• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في مبادئ الاستنباط .
              • الموضوع : الدرس السابع .

الدرس السابع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

مقوِّمات الاستنباط ومبادئه وشروطه

 

5- تأثيرهما في تحديد الأساليب

وقال: (الخامس: تأثيرهما في تعيين الاَساليب:

إنّ هناك أحكاماً شرعية لم يحدّد الشارع أساليبها بل تركها مطلقة كي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً وأنجع في التقويم علاجاً، وإليك بعض الاَمثلة على ذلك:

1. الدفاع عن بيضة الاِسلام قانون ثابت لا يتغيّـر ولكن الاَساليب المتخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلى مقتضيات الزمان التي تتغير بتغيّـره، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الاِسلام أصل ثابت إلاّ أمر واحد وهو قوله سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِن قُوّة)([1]) وأمّا غيرها فكلّها أساليب لهذا القانون تتغيّـر حسب تغيّـر الزمان.

2. نشر العلم والثقافة أصل ثابت في الاِسلام، وأمّا تحقيق ذلك وتعيين كيفيته فهو موكول إلى الزمان، فعنصر الزمان دخيل في تطبيق الاَصل الكلّـي حسب مقتضيات الزمان.

3. التشبّه بالكفار أمر مرغوب عنه حتى إنّ الرسول صلى الله عليه واله وسلم أمر بخضب الشيب وقال: ((غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى))([2])، والاَصل الثابت هو صيانة المسلمين من التشبّه بالكافرين، ولما اتسعت دائرة الاِسلام واعتنقته شعوب مختلفة وكثر فيهم الشيب تغير الاسلوب، ولـمّا سُئِلَ علي عليه السلام عن ذلك، فقال: ((إِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه واله وسلم ذَلِكَ وَالدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الْآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ))([3])

أقول: ستأتي مناقشات أخرى لذلك ولما سبقه، ولكن بعد ان نكمل محتملات أخرى يمكننا ان نضيفها إلى دائرة ما يدعى أو يمكن ان يدعى تأثير الزمان أو المكان (أو الزماني والمكاني) فيها:

 

6- تأثيرهما في تجدد أو بروز ملاكات أخرى

وقد يدعى بان الزمان والمكان أو ما احتويا عليه من أوضاع وأحوال ومقتضيات وموانع وشرائط، يؤثران تارة في التجدد الثبوتي وأخرى في الانكشاف الإثباتي لملاكات أخرى لم تذكر في لسان الشارع أو لم تخطر ببال الفقهاء في قديم الأزمان، وقد تزاحِم هذه الملاكاتُ الجديدةُ ملاكات الأحكام القديمة، فإذا رَجُحت عليها كان الحكم تابعاً لها فينقلب الحرام حلالاً أو واجباً والواجب حلالاً أو محرماً([4])، وإذا ساوتها فينتقل الحكم من الوجوب أو الحرمة إلى الإباحة أو التخيير، وإن عضدتها تأكد الحكم السابق.

 

أمثلة وشواهد

ولنضرب لذلك أمثلة مما استند إليه بعض الحداثويين أو حتى بعض العلماء في تحريمهم بعض المباحات أو الواجبات أو إيجابهم بعض المباحات أو المحرمات:

 

أ- الشطرنج

أولاً: (الشطرنج) قال بعضهم: (بعد الإنفتاح السريع والشامل، وأحياناً البشع والجشع في ماهيّـته الإستعلائیة، ذلك الـّذي شهدته اوروبا والعالم المسيحي في القرون ما بعد الثامن والتاسع الهجريين، حيث ابتدأت النهضة العلميّة والإقتصاديّة المعبّر عنها بالرنسانس، وذلك بعد جهل وخمود وتخلف دام آلاف السنین في أوساطهم، حصل تطوّر مشهود في اوروبا بشكل خاص والعالم البشري بشكل عام.

فكانت نتيجته التفـوّق والتطوّر في شتى المجالات الماديّة والدنيويّة. التفوّق والتطوّر اللذين فاقا وتغلـّبا على سرعة مسايرة الإنسان لهما في بعض المجالات) و(من هـذا المنطلق لو تابعنا الخطوات والجهود الفكريّة الّتي بذلت في الوسطين الشيعيّ والسنّي بهذا الشأن، أي من أجل مسايرة علماء الدين لهذا التطوّر الفوّاق وحلّ مشاكله والإجابة على معضلاته في بعض الفترات، لرأيناها متواضعة ودون المستوى المطلوب) ثم انه اعتبر ذلك مبرراً لما أسماه بـ(الفقه المتحرك) فقال: (فالخطوات والجهود المبذولة من أجل تأسيس فقه متحرّك([5]) يساير قفزات العلم التقنيّة من دون أن يتناسى تراثه الغني كانت ضعیفة وغیر جدیرة) ثم مثّل لذلك بأمثلة منها:

(و... لعب الشطرنج من أبرز مصاديق القمار واللهو، والقمار حرام بنصّ الكتاب والسنّة وفتوى الفقهاء. والحكمة في ذلك هو أنّه یؤدّي إلى التباغض والعِراك والفساد الأخلاقي والإقتصادي وأخيرا الإجتماعي بين المتنافسين في هذه اللعبة اللهویّة) وبينما لـمّح هذا إلى تحليله صرّح بعض آخر بالتحليل بدعوى تغير الموضوع فقال: (وكذلك الأمر في الشطرنج الذي جرت حوله أبحاث ونقاشات مفصّلة في الحوزات العلمية) و(ولكن الشطرنج إذا تغيّر وخرج من عنوان العبث واللهو واللعب، وصار عملاً رياضياً فكرياً، تغيّر موضوعه، وهذا الموضوع الجديد يحتاج إلى حكم شرعيّ جديد. فلا بدّ من الرجوع إلى الشارع؛ فإن كان يقول بأنّ هذا الموضوع الجديد حكمه الحرمة فحينئذٍ نقول بحرمته، أمّا إذا قال بإباحته حكمنا بالإباحة . وهكذا الأمر في الوجوب والكراهية والاستحباب . فالانتقال من الأوّل إلى الثاني؛ لأنّ الموضوع تغيّر).

 

ب- تحديد النسل

ثانياً: تحديد النسل، فرغم ورود الروايات المستفيضة الكثيرة إن لم تكن المتواترة على الحضّ على تكثير النسل كقوله صلى الله عليه واله وسلم: ((تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَوْ بِالسِّقْطِ))([6]) إلا ان البعض ادعى تجدد ملاك يقضي بمرجوحية تكثير النسل بل وحرمته، والملاك هو زيادة أعداد البشر في البلاد الإسلامية (وفي كل دول العالم) زيادة كبيرة جداً([7])، عما كانوا عليه زمن صدور الوحي، وقالوا: ان تكثير النسل يجلب الفقر لقطاعات واسعة من الناس، ويستدعي انتشار المرض والجهل والأُميّة نتيجة عجز الدول؛ لقصور ثرواتها الطبيعية، عن توفير الطعام الكافي، والتعليم والرعاية الصحية وغير ذلك.

 

ج- الربا

ثالثاً: (الربا) وانه كان محرّماً بملاك الظلم والإجحاف بالمقترض، ولكن حدث ملاك جديد – كما قالوا – وهو فارق التضخم في البضائع وفارق انخفاض العملة، وان الزيادة التي تؤخذ سنوياً هي في الواقع مقابل فقدان العملة الوطنية لبعض قيمتها أو مقابل غلاء الأسعار حيث لا يمكن للمقرض ان يشتري ما كان يشتريه في السنة الماضية بألف دينار مثلاً، إلا بألف ومأتي دينار في هذه السنة.

 

المناقشات

أقول: وليس المقام مقام استيعاب البحث حول كل تلك المسائل ونظائرها، ولذا سنتوقف قليلاً عند بعض المسائل السابقة، مع تقييم الملاك السادس ومناقشته متضمناً تتمة الكلام عن الملاك الثاني الآنف الذكر، وذلك عبر الإشارة إلى الجواب عن بعض شواهدهم مع تنقيح المناط والحكم الكلي في نظائرها، وذلك في ضمن النقاط التالية:

أولاً: – وكما سبق – فان الأدلة القطعية دلت على ان ملاكات الأحكام ليست بأيدينا، وان السنة إذا قيست محق الدين، وسيأتي الكلام عن ذلك في الدرس القادم بإذن الله تعالى.

ثانياً: ان الأدلة القطعية دلت على ان ((حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...))([8]) ومن قبل قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ)([9])، وسيأتي الكلام عنها بإذن الله تعالى.

ثالثاً: سنبحث إجمالاً المدعى حول (الشطرنج) وحول (حرمة بيع الدم) بملاك عدم وجود منفعة محللة مقصودة له سابقاً ثم وجودها لاحقاً ولذلك حرم بيعه القدماء وأباحه المعاصرون.

 

كلمة عن (الشطرنج): 1- القرآن صريح في تحريمه

أولاً: ان صريح القرآن الكريم هو تحريمه بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)([10]) والآية صريحة في ان الشيطان يريد ان يوقع بين المؤمنين([11]) العداوة والبغضاء في الخمر والميسر (وهو القمار)، وظاهرها ان هذه العلة الغائية([12]) متحققة غالباً بل دائماً؛ لمكان (إنما) المفيدة لحصر الخمر والميسر في إثارة العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة.

ومن الواضح ان الذي وجّه حلية الشطرنج في هذا الزمن بانه رياضة فكرية كأنه افترض ان البشر اصبحوا اليوم ملائكة وانهم كانوا وحوشاً يثير الشطرنج قوتهم الغضبية والعدوانية ويهيج حقدهم على الطرف الآخر (الغالب) اما الآن فالبشر أصبحوا في منتهى الوداعة والعقل والحكمة والصبر والأخلاق الفاضلة، ولذلك فان الميسر (والخمر أيضاً كذلك) لا توقع بينهم العداوة والبغضاء ولا تصدهم عن ذكر الله ولا عن الصلاة! مع وضوح فداحة حال أخلاقيات البشر في هذا الزمان والذي تفصح عنه الحروب الكثيرة والفتن المستشرية والصراعات اللامحدودة السياسية أو الطائفية أو القومية أو القبلية أو غيرها، بل لعل الكثير من البشر كانوا أكثر حكمة وعقلاً من الكثير من البشر في هذا الزمن.

أو كأنه افترض ان الآية غير مطلقة ولا تشمل صورة تجرد الميسر عن المقامرة، وانها إذا تجردت عنها فانها لا تحرك في البشر نوازع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، مع وضوح انه لا يمكن رفع اليد عن إطلاقات الآيات والروايات باستحسان تحقق الملاكات وعدمه، ومع وضوح انه لو كان كذلك لوجب على القرآن، والروايات على الأقل التفصيل بين أنواع الشطرنج، لوضوح ان اللعب به كما يمكن ان يكون في هذه الأزمنة على قسمين: مع المقامرة ومع عدمها ولمجرد الرياضة الفكرية، كذلك كان يمكن ان يكون كذلك في الأزمنة السابقة فكان يجب ان يحرم الله تعالى الشطرنج إذا كان مع المقامرة ويصرح بحليته، بل ويشجع عليه(!)، إذا كان لمجرد الرياضة الفكرية!، ولوضوح ان لعبة الشطرنج حتى مجردة عن المقامرة فانها؛ لاستدعائها بطبعها طول الانشغال بها، واستغراق اللاعبين بها بكلهم في أجوائها، الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، مع وضوح ان المذكورات لوجه التحريم هي حِكَم في مقام سن القانون، والحِكمة لا يشترط فيها الاطراد، ولا القانون يصح نقضه إذا تخلفت الحِكمة، كما سيأتي في الجواب الآتي بإذن الله تعالى. هذا أولاً.

 

2- القوانين تُسنَّ حسب الغالب

وثانياً: ان القوانين تُسنَّ على الغالب، فيشرّع القانون ويحكم به على الكل وفي كل الحالات للحكمة الغالبة، وعلى ذلك بناء العقلاء من كافة الملل والنحل، ولذلك يسنُّون القوانين نوعيةً، ويَعدّون من يخالفونها مذنباً مجرماً وإن لم ينطبق عليه الملاك؛ ألا تراهم يفرضون الوقوف عند الإشارة الحمراء؟ وألا ترى ان مِلاكه واضح دون لَبس، وهو التحفظ عن اصطدام السيارات أو سحق  المشاة؟ ولكنهم مع ذلك لا يجيزون، لمن وصل إلى الإشارة عند منتصف الليل فوجدها حمراء، ان يتجاوزها حتى إذا قطع بانه لا توجد سيارة أخرى ولا عابر! بل للشرطي ان يغرِّمه أو يجرِّمه رغم قطعه أيضاً بعدم تحقق الملاك فيه!.

وألا تراهم يشرِّعون المنع عن مغادرة البلاد أو دخولها إلا بجواز، ويلزمون حتى رئيس الجمهورية – مثلاً – بذلك القانون مع انهم قد ائتمنوه على مصيرهم في الشؤون العامة الخطيرة من حرب أو سلم فكيف لا يأتمنونه على سفرة واحدة، حتى إذا كانت رسمية، بدون جواز!

وكذلك حال الشرع في تحريم الخمر والميسر وغيرهما؛ ولذا حُرِّمت الخمرة حتى القطرة منها مع عدم كونها مسكرة، وحرِّمت حتى على من لا تسكره لِدواءٍ شَرِبه أو لاعتيادٍ أو غير ذلك، فلو فرض ان الشطرنج لم يوقع شخصاً أو جماعة في العداوة والبغضاء وانه كان رياضة فكرية لهم، فان ذلك لا يقتضي أبداً رفع اليد على إطلاقات الكتاب والسنة الظاهرة في تحريمه مطلقاً بل الناصّة على ذلك بشكل قاطع.

 

3- الروايات الصحيحة دالة على حرمته مطلقاً

ثالثاً: كما تدل على التحريم بقول مطلق الروايات الصريحة الصحيحة

ومنها: عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن عليه السلام قال: ((النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ مَا قُومِرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ))([13]) وهي صحيحة السند.

ومنها: عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه سُئِلَ عن الشطرنج فقال: ((دَعُوا الْمَجُوسِيَّةَ لِأَهْلِهَا لَعَنَهَا اللَّهُ))([14]) والرواية معتبرة السند.

ومنها: عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد عن علي بن سعيد عن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: ((الْمُطَّلِعُ فِي الشِّطْرَنْجِ كَالْمُطَّلِعِ فِي النَّارِ))([15]).

ومنها: عن الصدوق قال: روى لنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري رضي الله عنه قال حدثنا علي بن محمد بن قتيبة عن الفضل بن شاذان قال سمعت الرضا عليه السلام يقول: ((لَمَّا حُمِلَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ عليه السلام إِلَى الشَّامِ أَمَرَ يَزِيدُ لَعَنَهُ اللَّهُ فَوُضِعَ وَنُصِبَ عَلَيْهِ مَائِدَةٌ فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ الْفُقَّاعَ فَلَمَّا فَرَغُوا أَمَرَ بِالرَّأْسِ فَوُضِعَ فِي طَسْتٍ تَحْتَ سَرِيرَةٍ وَبُسِطَ عَلَيْهِ رُقْعَةُ الشِّطْرَنْجِ وَجَلَسَ يَزِيدُ لَعَنَهُ اللَّهُ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَيَذْكُرُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَأَبَاهُ وَجَدَّهُ عليهم السلام وَيَسْتَهْزِئُ بِذِكْرِهِمْ فَمَتَى قَامَرَ صَاحِبَهُ تَنَاوَلَ الْفُقَّاعَ فَشَرِبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ صَبَّ فَضْلَتَهُ عَلَى مَا يَلِي الطَّسْتَ مِنَ الْأَرْضِ

فَمَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا فَلْيَتَوَرَّعْ عَنْ شُرْبِ الْفُقَّاعِ وَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْفُقَّاعِ أَوْ إِلَى الشِّطْرَنْجِ فَلْيَذْكُرِ الْحُسَيْنَ عليه السلام وَلْيَلْعَنْ يَزِيدَ وَآلَ زِيَادٍ يَمْحُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ بِعَدَدِ النُّجُومِ))([16]) والرواية معتبرة الإسناد.

ومنها: عن ابن ادريس نقلاً من جامع البزنطي، عن ابي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((بَيْعُ الشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ سُحْتٌ وَاتِّخَاذُهَا كُفْرٌ وَاللَّعِبُ بِهَا شِرْكٌ وَالسَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا مَعْصِيَةٌ وَكَبِيرَةٌ مُوبِقَةٌ وَالْخَائِضُ يَدَهُ فِيهَا كَالْخَائِضِ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا صَلَاةَ لَهُ حَتَّى يَغْسِلَ يَدَهُ كَمَا يَغْسِلُهَا مِنْ مَسِّ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا كَالنَّاظِرِ فِي فَرْجِ أُمِّهِ وَاللَّاهِي بِهَا وَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا فِي حَالِ مَا يُلْهَى بِهَا وَالسَّلَامُ عَلَى اللَّاهِي بِهَا فِي حَالَتِهِ تِلْكَ فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ

وَمَنْ جَلَسَ عَلَى اللَّعِبِ بِهَا فَقَدْ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ عَيْشُهُ ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ اللَّاهِي الْمَغْرُورِ بِلَعِبِهَا فَإِنَّهُ مِنَ الْمَجَالِسِ الَّتِي بَاءَ أَهْلُهَا بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يَتَوَقَّعُونَهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيَعُمُّكَ مَعَهُمْ))([17])

والروايات الدالة على تحريم الشطرنج كثيرة جداً ولعلها متواترة تبلغ درجة التواتر المضموني، إن لم يكن اللفظي، ولا مجال للشك أبداً، مع التنزل، في تواترها الإجمالي، وقد ذكر بعضها العلامة المجلسي في بحار الأنوار([18]).

 

كلمة عن حرمة بيع الدم

وقد سبق قول البعض (1. لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه، ولم يزل حكم الدم كذلك حتى اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحى الحياة، وأصبح التبرع بالدم إلى المرضى كإهداء الحياة لهم، وبذلك حاز الدم على ملاك آخر فحلّ بيعه وشراؤه)([19])

 

المناقشة: التحريم لدلالة النصوص لا للملاك

ولكن يرد عليه: ان مستند حرمة بيع الدم وسائر الأعيان النجسة هو النصوص الواردة في تحريمه([20]) بخصوصه أو الواردة في تحريم مطلق التكسب بالأعيان النجسة([21])، وليس لملاك عدم وجود منفعة محللة له، بل ان ذكرها الفقهاء فإنما هو كمؤيد([22]) لا غير، على انه ان ذكرها بعضهم كعلة ورد عليه ما سبق في الدرس الماضي، ويكفي ان نستعرض ههنا كلام الجواهر؛ إذ وكما سبق فليس البحث بالأساس معقوداً لتفصيل تحقيق هذه المسائل بل للإشارة فقط:

قال في الجواهر: (وكيف كان فلا خلاف يعتد به ، في حرمة التكسب في الأعيان النجسة التي لا تقبل الطهارة بغير الاستحالة ، لقول الصادق عليه السلام في خبر ‌تحف العقول ((أَوْ شَيْ‏ءٍ مِنْ وُجُوهِ النَّجِسِ فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ وَمُحَرَّمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلُبْسِهِ وَمِلْكِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَالتَّقَلُّبِ فِيهِ، فَجَمِيعُ تَقَلُّبِهِ فِي ذَلِكَ حَرَامٌ))([23])(([24]).

أقول: فالاستدلال هو بالرواية، ولو كان إشكال فليشكل على السند، على المباني، لا على ان وجه التحريم عدم الفائدة([25]).

وقال: (ولقول الصادق عليه السلام في خبري أبي بصير ومحمد ((...إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ ثَمَنَهَا...))([26])، وفي الخبر الآخر ((لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا...))([27])(([28])

وقال (وإلى ثبوته([29]) في النصوص المعتبرة: في العذرة والدم والخمر والخنزير والميتة والكلب الذي لا يصيد، ويتمّ بعدم القول بالفصل.

وإلى‌ النبوي عن ابن عبّاس – الذي أورده في الخلاف والسرائر والتذكرة والمهذب والغوالي كما قيل: ((ان الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه))([30])(([31]).

نعم ذكر (قدس سره) من الوجوه كونها مسلوبة المنفعة، لكنه لم يبنِ فتواه عليها، بل على الروايات كما هو ظاهر من جملة كلامه بل بنى حرمة التكسب بها على حرمة الانتفاع بها، فلاحظ تمام كلامه.

وقال: (ويؤيّده: عدم عدّه في الأموال عرفاً، مع أصالة عدم دخوله فيه بناءً على توقّفه على أسباب شرعيّة؛ لأنّ الملك شرعاً تابع للسلطنة العرفيّة على الشيء، وأنّه ليس الملك حقيقةً إلا ذلك)([32]) فلاحظ قوله (يؤيده) حيث لم يعده دليلاً، على ان الوجه حينئذٍ تغير الموضوع (انه مال أو ليس بمال) لا تغير الملاك فان موضوع البيع – أي أحد ركنيه – هو المال إذ هو مبادلة مال بمال، حسب المصباح([33]).

بل نقول: ان بعض الروايات صرحت بحرمة بيع بعض الأعيان النجسة رغم ثبوت منافع قطعية محللة لها وذلك مثل ما رواه في الجواهر معتمداً عليه إذ قال: (وخبر جابر بن عبد الله - الذي أورده أيضا في الخلاف والمنتهى كما قيل ((أن الله ورسوله صلى الله عليه واله وسلم حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل: يا رسول الله، أريت شحوم الميتة؛ فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام، ثم قال صلى الله عليه واله وسلم: قاتل الله اليهود؛ إنّ الله تعالى لـمّا حرّم عليهم شحومها حملوها ثمّ باعوها فأكلوا ثمنها)).

وعن الإيضاح والغوالي: أنه عليه السلام قال: « لعن الله اليهود؛ حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها)))([34]).

وقال: (وكذا الحكم في كل مائع نجس لا يقبل التطهير، وإن كانت نجاسته عرضيّة، فلا يجوز حينئذ التكسّب به ولا الانتفاع به؛ لإطلاق بعض الأدلة المزبورة التي لا يقدح فيه خروج الانتفاع ببعضها لقيام سيرة أو إجماع أو نحوهما، كما لا يقدح خروج بعض الأعيان النجسة لذلك. كما أنّه لا فرق بين تعقّب الجمود له وعدمه بعد الاشتراك في عدم قبول التطهير الذي هو مدار الحكم)([35]).

بل قال: (أما لو كانت نجاسته ذاتية - كالألية المقطوعة من ميّت أو حيّ - لم يجز نقله ولا انتقاله ولا استعماله حتى بالاستصباح تحت السماء، بلا خلاف معتدّ به أجده فيه؛ لإطلاق ما دلّ على المنع فيما لا يقبل التطهير، وعلى الميتة، وخصوص ما دلّ عليه في إسراج المقطوع من الحيّ فضلا عن الميّت، فلم يبق للمعارض - وإن صح سنده - أهليّة المعارضة)([36]).

 

وجهان لتجويز بيع الدم في هذه الأزمنة

لا يقال: فكيف الحال في تجويز بيع الدم في هذه الأزمنة، لنقله إلى المرضى؟

إذ يقال: ليس الوجه هو الملاك الذي استدل به المستندون لتغير الملاكات في تغير الأحكام، بل الوجه أحد أمرين:

الأول: ان يقال بجواز بيعه للضرورة والاضطرار، فالتجويز بعنوان ثانوي، لا بعنوان أولي مستنداً إلى دعوى تغير الملاك.

الثاني: ان جواز بيعه مستند إلى دعوى انصراف أدلة تحريم التكسب (والانتفاع) بالأعيان النجسة عن مثل ذلك، وحينئذٍ فلا بد من تحليل منشأ الانصراف وانه كثرة الوجود؟ أو كثرة الاستعمال إذا بلغ درجة توجب أُنس الذهن بالمنصرَف إليه؟، أو غير ذلك من وجوهه والتي ابلغناها إلى سبعة وجوه مما اضفناه ومما عثرنا عليه متشتتاً في كلماتهم (كما فيما ذكره الميرزا النائيني من ان منشاه قد يكون تشكيك الماهية) فراجع ما كتبناه تفصيلاً عن ذلك، أو كون منشئه قرينية الروايات المعارضة وكون ذلك وجه جمع عرفي بينها. فتأمل

 

الفرق: مدارية (النص) أو مدارية (الملاك)

لا يقال: فأي فرق بين ما ذكرتموه وما ذكره هذا الفقيه؟

إذ يقال: الفرق كبير وجوهري وأساسي وهو اننا نقول: ان المدار في اكتشاف أحكام الشرع هو (النص) عموماً وخصوصاً وإطلاق وتقييداً أو انصرافاً (إن كان من الانصراف المستقر لا البدوي) أو شبه ذلك فالمدار هو النصوص من كتاب وسنَّة.

بينما ما ذكره ذلك الفقيه هو مدارية (الملاك) وقد سبق ان الملاكات مما لا يعلمها إلا الشارع الأقدس، نعم قد يقطع الفقيه بالملاك وانه العلة التامة للحكم، وحينئذٍ فان القطع هو الحجة، على انها صورة نادرة إلا في القطّاع أو المتساهل، على ان عهدة الدعوى على مدعيها فليست أمراً منضبطاً، عكس مرجعية النص، لكونه منضبطاً بما لا نسبة بينه وبين عدم انضباط دعوى كشف الملاك التام لأحكام الشرع. وسيأتي توضيح ذلك أكثر بإذن الله تعالى.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

--------------------------------------------

([1]) سورة الأنفال: آية 60.

([2]) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1403هـ، ج2 ص497.

([3]) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص471.

([4]) وذلك حسب درجة الرجحان.

([5]) سيأتي الكلام عن عنوان الفقه المتحرك، مستقلاً، لاحقاً بإذن الله تعالى.

([6]) تاج الدين الشعيري، جامع الأخبار، دار الرضي للنشر – قم، 1405هـ، ص101.

([7]) أعداد البشر الآن تتجاوز السبعة مليارات، بينما لعلها لم تكن تبلغ زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم المعادل عام 600 م ثلاثمائة مليون وقيل ان عددهم قبل ألفي عام كان ذلك وارتفع إلى 600 مليون عام 1600م ووصل إلى مليار عام 1804 وإلى مليار ونصف عام 1900م وذلك حسب أبحاث صندوق الأمم المتحدة للسكان.

([8]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص58.

([9]) سورة يوسف: آية 40.

([10]) سورة المائدة: آية 91.

([11]) ومطلق الناس.

([12]) أو الحكمة الغائية.

([13]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص435.

([14]) المصدر نفسه: ص437.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج4 ص419.

([17]) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت – قم، 1409هـ، ج17 ص323.

([18]) بحار الأنوار، طبعة بيروت، ج76 ص228 فصاعداً.

([19]) راجع الدرس (6).

([20]) والمراد الحكم الوضعي بالبطلان، وقيل بحرمته تكليفاً أيضاً. فتأمل

([21]) والوارد بعضها في مطلق الانتفاع بها.

([22]) أو ليتحقق مفهوم البيع بدعوى أخذ كون المبيع ذا منفعة، في ماهيته.

([23]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1404هـ، ص332.

([24]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1430هـ، ج23 ص17.

([25]) وإلا لما صلح وجهاً للحرمة بل للبطلان فقط، فتأمل.

([26]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص230.

([27]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام – قم، 1405هـ، ج1 ص181.

([28]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1430هـ، ج23 ص18.

([29]) التحريم.

([30]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام – قم، 1405هـ، ج2 ص110.

([31]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1430هـ، ج23 ص21-22.

([32]) المصدر نفسه: ص19.

([33]) ذكرنا في مباحث البيع عشرة تعريفات ومباني في البيع.

([34]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1430هـ، ج23 ص21-22.

([35]) المصدر نفسه: ص24.

([36]) المصدر نفسه: ص31.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3212
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 15 ذو الحجة 1439 هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28