• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دراسات وقراءات .
              • الموضوع : الخلاصة من كتاب حرمة الكذب ومستثنياته .

الخلاصة من كتاب حرمة الكذب ومستثنياته

الخلاصة من كتاب حرمة الكذب ومستثنياته من كتب سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي
تلخيص: الشيخ محمد علي الفدائي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى اله الطيبين الطاهرين
كتاب "حرمة الكذب ومستثنياته" هو الكتاب الثالث من سلسلة "فقه المكاسب المحرمة" المحتوية على ما القاه سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في ضمن ابحاثه في المكاسب المحرمة.

والكتاب واقع على فصلين:

أما الفصل الأول فمختص بأدلة حرمة الكذب ومناقشتها، حيث ان حرمة الكذب بقول مطلق بديهية في الجملة، إلا أن الكلام في الأدلة المستدلة بها و مناقشة تمامية دلالتها على المدعى:
الدليل الاول المذكور في المقام هي الآيات الشريفة:
وهي كثيرة تتجاوز السبعين آية، منها آيات افتراء الكذب: كـ(إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون)[1] حيث ان الآية قد حصرت المفتري في غير المؤمن بآيات الله، وجعلت الملازمة بين افتراء الكذب وبين عدم الإيمان، فيكون هذا كذاك محرماً.
هذا، وقد يشكل عليه،أولاً: بأن الافتراء أخص من الكذب؛ حيث إنه مختص بالكذب العظيم -كما في مجمع البحرين[2]- والكلام في مطلق الكذب، وأيضاً بدلالة الحصر على كون الكذب المذموم خصوص الكذب على الله ورسوله ثانياً، كما يؤيده سياق الايات -مع تفصيل في حجية السياق[3]-، وثالثاً: بكون (ال) في (الكذب) للعهد بلحاظ الاية السابقة، بناء على حجية السياق، وعليه فالذم واقع على بعض افراد الكذب لا مطلقاً، وايضاً اشكالات اخرى تفصيلها في المفصل.
و استدل أيضاً بآيات أُخر ذامة للكذب، كـ(إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار)[4] و (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)[5]، وقد ناقش المؤلف دلالتها على حرمة مطلق الكذب مستشكلاً تارةً وأخرى مدافعاً، منتهيا إلى تمامية الاستدلال على تحريم الكذب مطلقاً بآية (واجتنبوا قول الزور)[6] دون غيرها.

أما الاستدلال بالعقل وهو الدليل الثاني في المقام فقد يستدل به على الحرمة بوجوه:
بناءً على القول بأن العقل ليس إلا مُدركاً: فإما أن يدرك حرمة الكذب فيكون حرمته من المستقلات العقلية، أويدرك قبحه وبقاعدة الملازمة يستدل على حرمته شرعاً.
أما على القول بأن له الحكم: فإما أن يحكم بقبح الكذب وبقاعدة "ما حكم به العقل حكم به الشرع" يُتمّم الاستدلال، أو يحكم بحرمة الكذب ابتداءً.
لكن قد يشكل عليه صغروياً: من أن حكم العقل بقبح الكذب ليس لذات عنوان الكذب حتى يحكم بحرمته مطلقاً كلما تحقق الكذب، بل لكونه مقدمة لمفسدة؛ فيحرم خصوص ما كان كذلك، كما قاله جمع من الاعلام[7].

ورد المصنف الاشكال بوجوه، منها:
١- ان حكم العقل لا يقتصر على وجود مصلحة او مفسدة بل هناك مناشئ أُخر لحكمه[8]، منها الاقتضاء الذاتي، كما في عبادته تعالى فإنه حسنٌ، لأنه تعالى مستحق للعبادة بما هو هو، وإن لم تكن هناك مصلحة مترتبة على عبادته تعالى، وقبح الكذب من هذا الباب، كما يشهد له الوجدان.

٢- تعدد معاني القبح والحسن[9]: فإنه قد يقال بقبح الكذب؛ لكونه مما بنى العقلاء أو العرف على قبحه، أو لكونه نقصاً، أو مما ينفر النفس، كما إنه قد أضاف سماحته معاني أخرى للقبح والحسن، كملائمة الشيء للجسد والعقل والروح أو منافرته لها، وأضاف أيضاً مطابقة العوالم الوجودية مع بعضها أو إختلافها، ومثّل له، أولاً: بقبح إلحاق النسب لغير الأب، فإنه قبيح لعدم مطابقة الوجود اللفظي مع الوجود الخارجي، وبقبح الكفر بالله فعدم مطابقة عالم الوجود الذهني للوجود الخارجي الواقعي من مناشئ الحكم بقبح ذلك، ثانياً.
وعلى ما ذكر فلا وجه لتخصيص حكم العقل بقبح الكذب فيما لازمته مفسدة فقط، لتحقق قبح غيره كذلك.

أما الكبرى وهي قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع:
فقد يدعى الإجماع عليها، و كون القول بها هو المعروف من المذهب كما يظهر من المطارح[10] والهداية[11]، لكن الكلام في معقد الإجماع، فما ذكر من أنواع الحسن والقبح لا يمكن إدعاء الإجماع على ملازمة حكم الشرع لها كلها، كما إن المصلحة والمفسدة من المفاهيم المشككة ذات مراتب، والضعيفة منها لا تقتضي الإلزام.
وعليه؛ فحتى لو قلنا بتمامية صغرى الاستدلال بأن العقل حاكم بقبح الكذب مطلقاً، إلاان الإشكال في انطباق الكبرى عليها، فلا يصح التمسك بدليل العقل لاثبات حرمة مطلق الكذب.
لكن يمكن ذلك على القول بالملازمة الظاهرية بين الحكمين -كما ذهب إليه صاحب الفصول[12] بعد انكاره للملازمة الواقعية-، والمراد منها: أنه بعد انكار ثبوت الملازمة الواقعية، وسببه احتمال وجود مانع لتبعية الشارع لما حكم به العقل، وذلك لكون مجرد حكم العقل بالحسن أو القبح مقتضياً لا علةً تامة، أو يكون سببه احتمال وجود مزاحم لذلك، إلا إنه يمكن دفع هذا الاحتمال بأصالة عدم وجود المانع أو المزاحم فتثبت الملازمة مع إجراء الأصل ظاهرياً.
لكنها مردودة بإشكالات تسع، منها:
١- إن الأصل المدعى وإن ثبت، إلا أنه من قبيل الأصل المثبت، حيث يراد به هنا رفع المانع لاثبات بقاء إقتضاء حكم العقل على تماميته، وهذا لازم عقلي لا ينفع اجراء الاصل لاثباته.
٢- إن حجية الاستصحاب إما للأخبار، فتكون حجة للتعبد، ولا تعبد للعقل في الاعتقاديات والأصول، وإما لبناء العقلاء، وهم لا يجرونه في الشؤون الخطيرة، فعلى كلا التقديرين لا يمكن جريان الأصل (الاستصحاب) فيما نحن فيه. وتفصيل الاشكالات مذكور في الكتاب.
كما ان المصنف قد تطرق إلى ذكر الثمرة بين القولين: وذلك فيما لو ثبتت الملازمة الواقعية وبدليل اجتهادي فستكون حاكمة على الأدلة الأخرى، أما لو ثبتت الملازمة بأصل عملي ـ كما ادعاه صاحب الفصول ـ فتكون محكومة لا حاكمة. ومثل لذلك بقاعدة "لا حرج" بناء على كون مستندها هو حكم العقل بقبح التكليف الحرجي، فعلى ثبوت الملازمة الواقعية تكون القاعدة حاكمة على مثل أدلة الصيام فيما لو أوجب ضرراً، أما على الملازمة الظاهرية، فتكون محكومة لها.
والمحصل النهائي من هذا الفصل هو:أن المستند الوحيد للقول بحرمة الكذب على إطلاقه هي آية (واجتنبوا قول الزور)، أما العقل فلا يدل إلا على الحرمة في الجملة.
أما الفصل الثاني: ففيما ادعي استثناؤه من حكم الكذب، وهو على مسائل:
الأولى: الكذب هزلاً
والأقوال فيه أربعة، وقبل ذكر المنصور منها لابد من تقديم مقدماتٍ:
١- الفرق بين الهزل والمزاح: فإن الهزل مأخوذ فيه السخف وهو عبثي لا غاية له، بخلاف المزاح فلا يلزمه ذلك، وعليه فالدليل الناهي عن الهزل يختص به، ولا يسري حكمه إلى غيره لعدم المناط، كذلك الكلام في السخرية.
٢- أن المدار في الصدق والكذب هي مطابقة الواقع لا الإعتقاد، إضافة إلى أن ذلك بملاحظة ما احتف باللفظ من قرائن، لا لمجرد اللفظ.
٣- وجود قسيم آخر للصدق والكذب خلافاً لما اشتهر من عدمها، وهو فيما انفكت الإرادة الجدية عن الإستعمالية، كما لو قال المعلم "زيد قائم"، فإنه وإن لم تكن إرادته الإستعمالية مطابقة للواقع، إلا أنه لم يقصد الإخبار، فبلحاظ الإرادة الإستعمالية و الخبر بما هو هو يكون كذباً، أما بلحاظ إرادته الجدية و كونه غير قاصداً للإخبار عن الواقع فلا يصح اتصافه بالكذب والصدق، فهو ليس بإخبارٍ ولا إنشاء.
٤- انقسام الكذب الى كذب الحاكي وهو ملاحظة الكذب منسوباً إلى قائله، فمع نومه أو غلطه لا يكون كاذباً، وإلى كذب الحكاية و هو ملاحظة اللفظ بما هو هو من حيث مطابقته للواقع وعدمه، مع قطع النظر عن اللافظ والحاكي.
٥- فعلى ما سبق هل الروايات المستدلة بها تعم قسمي الكذب، أم تختص بالحاكية؟ و مقتضى التحقيق في كبرى المسألة هو: وجود نوعين لتعلق الأحكام بموضوعاتها، فمن الأحكام ما تتعلق بالعنوان بما هو هو، ومنها ما تتعلق بلحاظ انتساب العناوين إلى فاعلها، هذا ثبوتاً. أما اثباتاً فلابد من ملاحظة لسان الدليل لتعيين أحدهما في كل مورد على خصوصه، لكن مع الشك فيه فهل الأصل هو تعلق الحكم بالعنوان بما هو هو، أم بلحاظ الانتساب إلى الفاعل؟ والظاهر أن العنوان هو تمام الموضوع لثبوت الحكم له من غير اشتراط شرط زائد، وقد استُدِل عليه بأدلة ثلاثة ناقشها المصنف منتهياً إلى التفصيل بين القضايا النوعية والشخصية، فالأصل في القضايا النوعية هو التعلق بالعنوان بما هو هو، وذلك لبناء العقلاء وهو غير متوفر في الشخصية، وما نحن فيه من القضايا الشخصية.
٦- إن البحث في الكذب الهزلي فيما لم يتضمن إيذاءً أو إغراءً، وإلا فهو حرام لملازمتهما له، لا بعنوانه الأولي.
وأول الأقوال الحرمة، مستدلين لها أولاً: بآية (اجتنبوا قول الزور)[13] حيث إن العرف يرى الكذب مطلقاً مصداقاً لقول الزور، وبشمول إطلاقات رواياتٍ أربع ناهية عن الكذب للهزلي منه، ثانياً، كرواية الحارث الأعور عن علي (عليه السلام): "لا يصلح من الكذب جد ولا هزل...إن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار"[14].
هذا وقد ناقش المصنف الاستدلال بها بوجوه، منها عامة ترد على جميع الروايات، ومنها خاصة ترد على كل واحدة لوحدها.
والوجوه العامة ستة، يخرج بأربعة منها الكذب الهزلي عن الكذب موضوعاً، ولو في الجملة، كإدعاء إن الهزل إنشاء، فيكون إطلاق الكذب عليه من باب المجاز، أو أنه فاقد للقصد إلى مضمونه فلا يدخل في الكذب، أو لأن العرف لا يراه كذباً، أو لأن معه قرينة على كونه هازلاً فلا يكون كذباً.
وبوجهين آخرين يمكن ادعاء انصراف الأدلة عن الكذب الهزلي، مع ما أوردها المصنف من نقض وإبرام على هذه الوجوه.
أما الوجوه الخاصة، فمنها ما قد أوردها السيد الخوئي على رواية الحارث المذكورة حيث ذكر أن عبارة "لا يصلح" في الرواية ظاهرة في الكراهة لا الحرمة.
وقد أجاب المصنف عن الإشكال المزبور: بأن التعليل في عجز الرواية صريح في الحرمة، إضافة إلى أنه على ما ذُكر يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى،  (بناء على استحالته أو قبحه أما على جوازه كما ذهب إليه المصنف فلا مانع) وذلك لإرادة الحرمة من عبارة (لا يصلح) في الكذب الجاد، والكراهة في الهزلي.
هذا وقد أورد المصنف على الاستدلال بهذه الرواية، أولاً: بكون النهي في الرواية بخصوص ما يؤدي إلى الفجور وذلك بقرينة عجزها، إضافة إلى كونها إرشادية كما يظهر ذلك من التعليل ومن عبارة "لا يصلح"، آمراً بالتأمل فيهما.
والقول الثاني هو ما ذهب إليه المحقق الإيرواني (رحمه الله) من جوازه مطلقاً، واستدل على ذلك بالوجوه المذكورة في مناقشة أدلة القول الأول.
وأما السيد الخوئي (رحمه الله) فقد ذهب إلى قول ثالث وهو التفصيل بين الهزل الإنشائي ـ كـقول القائل هازلاً (انت بطل)ـ، فلا يحرم لخروجه عن الكذب موضوعاً، لكون الصدق والكذب ممّا يتصف به الخبر لا الإنشاء، وبين الإخباري فيكون محرماً[15].

وقد ناقش المصنف التفصيل بمناقشتين:
ملخص الأولى هي: إن قول الهازل "أنت بطل" ليس بإنشاء كما يدعيه السيد، بل هو إخبار يتضمن إخباراً آخر معاكس له، فلا مانع من اتصافه بالكذب باعتباره.
والثانية: مبنية على تحقيق في حقيقة الإخبار والإنشاء، وينتهي المصنف فيه إلى ما يخالف مشهور البلاغيين والأصوليين، وملخصه هو: إن الإنشاء متضمن للإخبار، كما إن الإخبار متضمن للإيجاد أيضاً، وبيان ذلك في تحليل قول الهازل متمنياً "ليتك كنت تقياً" فأنه إنشاءٌ، لكنه يبتطن إيجادين وإخباراً، وذلك في إنشائه للتمني، وإيجاده لأركان القضية من المحمول والموضوع في ذهن المخاطَب، هذا فيما يتضمنه من إيجاد، أما الإخبار المتضمن عليه، فذلك فيما يلازمه من إخبار عن عدم تقوى المخاطب، حيث إن التمني بحصول شيء كاشفٌ عن عدم تحقق ذلك الشيء، وهذا ينطبق على كل جملة إنشائية، وعلى هذا فإنه يمكن اتصاف الإنشاء بالصدق والكذب بلحاظ ما يتضمنه من الإخبار.
وأما القول الرابع وهو التفصيل بين ما اشتمل على قرينة، وما لم يكن كذلك: فقد ذهب إليه الإمام الشيرازي (رحمه الله) مستدلاً بخروج ما معه قرينة على كونه هازلاً عن الكذب موضوعاً، أو حكماً[16].
وقد استدل المصنف لهذا القول: بأن المدار في الصدق والكذب هي مطابقة اللفظ مع ما اكتنف بها من قرائن، لا اللفظ بما هو هو مجردة عن القرائن، وعليه فتعريف الكذب لا يشمل الكذب الهزلي الذي معه قرينة، بخلاف ما لم يشتمل على قرينة.

الرأي المختار:
هذا وقد ذهب المصنف إلى تفصيل آخر غير ما ذكر من تفصيلات، وهو تفصيل بين صور خمسة، فإنه مع اجتماع عنواني الكذب والهزل في قولٍ واحد، لا يخلو الأمر عن صورٍ خمسة:
الأولى: أن يقصدان معاً، على نحو التشريك بلا غلبة لأحدهما.
الثانية والثالثة: أن يقصدان لكن مع غلبة أحدهما، دون أن يستهلك المعنى الغالب المغلوبَ، فإن كان الغالب هو الهزل فهذه الصورة الثانية، وعكسها الثالثة.
الرابعة والخامسة: أن يقصدان والغلبة لأحدهما مع استهلاكه للمعنى الآخر، فإن كان المضمحل هو الهزل فرابعة، وعكسها خامسة وهي صورة اضمحلال الكذب.
حيث ذهب إلى حرمة الصور كلها لاشتمالها على الكذب ولو مغلوباً -كما في الصورة الثالثة-، إلا الصورة الخامسة فإن المقصود منها هو الهزل لا غير، وذلك لاضمحلال الجنبة الإخبارية وخفائها مع وجود القرينة الصارفة عنها، فهذه الصورة إما خارجة عن أدلة حرمة الكذب موضوعاً أو يدعى الإنصراف عنها، هذا فيما لم تطغى المادة على القرينة، وإلا لمنعت قوة المادة الإنصراف المدعى، فيبقى إطلاق الأدلة شاملة لهذه الصورة أيضاً.

المسألة الثانية: في الكذب مزاحاً.
والروايات الواردة حول المزاح على طوائف:
الأولى: روايات مشيرة إلى المفسدة الدنيوية للمزاح، أعم من كونه صدقاً أو كذباً، منها قوله (صلى الله عليه واله) (كثرة المزاح تذهب بماء الوجه)[17]، والروايات من هذه الطائفة ظاهرة في الإرشادية[18]، وعليه فدلالة هذه الطائفة على الكراهة أظهر من الحرمة.

الثانية: روايات تذم المزاح لكونه مقدمة لما هو مذموم.
كقول علي (عليه السلام): (المزاح يورث الضغائن)[19]، فإذا ثبتت حرمة ذي المقدمة   -و مورد الرواية ليس كذلك فالضغائن ليست محرمة في نفسها- وبُني على كون مقدمة الحرام حرامٌ، فيمكن استفادة الحرمة المقدمية من هذه الطائفة من الروايات، وإلا فلا.

الثالثة: روايات تنفي الكمال عن المزاح، وتجعله في خانة الرذائل.
كقوله (عليه السلام): (كثرة المزاح تسقط الهيبة)[20]، ولسانها أخلاقي، فلا تدل على الحرمة، لعدم الملازمة بين الرذيلة والحرمة.

الرابعة: وهي تدل على الحرمة لعنوانه.
كقول الصادق (عليه السلام): (المزاح هو السباب الأصغر)[21]، والظاهر منها جعل المزاح مصداقاً للسباب، وبما ان حرمة السب لا خلاف فيها، فكذلك المزاح الذي جعل من مصاديقه.
وهاهنا بحث، وهو: هل المراد من السباب المذكور في الرواية هو المفهوم العرفي، والإمام قد جعل المزاح مصداقاً له، أم أن الإمام في مقام بيان حقيقة مخترعة جديدة وعليه فمراد الرواية إما جعل المساواة بين المزاح والسباب، أو بيان كون المزاح اخص مطلقاً من السباب، لكن الإحتمال الثاني مخالفٌ لأصالة عدم اختراع اصطلاح جديد في المفاهيم العرفية، إضافة إلى كونه خلاف سيرتهم (عليهم السلام).

الخامسة: الروايات المادحة للمزاح.
كما روي عنه (صلى الله عليه وآله): (المؤمن دعب لعب)[22]، والمراد من الدعابة هو المزاح، كما ورد تفسيرها به في رواية الامام الصادق[23].
وقد جمع المصنف التعارض بين هذه الطائفة وسابقتها، ووجهه هو تقسيم المزاح إلى جارح، وهو المذموم حسب ما سبق من الروايات، وإلى مفرح وهو المراد في هذه الرواية، والشاهد على هذا الجمع هي: مناسبة الحكم للموضوع فإن المزاح المناسب للحكم عليه بكونه سباباً هو المزاح الجارح، إضافة إلى ما ورد من روايات تشهد عليه، وهي روايات الطائفة الآتية.

السادسة: ما تؤيد وجه الجمع السابق.
كما ورد من الصادق (عليه السلام): (…وكثرة المزاح في غير ما يسخط الله)[24]،  وغيرها من الروايات شاهدة على الجمع السابق، حيث يظهر منها وجود قسمين للمزاح: ما يسخط الله وهو الجارح، وما لا يسخط الله وهو المدخل للسرور.
هذا، أما فيما لو اجتمع عنواني المزاح والكذب -كما في الكذب المزاحي-، فبما أن إدخال السرور عنوان لا اقتضائي، بخلاف حرمة الكذب، والتقديم حينئذ للاقتضائيات قبل وقوع التزاحم، فلا تنفع المادحة من الروايات في حلية المجمع، إلا أن يقال بخروج الكذب المزاحي من الكذب موضوعاً، أو بانصراف أدلة الكذب عنه، على ما مضى تفصيله في أقوال المسألة السابقة.
هذا وقد يتوهم وقوع المنافاة في الروايات الذامة بين التي قيدت المزاح بالكثرة، وبين المطلقات منها، وقد ذكر المصنف وجهين معهودين للجمع بينها.
الأول: ان الوصف لا مفهوم له حتى تتحقق المنافاة،
ثانياً: مع التسليم بمفهومه وتحقق المنافاة، فالمنطوق مقدم على المفهوم فيما لم يكن الفهم العرفي مع المفهوم، فيكون المقدم هو الأظهر منهما عرفاً.
وقد أضاف المصنف وجهين آخرين:
من أن المزاح من الحقائق المشككة ذات مراتب، فالتي قيدت المزاح بالكثرة ناظرة إلى المرتبة الأعلى، وأما المطلقة ناظرة إلى الأدنى.
و ثاني الوجهين هو: التصرف في المطلقات منها وتخصيصها بالمزاح بالباطل والكاذب، وأما المقيدة بالكثرة فهي شاملة للصادق والكاذب من المزاح.

المسألة الثالثة: الكذب في الوعد.
وهو على صور أربع:
الأولى: ما لو وعد بصيغة الإخبار مع عزمه على عدم الوفاء، فهو كاذبٌ موضوعاً لعدم مطابقة إخباره للواقع.
الثانية: ما لو تعهد بشيء مع العزم على عدم الوفاء، فهو إنشاء لا يعتبر صدقاً أو كذباً، إلا على ما ذهب إليه تحقيق المصنف من صحة اتصافه بهما بملاحظة ما يتضمنه من إخبار.
الثالثة: ما لو وعد عازماً على الوفاء مع عدم تمكنه من الوفاء لاحقاً، فلا يكون كاذباً، بل هو صادق عند العرف.
الرابعة: ما لو وعد مع عزمه على الوفاء، لكنه خالف وعده مع تمكنه من الوفاء به، فإنه يلام عرفاً على عدم الوفاء دون أن يعتبر كاذباً عندهم، لكن على ما سبق من تقسيم الكذب إلى الحكاية والحاكي -الذي ذهب اليه المصنف- فيكون كذباً من حيث الحكاية لعدم مطابقة الخبر للواقع، وقد يكون كاذباً باعتبار نقضه للعلة المبقية تفكيكاً بين العلة المحدثة والمبقية، لكنه تفكيك غير عرفي.

المسألة الرابعة: المبالغة.
قد ذهب الشيخ (رحمه الله) في مكاسبه[25] إلى عدم كون المبالغة من الكذب وإن بلغت ما بلغت، وقد ناقش المصنف إطلاق الشيخ (رحمه الله)، مقيداً له بقيدين:
الأول: إنها كذلك إذا كانت مبالغةً عرفية، وإما إن لم تكن كذلك فتكون كذباً، لكون العرف هو المرجع في تحديد المفاهيم.
الثاني: وجود قرينة حالية أو مقالية على كونه مبالغة، حيث إنه مع وجود القرينة ينعقد الظهور الثانوي للكلام، فيكون اللفظ ظاهراً في المبالغة وبيان الكثرة لا في المعنى الأولي غير المطابق للواقع.
ويظهر من الشيخ التفريق بين المبالغة الكمية والكيفية؛ حيث ذهب في الأولى إلى عدم كونها من الكذب مطلقا، وفي الثانية فصل بين كونها في محلها فتكون صادقة، وإلا كانت كاذبة.
لكن في تفريقه نظر حيث إن المرجع في ذلك هو العرف، فما تجاوز الحد العرفي -كماً أو كيفاً- تكون كاذبة.
هذا وقد أضاف الإمام الشيرازي (رحمه الله) إلى ذلك:
أولاً: شمول المبالغة للجهة كما تشمل الكم والكيف، كما لو بالغ في القضية الممكنة وجعلها ضرورية، وقد جعل مدار المطابقة هو القصد لا اللفظ[26].
وما ذكره السيد موافق للقاعدة، إلا في جعله القصد مداراً، فإنه ينبغي أن يجعل المدار هو ظهور اللفظ مع القرينة، وأن تكون في ضمن الحد العرفي كذلك، فلذلك لا يجري ماذكره في المحاورات العلمية لكون المدار فيها الدقة العلمية لا العرف المسامحي.
ثانياً: إن المبالغة كالكذب لا تختص بالقول بل تعم الإشارة والفعل والكتابة، وذلك لأن دائرة الصدق والكذب لا تختص بإحدى العوالم، بل تشمل مختلفها بلحاظ مطابقتها لعالم الواقع والخارج، وعدمها.

المسألة الخامسة: نسبية الصدق والكذب.
والبحث فيها هو في امكان اتصاف كلام واحد بالصدق وبالكذب باختلاف النسب، كنسبته إلى متكلمين، أو إلى زمانين مختلفين، كما ادعاه الشيخ(رحمه الله)[27].
وقد ذكر المصنف أقساماً ستة للحقائق تحقيقاً للمسألة:
الأول: الحقائق المطلقة، كاستحالة اجتماع النقيضين وغيرها من المسائل العقلية فهي حقائق مطلقة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال، فهي إما كاذبة أو صادقة، ولا تتصور النسبية فيها.
الثاني: الحقائق النسبية الفلسفية، وهي المقولات السبع التي قد أخذت النسبة في ذاتها، ومعنى النسبية فيها أن النسبة إلى شيء قد أخذت في قوامها، فالصدق والكذب مطلقان فيها ولا يختلفان باختلاف النسب.
الثالث: النسبية الهرمينوطيقية، وقد فصل المصنف فيها وفي وجوه مناقشتها في كتاب (نقد الهرمينوطيقا) و كتاب (نسبية الحقيقة والمعرفة) ذاكراً لها أربعة عشرة معنى حسب المدارس المتبنية لها.
الرابع: الانتسابية، و الظاهر إنه هو المعنى المراد للشيخ الانصاري (رحمه الله) في مدعاه، حيث يُقصد منها: إن الكلام قد يكون صادقاً باعتبار نسبته إلى شخص، وكاذبا باعتبار نسبته إلى آخر.
الخامس: الإضافية، وهي مقولة الإضافة، والفارق بينها وبين باقي المقولات النسبية إن النسبة في الإضافة متكررة بخلاف غيرها.
وهذه كذلك لا يختلف اتصافها بالصدق والكذب بإختلاف النسب.
السادس: التشكيكية، كالعلم وغيرها من الحقائق التي لها مراتب متعددة، فالصدق والكذب فيها مطلق أيضاً ويشترط في صدقها مطابقة اللفظ للرتبة الواقعية.
وتحقيق المسألة في المسألة القادمة.

المسألة السادسة: المغالطة
ومن أنواع المغالطة التي تدخل في الكذب موضوعاً:
الأول: لبس الظرف بالقيد، ومثال ذلك ما قد أورده بعض الفلاسفة الغربيين: من أن الأوامر والنواهي الشرعية وردت في زمان ومكان معينين، فتكون مختصة بهما، فلا تعمنا نحن. ووجه حل الإشكال هو التفريق بين القيد والظرف، فالزمان والمكان قد كانا ظرفاً للأوامر والنواهي لا قيداً حتى يرد ما ذكره من مغالطة.
الثاني: ايقاع اللبس بلحاظ النسبية والانتسابية، كما قد يدعيه شخص ويقول "إن الأربعة فرد بنظري" فإن كان قصده الحكاية عن معتقده فهو صادق، وإلا فيكون كذباً، كذلك في اختلاف أقوال المجتهدَين، إن قصدا الحكاية عن نظرهما فهما صادقين معاً، وإلا فأحدهما صادق دون الآخر.
الثالث والرابع: مغالطة الإطلاق والإهمال، ومغالطة البيان والإجمال، ومثالهما ما ذكره بعض فلاسفة الغرب[28] من: (إن الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا)، والمراد منها -كما يظهر- إن الشيء في مرحلة الاثبات مختلف عما هو عليه في الثبوت، كالأجسام البعيدة التي تُرى بحجم لكنها في واقعها أكبر مما تبدو للنظر.
ففي كلامه مغالطتان:
الأولى: إنه أوهم إطلاق القاعدة مع عدم كونها كذلك، فليس جميع الأمور كذلك بل بعضها يتطابق فيها عالم الإثبات مع الثبوت.
الثانية: أوهم كون عبارة (في حد ذاته) مبينةً، مع كونها مجملة تحتمل لأمرين وكلاهما باطلان.
هذا وقد يُناقش الشيخ القائل بانتسابية الكذب؛ بوجوه ثلاث:
الأول: إن ما يراد منه الإخبار عن النظر والمعتقد متضمن لإخبارين في الواقع، فإن الذي يقول بـ(أن الدور ليس بمحال في نظري) فإنه مخبرٌ أولاً عن معتقده، وقد يكون صادقاً فيه، وثانياً عن الواقع؛ لأنه لم يقصد الاخبار عن رأيه قاطعاً النظر عن الواقع، بل قصد من ذلك أن رأيه ونظره كاشف عن الواقع ومرآة له، فيكون كاذباً بلحاظ هذا الإخبار الثاني، فالمغالطة في كلامه هو إيهام إرادة كون نظره هو المقصود بالاستقلالية لكن نظره ليس إلا مرآة للواقع، وعليه فما ذكره الشيخ من استثناء كون المبالغة من الكذب فيما إذا كان كذلك في نظر المبالغ، لا يصح استثناؤه، ويتصف بالكذب أيضاً، بلحاظ ما يتضمنه من الإخبار الثاني.
الثاني: إنه وإن تنازلنا عن ذلك، فحمل خبره عن كونه إخبارا عن المعتقد مفتقرٌ إلى قرينة تُصرف عن إخبار الواقع، حيث إن الظهور الأولي للفظ كونه إخباراً عن الواقع.
الثالث: إنه على بعض معاني الحسن والقبح يكون الكذب فيها مطلقاً ولا يحتمل النسبية، كـ الكمال والنقص فإنها من الأمور الثبوتية التي لا تختلف باختلاف الأنظار، و كذلك بمعنى مايستحق مدح العقلاء او ذمهم لأن المقياس فيه هو الاقتضاء الذاتي، والمعاني الآخرى كذلك لا تتصور النسبية فيها، إلا على معنى الملاءمة والمنافرة للطبع أو الذوق، فإنه يختلف باختلاف الطبائع والأذواق، وكلام الشيخ جارٍ في هذا المعنى دون غيره.
وللمغالطة والمبالغة صور ثلاث من حيث كونها صادقةً أو كاذبة:
الأولى: إقامة المتكلم قرينة على قصده لرفع الإيهام أو لبيان إرادة الكثرة، فلا يكون كلامه كذباً، لما ذُكر من انعقاد الظهور الثانوي للفظ وهو مطابق للواقع.
الثانية: ألا تقام قرينة خاصة على مراده، لكن هناك قرينة عامة عليه، فمع مطابقة الظهور العرفي لكلامه مع الواقع يكون صدقاً، لا كذبا.
الثالثة: ألا تقام قرينة لا خاصة ولا عامة، فالمرجع حينئذ الظهور الأولي للفظ، ومع فرض عدم مطابقته للواقع يكون كذباّ.
وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين.


--------
[1] سورة النحل: ٦٢.
[2] مجمع البحرين: ج١ ص٣٢٩.
[3]حيث استظهر سماحة السيد أنّ السياق على درجات مختلفة من الظهور، فتارة يكون الظهور السياقي قويا، وتارة أخرى يكون ضعيفا فلا يخل بالإطلاق او العموم، وقد فصل في ذلك ممثلاً لكل من انواعه بمثال في الكتاب، فليراجع ثمة (كتاب حرمة الكذب ومستثنياته: ص٢٨ ـ ٣٧).
[4] سورة الزمر: ٣.
[5] سورة المنافقون: ١ ـ ٢.
[6] سورة الحج: ٣٠.
[7] راجع: حاشية المحقق الايرواني على المكاسب: ج١ ص٣٩، مصباح الفقاهة للسيد الخوئي: ج١ ص٣٨٥، إرشاد الطالب إلى المكاسب للميرزا التبريزي: ج١ ص٢٢٦.
[8] وقد ذكر سماحته أربعة مناشئ وعلل لحكم العقل بالحسن أو القبح، وهي: المصلحة أو المفسدة البالغة أولاً، والثاني: شكر النعمة والمنعم وكفرانها، والثالث: جلب المنفعة البالغة، والرابع: الاقتضاء الذاتي.
[9] حيث جعلها المصنف عشرة معاني لذلك، وتفصيله يطلب من الكتاب (حرمة الكذب ومستثنياته: ص٧٥ ـ ٨٥).
[10] مطارح الأنظار: ج٢ ص٣٧٢.
[11] هداية المسترشدين: ج٣ ص٥٠٢ ـ ٥٠٣.
[12] الفصول: ص٣٤٠.
[13] سورة الحج: ٣٠.
[14] وسائل الشيعة: ج١٢ ص٢٥٠.
[15] مصباح الفقاهة: ج١ ص٣٩٠.
[16] الفقه المكاسب المحرمة: ج٢ ص٣٤.
[17] وسائل الشيعة: ج١٢ ص١١٩.
[18] بناءً على تفسير المشهور للإرشادية، وقد فصل سماحة السيد الكلام فيها وفي ضابطتها في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) فليراجع.
[19] تحف العقول عن آل الرسول: ص٨٦.
[20] غرر الحكم ودرر الكلم: ص٥٢٥.
[21] الكافي الشريف: ج٢ ص٦٦٥.
[22] تحف العقول عن آل الرسول: ص٤٩.
[23] الكافي: ج٢ ص٦٦٣.
[24] الامالي للشيخ الصدوق: ص٥٥١ـ٥٥٢.
[25] كتاب المكاسب: ج١ ص١٦.
[26] الفقه المكاسب المحرمة: ج٢ ص٣٧.
[27] كتاب المكاسب: ج٢ ص١٧.
[28] وهو إمانويل كانط.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3388
  • تاريخ إضافة الموضوع : 10 جمادى الأول 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29