• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 112- ثلاث إشكالات على الأستدلال برواية (ظلم يغفره الله وظلم لا يدعه الله) .

112- ثلاث إشكالات على الأستدلال برواية (ظلم يغفره الله وظلم لا يدعه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(112)

 

الفرق بين حق الله تعالى الطولي والاستقلالي

سبق: (نعم يمكن توجيهه بان في ظلم الرجل نفسه حقان منتهكَان: حقه وحق الله، وقد أسقط حقه بظلم نفسه فبقي حق الله وقد اعتبره الله مما يغفره، اما حق الناس ففيه حقان حق الله وحق الناس ولم يسقطه الناس فلا وجه لأن يسقطه الله، فيتقدم حق الناس على حق الله بهذا البيان، فتأمل)([1]).

ووجه التأمل([2]) ان يقال: بان حق النفس إذا أسقطه ذو الحق، فانه مضعف لحق الله الذي هو في طوله؛ لأنه في طوله، عكس حق الله الاستقلالي، فإذا تقدم حق الناس على حق الله الطولي فلا يدل ذلك على تقدمه على حق الله الاستقلالي إلا بأردأ أنحاء القياس.

بعبارة أخرى: ان كافة الحقوق وإن كانت في طول حق الله ثبوتاً وواقعاً لأنه تعالى مصدر كل الحقوق، لكن حق الله في طول حقوق الناس بجعله واعتباره، في عالم الاعتبار (كما ان ملكنا في طول ملكه للأشياء واقعاً لكنه في مرتبة الظاهر بالعكس ظاهراً أي ان ملكه في طول ملكنا بمعنى انه افترض حقه مترتباً على حقنا لاحقاً به عندما فرض مثل الكفارات بل والزكاة بل والخمس على وجهٍ) ولذا يسقط حق القصاص مثلاً بإسقاط الولي فيسقط حق الله بالتبع أي يعتبره الرب جل اسمه ساقطاً وكان له ان لا يعتبره ساقطاً، كما يسقط حق الله على المدين بإسقاط الدائن دينه وهكذا.

وفي المقام: فإن ظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله تعالى تفريط بحق نفسه التي جعل الله له عليها السلطنة فإذا أسقط حق نفسه بتفريطه بها أو بما يتعلق بها، كما لو ألقى أمواله في البحر أو قطع عضواً من أعضائه فقد فرّط بحق نفسه، وأسقط الله حقه عليه في أمواله وبدنه إذ رآه أسقط حقه بنفسه، وحقه تعالى حق متفرع ظاهراً على حقه في نفسه وأمواله، فان ذلك لا يستلزم إسقاطه تعالى حقوقه الاستقلالية، فهذا مبنى البحث، واما في باب التزاحم: فانه لو تزاحم حق نفسه الذي أسقطه مع حق الناس فأسقط الله حق التبعي فيه، فان ذلك لا يستلزم إسقاطه تعالى حقه الاستقلالي لو تزاحم مع حق الناس، فتأمل.

والجامع ان المناط غير محرز بالقطع ليُتعدَّى منه إلى المقام، فتدبر

 

3- (المداينة) خاصة بالديون، فالرواية أخص

وقد يعترض بان الرواية على فرض تمامية الاستدلال بها من سائر الجهات([3])، إلا انها أخص من المدعى نظراً لأنها من المداينة بين العباد وظاهره الديون المادية، فغاية ما تدل عليه تقدم حقوق الناس المادية (أي ما كان من قبيل القرض وشبهه) على حقوق الله، ولا تدل على تقدم حقوق الناس المعنوية كحق الغيبة وحق القصاص على حقوق الله.

 

الجواب: المداينة من الدِّين بالكسر لا الفتح

والجواب: ان (المداينة) مشتقة من الدِّين بالكسر بمعنى الجزاء لا من الدَّين بالفتح بمعنى الدين المادي من قرض وشبهه، فهي عامة شاملة لكل ما ذكر وغيره من الحقوق.

توضيحه: ان (الدِّين) يعني الجزاء ولعله أظهر معانيه إن لم نقل بان غيره مجاز، ومنه قوله تعالى: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)([4]) أي الجزاء والحساب ومنه (أَئِنَّا لَمَدِينُونَ)([5]) أي مجزيون.

قال في لسان العرب (دَيَنَ: الدَّيّانُ: مِنْ أَسماء اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعْنَاهُ الحكَم الْقَاضِي)([6]).

و: (والدَّيَّانُ: القَهَّارُ، وَقِيلَ: الْحَاكِمُ وَالْقَاضِي، وَهُوَ فَعَّال مِنْ دَانَ الناسَ أَي قهَرَهم عَلَى الطَّاعَةِ. يُقَالُ: دِنْتُهم فَدَانُوا أَي قهَرْتهم فأَطاعوا)([7])

(والدِّين: الْجَزَاءُ والمُكافأَة. ودِنْتُه بفعلِه دَيْناً: جَزَيته، وَقِيلَ الدَّيْنُ الْمَصْدَرُ، والدِّين الِاسْمُ،... ودَايَنه مُداينةً ودِيَاناً كَذَلِكَ أَيضاً. ويومُ الدِّينِ: يومُ الْجَزَاءِ. وَفِي الْمَثَلِ: كَمَا تَدِينُ تُدان أَي كَمَا تُجازِي تُجازَى أَي تُجازَى بِفِعْلِكَ وَبِحَسْبِ مَا عَمِلْتَ، وَقِيلَ: كَمَا تَفْعَل يُفعَل بِكَ)([8])

(وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ،

قَالَ قَتَادَةُ: فِي قَضَاءِ الْمَلِكِ)([9]).

وقد جاء الدين بمعاني أخرى كالطاعة والعادة والإذلال والسياسة والسلطان والمعصية والمطر، لكن الظاهر ان الدين استعمل فيها بمناسبةٍ مع المعنى الأصلي إن لم نقل بالاشتراك اللفظي وهو بعيد.

والحاصل: ان الظاهر ان المداينة مأخوذة من الدِّين أي المجازاة والمقاضاة والمقاهرة فهي أعم تشمل حقوق الناس كافة، والجامع: ان الظاهر ان باب التفاعل من الدين (التداين) ظاهر في الدَّين بالفتح بان يستدين هذا من ذاك وبالعكس، واما باب المفاعلة (المداينة) فظاهر في الدِّين بالكسر؛ ولذا جاء فيما نقلناه عن لسان العرب (ودَايَنه مُداينةً ودِيَاناً كَذَلِكَ أَيضاً) أي بمعنى الجزاء والمكافأة، ولم يرد المفاعلة بمعنى الدَّين بالفتح والتداين فلاحظ.

 

4- الكلام عن تزاحم المعصيتين لا الظلمين

ثم ان الاستدلال بالرواية على فرض تماميته من كل الجهات، فانه أخص من المدَّعى من جهة أخرى وذلك انه على فرض شمولها لباب التزاحم فانها إنما هي عن تزاحم الظلمين (ظلم الله وظلم النفس أو الناس) وليس عن تزاحم المعصيتين، وتزاحم الظلمين اما أخص من تزاحم المعصيتين أو مباين.

 

الفرق بين العناوين التنجيزية وغيرها

وتوضيح ذلك يعتمد على بيان مقدمة وهي:

ان العقل مما يستقل بقبح الظلم وحرمته وبحسن العدل ووجوبه كما يستقل ببعض أشباههما وهي نادرة، ولكنه لا يستقل بقبح المعصية أي بقبح غير المستقلات العقلية من المعاصي وهي الأعم الأغلب منها، فحتى حرمة الخمر والقمار فانها مما لا يستقل بها العقل لوجود جهتي النفع والضرر فيهما، قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)([10]) فإحراز كون إثمهما أكبر من نفعهما مما لا يستقل به العقل بل يحتاج إلى الوحي أو إلى العلم المحيط بجهاتها كلها.

والمهم الأساس في الأمر: ان ذلك من فروع كون الظلم والعدل من العناوين التنجيزية دون سائر المحرمات، بمعنى ان الحرام له أربع مراتب، حسب الآخوند، الاقتضاء، الإنشاء، الفعلية، والتنجز، فإن لم يكن الحرام واصلاً للمكلف ببلوغ شخصي قصوراً فانه ليس بمنجز لكنه حرام في المراتب الثلاث الأولى، عكس الظلم فانه عنوان تنجيزي ولا غير أي انه كعنوانٍ قد جعل وقُولِب على مرتبة التنجز فما ليس بمنجز فليس بظلم أبداً، نعم قد يصدق عليه عنوان آخر كالضار إذا كان كذلك ثبوتاً لكنه لا يصدق عليه الظلم ثبوتاً أبداً، وبعبارة أخرى: ان عنوان الظلم مساوق للمستجمع لكل الشرائط والفاقد لكل الموانع بما فيها الجهل والمزاحم الأهم، فإذا كان كذلك كان ظلماً وإلا فلا.

فإذا اتضح ذلك يتضح إمكان تزاحم المعصيتين، واستحالة تزاحم الظلمين لأنه يكون حينئذٍ من السالبة بانتفاء الموضوع فيهما أو في أحدهما؛ إذ مع التزاحم فالمانع موجود فان كان هذا الظلم أفدح فليس ذلك بظلم أصلاً لا انه ظلم مرجوح وإن ترك الأول أرجح ويتقدم عليه بالأهمية. وسيأتي مزيد إيضاح لذلك غداً بإذن الله تعالى.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال الإمام زين العابدين عليه السلام: ((كَفَى بِنَصْرِ اللَّهِ لَكَ أَنْ تَرَى عَدُوَّكَ يَعْمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ فِيكَ)) تحف العقول: ص278.

-----------------------------------------

([1]) الدرس (111) بتصرف.

([2]) إضافة إلى ان الحق لا يسقط بظلم النفس مادام محله موجوداً.

([3]) كونها مطلقة شاملة لصورة تزاحم الحقين، ودلالتها على أهمية حق الناس بالنسبة لحق الله...

([4]) سورة الفاتحة: آية 4.

([5]) سورة الصافات: آية 53.

([6]) ابن منظور، لسان العرب، دار الكتب العلمية – بيروت، 2009م، ج13 ص202.

([7]) المصدر نفسه.

([8]) المصدر نفسه: 204.

([9]) المصدر نفسه: 206.

([10]) سورة البقرة: آية 219.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3238
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 27 محرم الحرام 1440 هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29