• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 152- تفصيل إمكان استحباب مقدمة الواجب لوجوه خمس منها التعارض والتزاحم .

152- تفصيل إمكان استحباب مقدمة الواجب لوجوه خمس منها التعارض والتزاحم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(152)

 

الجواهر: التعارض، المكاسب: التزاحم

وصفوة القول: ان صاحب الجواهر ذهب إلى التعارض بين أدلة حرمة الولاية من قبل الجائر وأدلة الأمر بالمعروف، في مادة الاجتماع، فيخير بينهما واما الاستحباب فيستفاد من دليل خارج وهو خبر محمد بن إسماعيل وغيره، ولكن الذي ارتأيناه هو التزاحم بينهما وان الترجيح للأهم منهما وهو يختلف باختلاف أنواع الجائرة الولايات (وكم هي درجة جوره ودرجة الشرعية التي يمنحها الشخص للجائر بتولية من قبله أو درجة تقويته لسلطانه) من جهةٍ ونوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووزنه وأهميته من جهة أخرى، ولقد ذهب الشيخ في المكاسب إلى التزاحم وإن عبّر في البداية بالتعارض لكن كلامه كله ظاهر في انه يرى التزاحم إضافة إلى انه صرح به أخيراً – وسيأتي كلامه.

 

الصور الخمس لاستحباب مقدمة الواجب

ولا بد لكي يتضح عمق المسألة وموضع النقاش بين الشيخ والجواهر من تمهيد مقدمة بُني كلامهما على بعضها وهي:

ان مقتضى القاعدة ان تتبع مقدمة الشيء الشيء في الحكم لكن غيرياً، أي ان تكون مقدمة الواجب واجبة (عقلاً، أو عقلاً وشرعاً) ومقدمة المستحب مستحبة وهكذا.. ولكن هل يعقل ان تكون مقدمة الواجب مستحبة مثلاً؟ الجواب ذلك ممكن في صور خمس ثانيها هو ما اختاره الجواهر ورابعها ما اختاره المكاسب:

 

مقدمةٌ مستحبةٌ ذاتاً واجبةٌ غيرياً

الصورة الأولى: ان يقع المستحب الذاتي مقدمة للواجب كما لو صارت صلاة الليل مقدمة موصلة لإنقاذ عمرو من القتل أو من الكفر فانها تكون واجباً غيرياً ومستحباً نفسياً، فلها على استحبابها النفسي ثوابها واما وجوبها الغيري فخلاف من انه يستحق عليه الثواب والعقاب أو ان الثواب والعقاب إنما هما على ذي المقدمة فقط.

وهذه الصورة هي المستحب الذي يقع مقدمة للواجب بالفعل عكس صورتي الجواهر والمكاسب الاتيتين حيث ان المستحب يقع مقدمةً للواجب اللولائي (أي الذي كان واجباً لولا المعارض والمزاحم).

 

مقدمةٌ مستحبةٌ بدليل خارجي، لِواجبٍ لولائي

الصورة الثانية: ان يقع شيء مقدمة لواجب تعارض مع واجب آخر فيخير بينهما – حسب مبنى الجواهر – فتكون مقدمة كل منهما بما هي مقدمة له خاصة مباحةً، وإن كان أحدهما على سبيل البدل واجباً (أو الجامع واجباً) لكن يستفاد استحباب المقدمة من دليل آخر – فهذا هو الواجب اللولائي على ما اصطلحنا عليه أي لولا المعارضة لكان واجباً.

قال في الجواهر: (وكيف كان، فقد ظهر لك الوجه في قول المصنف وغيره: (ولو أمِن ذلك) أي اعتماد ما يحرم (وقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحبت) الولاية من الجائر.

لكن في المسالك أن (مقتضى ذلك وجوبها حينئذٍ؛ للمقدمة) ثمّ قال: (ولعلّ وجه عدم الوجوب: كونه بصورة النائب، وعموم النهي عن الدخول معهم وتسويد الاسم في ديوانهم، فإذا لم يبلغ حدّ المنع فلا أقلّ من الحكم بعدم الوجوب، ولا يخفى ما في هذا التوجيه)([1]).

قلت: لم يُحك عن أحد التعبير بالوجوب إلا عن الحلّي في سرائره، ووجهه: ما سمعته آنفاً وفي الولاية من العادل.

اللّهمّ إلا أن يقال - ولو بمعونة كلام الأصحاب بناءً على حرمة الولاية في نفسها -: إنّه تعارَضَ ما دلّ على الأمر بالمعروف وما دلّ على حرمة الولاية من الجائر ولو من وجه، فيجمع بينهما بالتخيير المقتضى للجواز؛ رفعاً لقيد المنع من الترك ممّا دلّ على الوجوب، والمنع من الفعل ممّا دل على الحرمة.

وأمّا الاستحباب فيستفاد حينئذٍ من ظهور الترغيب فيه في خبر محمد بن إسماعيل وغيره، الذي هو أيضا شاهد الجمع، خصوصاً بعد الاعتضاد بفتوى المشهور.

وبذلك يرتفع حينئذٍ إشكال عدم معقوليّة الجواز بالمعنى الأخصّ في مقدمة الواجب؛ ضرورة ارتفاع الوجوب للمعارضة، إذ عدم المعقوليّة مسلّم فيما لم يعارض فيه مقتضى الوجوب)([2]) فهذا هو الوجوب اللولائي الذي أشرنا إليه.

 

مقدمةٌ لواجبٍ عارَضَهُ ما أرجعه للاستحباب

الصورة الثالثة([3]): وهي ان يقع شيء مقدمة لواجب يتعارض دليله مع دليلٍ آخر فيجمع بينهما بحمل الأول على الاستحباب، وذلك كما لو ورد اغتسل للجمعة وورد لا بأس بترك غسل الجمعة فإن لا بأس نص في الجواز واغتسل ظاهر في الوجوب فيرفع اليد عنه إلى الاستحباب، والسرّ ان (لا بأس بترك) ينسجم مع كل من استحبابه وإباحته وإنما يتعارض مع وجوبه ولا وجه لرفع اليد عن أكثر من مصبّ التعارض ومحلّه وهو الوجوب، نعم هذا مبني على مشككية الأحكام وان الوجوب مرتبة أقوى من الاستحباب فإذا ارتفعت المرتبة الأقوى بالمعارضة بقيت المرتبة الأضعف، واما على كون الوجوب والاستحباب حقيقيتين متباينتين فانه بعد رفع الوجوب بالمعارضة لا مثبت للاستحباب إلا دليل خارجي.

 

مقدمةٌ لواجبٍ زاحَمَهُ واجبٌ آخر أضعف منه([4])

الصورة الرابعة: ان يقع شيء مقدمة لواجب يتزاحم مع واجب آخر ويكون أحدهما أهم من الآخر بقليل أي لا بدرجة الإلزام فانه يكون واجباً لولائياً ومستحباً فعلياً فتكون مقدمته مستحبة فمثلاً: لو تزاحم إنقاذ ولدين لأم وكانت الأم تفرح بإنقاذ الأكبر (أو الأصغر) أكثر (حيث دار الأمر بينهما) فان مقدمات إنقاذه تكون إضافة إلى وجوبها الغيري (أو جوازها شخصاً، والوجوب الغيري للجامع) مستحبة لأنها تدخل السرور في قلب الأم أكثر. والمقام بنظر الشيخ قدس سره من هذا القبيل.

قال في المكاسب: (وفي الشرائع: ولو أمن من ذلك أي اعتماد ما يحرم وقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحبت.

قال في المسالك: بعد أن اعترف أنّ مقتضى ذلك وجوبها: (ولعلّ وجه عدم الوجوب كونه بصورة النائب عن الظالم وعموم النهي عن الدخول معهم وتسويد الاسم في ديوانهم، فإذا لم يبلغ حدّ المنع فلا أقلّ من عدم الوجوب).

ولا يخفى ما في ظاهره من الضعف كما اعترف به غير واحد لأنّ الأمر بالمعروف واجب، فإذا لم يبلغ ما ذكره من كونه بصورة النائب إلى آخر ما ذكره حدّ المنع، فلا مانع من الوجوب المقدّمي للواجب.

ويمكن توجيهه بأنّ نفس الولاية قبيح محرّم؛ لأنّها توجب إعلاء كلمة الباطل وتقوية شوكته فإذا عارضها قبيح آخر وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس أحدهما أقلّ قبحاً من الآخر فللمكلّف فعلها تحصيلًا لمصلحة الأمر بالمعروف، وتركها دفعاً لمفسدة تسويد الاسم في ديوانهم الموجب لإعلاء كلمتهم وقوّة شوكتهم.

نعم، يمكن الحكم باستحباب اختيار أحدهما لمصلحة لم يبلغ حدّ الإلزام حتّى يجعل أحدهما أقلّ قبحاً ليصير واجباً.

و الحاصل: أنّ جواز الفعل والترك هنا ليس من باب عدم جريان دليل قبح الولاية وتخصيص دليله بغير هذه الصورة، بل من باب مزاحمة قبحها بقبح ترك الأمر بالمعروف، فللمكلّف ملاحظة كلّ منهما والعمل بمقتضاه، نظير تزاحم الحقّين في غير هذا المقام. هذا ما أشار إليه الشهيد بقوله: لعموم النهي.. إلخ)([5]).

وكلامه كله ظاهر في انه بنى الأمر على التزاحم فلاحظ قوله (نفس الولاية قبيح محرّم؛ لأنّها توجب...) و(فإذا عارضها قبيح آخر...) و(وليس أحدهما أقلّ قبحاً من الآخر) وأصرح منه قوله: (فللمكلّف فعلها تحصيلًا لمصلحة الأمر بالمعروف وتركها دفعاً لمفسدة تسويد الاسم...) وقوله (نعم...) وأصرح من الكل قوله: (بل من باب مزاحمة قبحها بقبح ترك الأمر بالمعروف، فللمكلّف ملاحظة كلّ منهما والعمل بمقتضاه، نظير تزاحم الحقّين في غير هذا المقام) فاتضح ان تعبيره في البداية بـ(فإذا عارضها) مسامحة وكان الأولى ان يعبر بلفظ يحتمل الوجهين كأن يقول (فإذا دافعها) فان المدافعة متحققة في المعارضة وفي المزاحمة أيضاً.

 

مقدمةٌ زاحمَتْها مقدمةٌ أخرى، أضعف قليلاً

الصورة الخامسة: وقد يكون التزاحم بين نفس المقدمتين بما يخرجهما عن الوجوب الغيري التعييني لكن مع أرجحية أحداهما لجهة خارجية لكن لا إلى درجة تبلغ حدّ الإلزام فانه يكون مستحباً، وقد يمثل له بما لو تزاحم القفز لإنقاذ أحدهما مع وضع السلم لإنقاذه لكن وضع السلم كان يزاحم وظائفه المدرسية فأحد الأمرين من وضع السلم والقفز واجب على سبيل البدل لكن القفز لأنه لا يزاحم أمراً آخر فانه جائز بل يمكن ان يكون مستحباً عكس وضع السلم الذي يكون حينئذٍ مكروهاً. فتأمل

 

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

قال الإمام الكاظم عليه السلام: ((إِنَّ الْعُقَلَاءَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا وَرَغِبُوا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا طَالِبَةٌ مَطْلُوبَةٌ وَالْآخِرَةَ طَالِبَةٌ وَمَطْلُوبَةٌ، فَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا رِزْقَهُ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَتْهُ الْآخِرَةُ فَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، يَاهِشَامُ: مَنْ أَرَادَ الْغِنَى بِلَا مَالٍ وَرَاحَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحَسَدِ وَالسَّلَامَةَ فِي الدِّينِ، فَلْيَتَضَرَّعْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَسْأَلَتِهِ بِأَنْ يُكَمِّلَ عَقْلَهُ فَمَنْ عَقَلَ قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ وَمَنْ قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ اسْتَغْنَى وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِمَا يَكْفِيهِ لَمْ يُدْرِكِ الْغِنَى أَبَداً‏))

(تحف العقول، ص387).

 

 

---------------------------------------------

([1]) مسالك الأفهام: التجارة/ فيما يكتسب به ج3 ص138-139 (بتصرف في صدر العبارة).

([2]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج22 ص164.

([3]) مما نضيفه مع الأولى والخامسة.

([4]) قليلاً.

([5]) الشيخ مرتضى الانصاري، ط / تراث الشيخ الأعظم، ج2 ص78-80.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3357
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 24 ربيع الثاني 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29