسب مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر، ولو كان أخصّ منه مفهوماً أو أعمّ)([6]) واستدل عليه بـ:(ومن هنا انقدح إنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطراد ، كما هو الحال في تعريف جل الأشياء لولا الكلّ، ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها، أو بخواصها الموجبة لامتيازها عما عداها، لغير علام الغيوب، فافهم)([7]).

 

مناقشة الوالد للآخوند بوجهين:

وقد أورد السيد الوالد قدس سره) عليه (قدس سره) بوجهين:

الأول: ان ظاهر نزاع الأعلام في التعاريف والإشكال بعدم الاطراد أو الانعكاس ثم الجواب عنه أو الاستدراك بقيد أو قيود، دليل على انهم يرون التعريف حقيقياً.

الثاني: إن عدم قدرتنا على تعريف الحقائق الخارجية بالحد أو الرسم او الخاصة لا يستلزم عدم إحاطتنا بالمفاهيم المخترعة. قال في الوصول ("فافهم" لعله اشارة الى ان مراد العلماء بيان الحد و الرسم لا شرح الاسم، و لذا نرى بعضهم يستشكل على بعض بعدم الاطراد و الانعكاس و يفرون من التعريف السابق لانه مخدوش الى تعريف جديد، مضافا الى ان عدم الاحاطة بالحقائق الخارجية لا ينافي الاحاطة بالمفاهيم المخترعة)([8]).

فائدة: قال الوالد في الوصول (بعدم الانعكاس أو الاطراد) أي ليس جامعا أو مانعا، و هذا مأخوذ من قولهم «كلما صدق الحد صدق المحدود و كلما لم يصدق الحد لم يصدق المحدود» و لذا سمي انعكاسا واطرادا، لأن احدى الكليتين عكس الاخرى- فراجع الشمسية في المنطق و غيرها)([9]) والاطّراد من الجريان يقال اطّرد النهر أي جرى.

أقول: ويؤكّده ان النزاع في التعاريف واطرادها أو انعكاسها وقيودها وغيرها، يبتني على مباني الأعلام في موضوع تلك المسألة أو حقيقة ذلك الاعتبار وان التعريف مرآة عن المختار ومشير إليه ومحدّد له، وبه يتنقح موضوع النزاع ويحرر.

 

التمثيل بتعريف (الحكومة)

ولنضرب لذلك مثالاً لطيفاً وهو ان القوم اختلفوا في تعريف الحكومة، بل لقد اختلف الشيخ في تعريفه للحكومة وقد ذكرنا في كتاب (الحكومة والورود): (تعريفا الشيخ للحكومة

لقد عرّف الشيخ الحكومة بتعريفين مختلفين في جهات عديدة وجامعها هو ان التعريف الأول أشمل من الثاني من جهات عديدة والثاني أخص من الحكومة بالتعريف الأول في مناحي مختلفة.

فقد عرّفه في آخر مباحث الاستصحاب بـ: (ومعنى الحكومة - على ما سيجيء في باب التعادل والتراجيح -: أن يحكم الشارع في ضمن دليلٍ بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لولا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في موردٍ بحكم لا يقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم، وسيجئ توضيحه)([10]).

وعرّفه في أول كتاب التعادل والترجيح بـ: (وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبينا لمقدار مدلوله، مسوقا لبيان حاله، متفرعا ([11]) عليه.

وميزان ذلك: أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغوا خاليا عن المورد. نظير الدليل الدال على أنه لا حكم للشك في النافلة، أو مع كثرة الشك أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل، فإنه حاكم على الأدلة المتكفلة لأحكام الشكوك، فلو فرض أنه لم يرد من الشارع حكم الشكوك - لا عموما ولا خصوصا - لم يكن مورد للأدلة النافية لحكم الشك في هذه الصور)([12]).([13])

فإذا قيدنا بـ(مدلوله اللفظي) وشبهه اختصت الحكومة بالحكومة التنزيلية توسعةً أو تضييقاً كـ ((الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ))([14]) أو Sلَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ رِباً))([15]) أو (لا شك مع حفظ الإمام أو المأمور أو مع كثرة الشك) وخرجت أدلة العناوين الثانوية كـ(لا ضرر ولا حرج) عن كونها حاكمة على العناوين الأولية لعدم ناظريتها بلفظها إليها كما هو واضح وكذا إذا قيدنا بـ(مبيناً لمقدار مدلوله) لظهوره في البيان اللفظي لا العقلي فتدبر.

والتقييد بـ(النظر) موضع خلاف مبني على النكتة في وجه تقدم الحاكم على المحكوم، وقد فصلنا في كتاب (الحكومة والورود) المباني في ذلك وانها ستة: منها الناظرية ومنها الاظهرية، ومنها: التصرف، ومنها: كون اللسان لسان المسالمة، ومنها: (توقف تعقل الدليل على تعقل دليل آخر ينافيه من غير ان ينعكس)([16]) ومنها: (تعرض الدليل لما لا يتعرض له الدليل الآخر)([17]) ومنها: (تعدد الموضوع) أو شبه ذلك([18]) وللبحث صلة.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

([1]) إن لم نقل بتضمنه في الأول، فتدبر.

([2]) سوق المسلمين.

([3]) مثل مجمع البحرين، معجم مقاييس اللغة، مفردات الراغب بتعليقات العاملي، وأيضاً: لسان العرب (إذا أردتم التفصيل).

([4]) سورة إبراهيم: آية 4.

([5]) النور الساطع ج1 ص72 -78.

([6]) الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث – قم، ج1 ص463.

([7]) نفس المصدر.

([8]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصول إلى كفاية الأصول، دار الحكمة، ج5 ص389.

([9]) نفس المصدر: ص388.

([10]) فرائد الأصول: ج3 ص314.

([11]) وفي نسخة (متعرّضاً).

([12]) فرائد الأصول: ج4 ص13- 14.

([13]) مباحث التعارض الدرس 119.

([14])  ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام) - قم، 1405هـ، ج2 ص167.

([15]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص147.

([16]) راجع الدرس 121 من كتاب التعارض.

([17]) راجع الدرس 126 من كتاب التعارض.

([18]) راجع الدرس 131 من كتاب التعارض.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3201
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 17 ذي القعدة 1439 هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28