بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على اعدائهم اجمعين ولاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم
كان البحث يدور حول النسبة بين ادلة الاجتهاد والتقليد من جهة وادلة الاحتياط من جهة آخرى وان من المحتملات ان تكون النسبة هي الورود او الحكومة وحققنا الحال في كبرى الحكومة والورود وفي مدى انطباق تلك الكبريين على المقام .
اما مبحث اليوم فنبدأ فيه ببيان خاتمة مختصرة في بحث الحكومة, فنقول: ان بعض الاعلام من الاصوليين اشاروا الى ان الورود والحكومة مرجعهما الى التخصص و التخصيص فليست الحكومة والورود الا مزيد اصطلاح , توضيح ذلك: ان الورود يعود الى التخصص لأن الدليل الوارد يزيل موضوع الدليل المورود عليه حقيقة وان كان بعناية التعبد اذن هو نوع من التخصص لأنه خروج موضوعي واما الحكومة فمرجعها الى التخصيص اما في عقد الوضع او عقد الحمل .
والظاهر ان هذا الكلام غير تام وسوف نركز على الحكومة وفرقها عن التخصيص لبيان عدم تمامية كلامه, فنقول:
اولا: ان الحكومة انواع اربعة منها قسمان يضيقان والقسمان الآخران يوسعان فلا يصح اطلاق القول بأن الحكومة مرجعها الى التخصيص , اذ قد تفيد التعمييم وتقدم تفصيله.
وثانيا بايجاز:لو كانت النسبة بين الدليلين هي العموم والخصوص من وجه فلو كان احد الدليلين ناظرا للاخر لكان حاكما عليه وان كانت النسبة هي العموم والخصوص من وجه مثل ادلة لا ضرر و لا حرج بالنسبة للصوم فبعض الصوم حرجي وبعضه ليس بحرجي وبعض الحرج ليس بصوم وبعضه صوم رغم ذلك فان ادلة لا ضرر مقدمة لكونها حاكمة و شارحة و ناظرة , اما في الخاص والعام فالمعادلة ليست من هذا القبيل بل يجب ان يكون الخاص اخص مطلقا من العام ليتقدم عليه اما في الخاص من وجه فمن هذه الجهة لا تستطيع ان تقول انه مقدم على العام .
وثالثا:ذكره بعض الاعلام وهو الفرق الوحيد الذي ذكره وهو ان الحكومة لا تدع مجالا للتخصيص وكذلك للورود اي لو اجتمعت الحكومة والتخصيص في مورد فالحكومة لأنها سابقة رتبة على التخصيص فهي لا تدع مجالا له لأننا قلنا سابقا ان الورود يفيد انتفاء الموضوع حقيقة وان كان بعناية التعبد اما الحكومة فتفيد انتفاء الموضوع تعبدا فأذا انتفى الموضوع تعبدا فلا مجال للتخصيص (اذ معنى التخصيص ان الموضوع موجود فتخرج بعض افراده منه بالتخصيص ولكن الحكومة نفت الموضوع تعبدا فلا موضوع للتخصيص)هذا هو الفرق الثالث وفيه تأمل يأتي في محله لكن اجمالا نقول انه لم تلاحظ النسبة بين الطرفين في موضع واحد بل حصل خلط في كلامه فالحكومة في مورد (هو عقد الوضع) والتخصيص في مورد اخر (هو عقد الحمل) وكان ينبغي ملاحظة كليهما في عقد الحمل .
الفرق الرابع: يتجلى في بحث انقلاب النسبة فلو كان هناك ادلة ثلاث (النسبة بين بعضها والبعض الاخر مثلا العموم من وجه وبين بعضها والبعض لاخر العموم والخصوص المطلق) فما هو الحكم؟ فعلى رأي يجب ان نلاحظ الادلة الثلاث في عرض واحد وعلى رأي اخر نعالج احدى الروايتن مع الاخرى والمحصل النهائي منهما يلاحظ وينسب للرواية او الدليل الثالث , والنتيجة تختلف كثيرا على المسلكين كما هو موضح في محله وهذا مبحث دقيق وكثير الفائدة و النفع في الكثير من ابواب الفقه.
والفرق بين الحكومة والتخصيص ينفع ايضا ههنا و توضيحه بايجاز انه لوكان هناك دليل عام ودليل خاص ودليل اخر حاكم ولنفرض ان كليهما اخص مطلقا فاذا لاحظنا هذا الدليل العام والدليل الحاكم الاخص مطلقا والدليل الثالث الاخص مطلقا غير الحاكم فماذا نصنع؟هنا نتجاوز ذلك البحث السابق ونذهب الى انقلاب النسبة لأن الدليل الحاكم يفسر الدليل المحكوم لأن لسانه لسان الشارح فهو والدليل المشروح كدليل واحد فنلاحظهما اولا معا ثم ننسب المحصلة النهائية الى الدليل الخاص الاخر غير الحاكم لنصل للنتيجة ولعل النسبة بينهما (اي العام المحكوم و الخاص الثالث) تنقلب الى العموم و الخصوص من وجه , فهذه فروق ابعة بين الحكومة والتخصيص فلا يقال ان الحكومة والورود مجرد اصطلاح , والى هنا انتهى جواب عن اشكال ان ادلة الاجتهاد والتقليد حاكمة او واردة على ادلة الاحتياط .
الاشكال الاخر وقد تقدمت الاشارة اليه هو : ان الاحتياط وضع (لتحصيل الحجة على الاطاعة والامتثال) وهذه كبرى , ومع وجود الدليل الاجتهادي فالحجة موجودة على الاطاعة والامتثال فلا يبقى مجال للاحتياط,وهذا بيان اخر للورود
والجواب : نقول ان الاحتياط وضع (لتحصيل الواقع) وليس لتحصيل الحجة على الاطاعة والفرق كبير فأنه بالوجدان عند قيام الدليل الاجتهادي يبقى موضوع الاحتياط موجودا لأنه رغم ان الحجة على الواقع قائمة بوجود الاجتهاد لكن الواقع غير محرز مائة بالمائة والاحتياط جعل لتحصيل الواقع قطعا اذن موضوعه موجود هذا اولا
ان قلت: هذه دعوى فمن اين ان الاحتياط جعل لتحصيل الواقع ؟
فنقول جوابا: اولا: ان لسان الادلة يدل على ذلك كقوله عليه السلام(اخوك دينك فاحتط لدينك) فان الدين امر واقعي ثبوتي لأن الاسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية ففي (فاحتط لدينك) متعلق (احتط) هو (الدين) –وهوالواقع-اي ان المطلوب هو الاحتياط للدين لا احتط للحجة على الامتثال بل ان هذا فيه مجاز في التقدير فبحسب كلامه يكون(احتط لتحصيل الحجة على امتثال الدين) وهذا مجاز , اذن ظاهر (اخوك دينك فاحتط لدينك )هو ان الدين امر واقعي فاحتط له اي امتثله واحرزه فمتعلق الاحتياط هو الاحراز للواقع ومع قيام الدليل الاجتهادي غير القطعي او مع التقليد غير المورث للقطع فهذا المتعلق (احراز الواقع) وجدانا موجود وغير معدوم
وثانيا: بالبرهان والوجدان ان الاجتهاد والتقليد والاحتياط قد اخذت بنحو الطريقية المحضة للواقع كما برهن عليه في محله وكما هو رأي المشهور في مقابل من رأى المصلحة السلوكية فيها واعتبرها واجبات نفسية , اذن وجوبها طريقي مقدمي للواقع ومع الاجتهاد لا احراز للواقع مائة بالمائة فيبقى موضوع الاحتياط كطريق موصل للواقع قطعا .
وثالثا: حتى على القول بان موضوع الاحتياط هو (تحصيل الحجة على الواقع)او (تحصيل الحجة على الاطاعة) فان مرجعهما الى (تحصيل الواقع) لا محالة , توضيح ذلك ان الاحتمالات ثلاث في موضوع الاحتياط اولا تحصيل الحجة على الاطاعة والامتثال كما ادعى القائل وثانيا تحصيل الواقع وقد تقدما وثالثا : تحصيل الحجة على الواقع فلو كان الموضوع هو تحصيل الحجة على الواقع او تحصيل الحجة على الاطاعة و امتثال الواقع فانه يستبطن (تحصيل الواقع) –الاحتمال الثاني- ويؤكد مداريته ومحوريته , فانه لو كانت حجتان احدهما اعلم والثاني غير اعلم فان (اخوك دينك فاحتط لدينك) على الاحتمال الثالث تعنى اي احتط بتحصيل الحجة الاقرب للواقع وهي الاعلم من غيرها فاذا كانت النتيجة كذلك فنستكشف من ذلك ان تمام الملاك هو الواقع فمع وجود الحجة على الواقع (ولتكن الاعلم) فانه يبقى ذلك الملاك غير قطعي الوصول اليه , فيبقى المجال للاحتياط واسعا . اذن تمام المدار والغاية والهدف والنتيجة هي الواقع , ولو جعلنا الموضوع هو (تحصيل الحجة على الاطاعة) لكان مستبطنا للاحتمال الثانى ايضا .
والحاصل ان القول بالاحتمالين الاخرين يرجع بالنتيجة الى الاحتمال الثاني (تحصيل الواقع) ما دامت الطريقية هي المبرهن عليها وسيأتي اتمام الكلام وتوضيحه ان شاء الله تعالى وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين .... |