• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 128- دعوى احتمال غفلة كافة العلماء عن مثل امتناع الترتب والجواب بوجوه عديدة .

128- دعوى احتمال غفلة كافة العلماء عن مثل امتناع الترتب والجواب بوجوه عديدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(128)

 

عدم بُعد غفلة جميع العلماء عن نكتة الترتب

مضى ما ذهب إليه مباحث الأصول من: (بينما في باب الحدس والاجتهاد يكثر وجود نكتة عامّة توجب خطأ الجميع، وهي عبارة عن نقطة سير الفكر البشريّ في خطّ الاجتهاد والحدس، أو مستوى قوّتهم الفكريّة، أو ظروفهم المشتركة ومعلوماتهم العامّة التي كانوا يعيشونها جميعاً ونحو ذلك، فلو أجمع العلماء الأقدمون على حكم يكون مقتضى قاعدة الترتّب خلافه، فإجماعهم لا يدلّ على ثبوت الحكم على خلاف القاعدة تعبّداً؛ لعدم استبعاد غفلتهم جميعاً عن قاعدة الترتّب بحسب نقطة السير في التفكير التي وصلوا إليها في ذاك الزمان، باعتبار أنّ الترتّب إنّما التفت إليه ـ بحسب سير التأريخ ـ بعد الالتفات إلى باب التزاحم والفرق بينه وبين باب التعارض، ممّا دعا العلماء إلى التفكير في الوظيفة لدى التزاحم وحلّ مشكلاته، فاتّجهت أنظارهم إلى الترتّب، كما أنّ الالتفات إلى التزاحم أيضاً كان متفرّعاً على تولّد التفريعات في الفقه والتوسّع في ذلك ممّا يؤدّي إلى الالتفات إلى موارد تزاحم الأحكام في الفروع. ولعلّ أوّل كتاب كتب في التفريعات هو كتاب المبسوط للشيخ الطوسيّ (رحمه الله) الذي ذكر في أوّله: «أنّ العامّة كانوا يعيبون على الشيعة بعدم كتاب لهم في التفريعات». إذن فلا تستبعد غفلة العلماء جميعاً قبل تأريخ كتاب المبسوط عن نكتة الترتّب التي كان المفروض وصول سير خطّ التفكير الاجتهاديّ إليه بعد حين)([1]).

 

المناقشة: الترتب وجداني لا يغفل عنه العامي فكيف بجميع العلماء؟

قوله: (فلا تستبعد غفلة العلماء جميعاً قبل تأريخ كتاب المبسوط عن نكتة الترتّب التي كان المفروض وصول سير خطّ التفكير الاجتهاديّ إليه بعد حين) يرد عليه: ان واقع الترتب([2])، مما لا يغفل عنه أي إنسان، وإن لم يعرف ان يعبّر عنه بذلك، فكيف بكافة العلماء قبل الشيخ الطوسي؟؛ لأن الوجدان والارتكاز العقلائي عليه، نعم شبهة الامتناع ببياناتها الدقيقة هي التي قد يغفل عنها العلماء لكنها غير مجدية بل هي على عكس مدّعاه أدلّ؛ إذ تفيد أقربية رأي القدماء([3]) من المتأخرين الذين شوّشت أذهانهم الشبهات.

بل ان إجماع الفقهاء قديماً وحديثاً في العديد من مسائل الترتب هو على ما يطابق الوجدان والفطرة بل حتى لدى من يقول بامتناع الترتّب، ولذا قال في المحاضرات (الأوّل: ما إذا وجبت الاقامة على المسافر في بلد مخصوص، وعلى هذا فان قصد الاقامة في ذلك البلد وجب عليه الصوم لا محالة، إذا كان قصد الاقامة قبل الزوال ولم يأت بمفطر قبله، وأمّا إذا خالف ذلك وترك قصد الاقامة فيه فلا إشكال في وجوب الافطار وحرمة الصوم عليه. وهذا هو عين الترتب الذي نحن بصدد إثباته، إذ لا نعني به إلاّ أن يكون هناك خطابان فعليان متعلقان بالضدّين على نحو الترتب، بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيانه، وفيما نحن فيه كذلك، فان وجوب الافطار وحرمة الصوم مترتب على عصيان الأمر بقصد الاقامة الذي هو مضاد له ـ أي الافطار ـ ولا يمكن لأحد أن يلتزم في هذا الفرض بعدم جواز الافطار ووجوب الصوم عليه، فانّه في المعنى إنكار لضروري من الضروريات الفقهية)([4]) فلاحظ دعوى الضرورة في كلامه وانه لا يمكن لأحد الإفتاء بوجوب الصوم، في قبال دعوى احتمال غفلة العلماء جميعاً قبل الطوسي عن نكتة الترتب!

 

الاستحالة والإمكان عقليان، لا يعقل غفلة كل العلماء عنهما

وبعبارة أخرى: ان البحث في الترتّب عن استحالته وإمكانه، والاستحالة والإمكان من حيطة أحكام العقل، ولا يعقل – عادة – أن يجمع الفقهاء كلهم على خلاف حكم العقل باستحالة شيء فيبنون على إمكانه، أو ان يجمعوا على خلاف حكم العقل بإمكان شيء فيبنون على امتناعه، بل لعله أشبه بفرض المحال، إضافة إلى ان إطلاق كلامه (إذن فلا تستبعد غفلة العلماء جميعاً قبل تأريخ كتاب المبسوط عن نكتة الترتّب التي كان المفروض وصول سير خطّ التفكير الاجتهاديّ إليه بعد حين) يشمل العلماء في زمن المعصومين عليهم السلام لأنهم من السابقين على زمان كتاب المبسوط (بل حتى إن فرض انه لم يقصد الأعم؛ إذ يرد ما سبق من ان إجماع الكل في زمن كاشف عن تلقيهم إياه عن السابقين وصولاً إلى زمن المعصوم عليه السلام) ولا يعقل ان يجمعوا في مسألة شرعية على خلاف حكم العقل بالاستحالة أو الإمكان ويسكت المعصوم عليه السلام عنهم جميعاً.

 

إحالة المعصوم عليه السلام الترتب، إلى عقول العلماء

إضافة إلى ما ورد عنهم عليهم السلام مكرراً من ((عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ وَعَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ))([5]) و((إِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْقِيَ إِلَيْكُمُ الْأُصُولَ وَعَلَيْكُمْ أَنْ تُفَرِّعُوا))([6]) فهل الترتّب من الأصول أم لا؟ لا شك انه من الأصول التي تستخرج منها ألوف المسائل فلِمَ لم يلقها الأئمة عليهم السلام علينا؟ والجواب: هو لأنه من المستقلات العقلية ومما يحكم به (بإمكانه) الوجدان فلا حاجة لإلقائه فقد أحاله المعصوم عليه السلام على عقول العلماء ووجدانهم، وكيف يعقل ان يحكم العلماء فيه جميعاً بخلاف العقل والوجدان؟ ولو فرض إمكانه الوقوعي لما صح للمعصوم ان يسكت بل كان يجب ان يلقيه إلى العلماء بل كان قد تأكد عليه إلقاؤه لا لأنه من الأصول فقط بل لأنه من الأصول التي أجمع فيها العلماء – على الفرض – على خلاف الواقع وخلاف حكم العقل فكان لا بد من تأكيده عليه السلام حكم العقل كي لا يجمع الفقهاء على مخالف للعقل والوجدان.

 

هل يتوقف الاجتهاد أو الأعلمية على مراجعة كتب المعاصرين والمتأخرين؟

تنبيه: هل يصح ان يقتصر في الاجتهاد على مراجعة كتب القدماء فقط كالعدة والذريعة أو مع كتب أمثال المحقق والعلامة، والاستغناء بها عن كتب الشيخ والآخوند والنائيني والعراقي والاصفهاني ومن لحقهم؟.

وبعبارة أدق: 1- هل يتوقف تحقق ملكة الاجتهاد على مراجعة كتب المعاصرين الأصولية والفقهية وكتب المتأخرين أو لا؟

2- على فرض العدم، فهل فعلية الاجتهاد متوقفة على ذلك؟

3- وعلى تقدير عدمهما، فهل الأعلمية متوقفة على ذلك؟

والجواب: الظاهر ان الملكة غير متوقفة على مراجعة كتب المتأخرين أو المعاصرين، نعم بعض مراتبها متوقفة، لكن ذلك غير أقربية الإصابة.

واما الأعلمية ففيها تفصيل على حسب المباني في ملاكاتها وهي عشرة أو أكثر ككونه أقوى ملكة أو أكثر إحاطة بالمدارك أو القواعد أو الأقرب للذوق العرفي.. إلى غير ذلك.

 

فعلية الاجتهاد في العقليات والنقليات والعرفيات والمتجددات

واما فعلية الاجتهاد في المسألة فقد يفصّل: بين العقليات والعرفيات والنقليات والمسائل المتجددة.

اما العقليات، والمراد بها المسائل الاصولية التي كان الحاكم فيها العقل أو الوجدان كمسألة الترتّب واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام أو الخاص عقلاً، واجتماع الأمر والنهي فيما كانت حيثيته انضمامية أو اتحادية.. الخ فالظاهر عدم الحاجة إلى مراجعة كتب المتأخرين مادام قد استقلّ عقله بأحد الأطراف، وهو أهون وأولى مما صرح به بعض الأعلام من ان المرجع في لزوم تقليد الأعلم وعدمه هو عقل المكلف فلو استقل عقله بعدم لزومه لما أمكن إلزامه به، نعم لو لم يحكم عقله بشيء تعيّن عليه تقليد الأعلم في مسألة تقليد الأعلم، فتأمل.

نعم ينبغي ان يكون قادراً على الإجابة على الشبهات الواردة أو التي يمكن ان تورد على أي حكم عقلي، وإلا لما كان مجتهداً، ولا يجب عليه تتبعها إلا بالقدر المتعارف منها، بل هو غير محتاج إليه مادام قد استقل عقله به إلا لو احتمَلَ عُقلائياً خطأه في حكمه العقلي.

واما العرفيات، فكسابقها، إذ المرجع العرف ولا مجال فيه لتدقيقات المتأخرين فلا حاجة إلى مراجعة أقوالهم في فعلية الاجتهاد في المسألة إلا لو احتمل وجود ما يؤثر في فهمه العرفي.

واما المسائل المتجددة، كالعديد من فروع العلم الإجمالي، فلا بد من مراجعة كتب المتأخرين بالقدر المتعارف.

واما النقليات، فإذا احتمل تجدد دليل أو دلالةٍ لدى المتأخرين وجب الفحص في كلماتهم، والأول نادر ومثاله ما اكتشفه والد الشيخ البهائي من صحاح الروايات([7]) الدالة على الاستصحاب بعد ان كان مستند المشهور فيه العقل، والثاني ممكن في وجهِ الاستدلال بالحديث.. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

قال الإمام الصادق عليه السلام: ((إنّ الإيمانَ عَشْرُ دَرَجاتٍ بِمَنزِلَةِ السُلَّمِ، يُصْعَدُ مِنهُ مِرْقاةً بَعدَ مِرْقاةٍ، فلا يَقُولَنَّ صاحبُ الاثنَينِ لِصاحِبِ الواحدِ: لَستَ على شَيءٍ، حتّى يَنْتهيَ إلَى العاشِرِ. فلا تُسْقِطْ مَن هُو دُونَكَ فيُسْقِطَكَ مَن هُو فَوقَكَ، وإذا رأيتَ مَن هُو أسْفَلُ مِنكَ بدرجةٍ فارْفَعْهُ إليكَ برِفْقٍ، ولا تَحْمِلَنَّ علَيهِ ما لا يُطيقُ فَتَكْسِرَهُ، فإنّ مَن كَسَرَ مؤمنا فعلَيهِ جَبْرُهُ)) (الكافي: ج2 ص44).

 

 

----------------------------------------------------------------------

([1]) السيد كاظم الحسيني الحائري، مباحث الأصول، انتشارات دار البشير – قم، 1433هـ، ج2 ص303-304.

([2]) ووقوعه في مثل أذهب للمدرسة فإن لم تفعل فاشترٍ الخبز أو أذهب للمتجر.

([3]) أي في المسألة التي بنو على وجوبها (أي المهم الذي حكموا بوجوبه) على تقدير عصيان الأهم.

([4]) الشيخ محمد إسحاق الفياض، محاضرات في أصول الفقه، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدس سره، 1422هـ، ج2 ص400.

([5]) محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت – قم، 1409هـ، ج27 ص62.

([6]) محمد بن إدريس الحلي، مستطرفات السرائر، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1411هـ، ص575.

([7]) روايات زرارة الثلاث بل الأربع.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3296
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 18 ربيع الاول 1440 هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19