• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 188- دلالة رواية تحف العقول على وجوب دفع المنكر والنهي عن المنكر المستقبلي - الاستدلال بالسيرة .

188- دلالة رواية تحف العقول على وجوب دفع المنكر والنهي عن المنكر المستقبلي - الاستدلال بالسيرة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(188)

 

احتمال مدخلية خصوص عنوان الموضوع في ثبوت الحكم

ثانياً([1]): وقد يورد على الاستدلال بقوله عليه السلام: ((فَكُلُّ أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ الْفَسَادُ مِمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ أَوْ كَسْبِهِ...))([2]) ان الحكم إذا صبّ على موضوع وعلّل بعلةٍ فانه يحتمل مدخلية خصوصية عنوان الموضوع في ثبوت الحكم له، ومعه لا يعلم كون العلّة المذكورة علّة تامة بل قد تكون مجرد حكمة، وفي المقام فان كلام الإمام عليه السلام عن البيع والشراء إذ قال: ((وَأَمَّا وُجُوهُ الْحَرَامِ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ الْفَسَادُ مِمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ))‏ فـ(كل أمرٍ) وإن كان عاماً لكن الموضوع هو البيع والشراء فيكون القدر المتيقن من كلام الإمام عليه السلام هو كل بيع وشراء يكون فيه الفساد فتكون ((فَكُلُّ أَمْرٍ)) راجعةً إليه أي كل أمر من البيع والشراء يكون فيه الفساد، فلا يصح تعميم الحكم، وهو الحرمة، إلى غيرهما كترك دفع المنكر فانه وإن كان فيه الفساد ولكنه موضوع آخر.

بعبارة أخرى: قرينة السياق تفيد ان المراد من ((فَكُلُّ أَمْرٍ)) هو كل أمر من أمور البيع والشراء.

 

الجواب: (كل أمر) أقوى من قرينة السياق، ويعضده الارتكاز

وقد يجاب: بان (أمر) ليس مفرداً محلى باللام كي تكون اللام للعهد الذكري، بل هو نكرة وقد دخل عليها (كل) فتفيد العموم، وليست قرينة السياق حجة خاصة مع خفاء تقييدها لـ(فَكُلُّ أَمْرٍ) الظاهر كونه قاعدة عامة.

سلّمنا، لكنه يقع التعارض بين ظهور ((فَكُلُّ أَمْرٍ...)) في العموم لكل أمر وبين ظهور السياق (على فرضه) في تخصيص الكبرى – القاعدة وهي ((فَكُلُّ أَمْرٍ...)) والترجيح لظهور (كل أمرٍ) في العموم، وذلك لأنها كبرى ارتكازية عقلية وعقلائية لبداهة ان العقل يحكم بان كل أمر يكون فيه الفساد (والمراد الفساد البالغ او الملزم لا مطلقه فانه لا ينتج إلا الكراهة عقلاً) فهو ممنوع محرم (حكماً أو إرشاداً).

سلّمنا إجمال ((فَكُلُّ أَمْرٍ...)) لكون ما سبقه من محتمل القرينية المتصل – فرضاً – لكن الفقرة اللاحقة لا شك في عمومها للمقام وغيره، وهي قوله عليه السلام: ((أَوْ شَيْ‏ءٍ يَكُونُ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ)) ((فَجَمِيعُ تَقَلُّبِهِ فِي ذَلِكَ حَرَامٌ)) وقد سبق: (وعلى أي فانه لا شك في ظهور الجملة الأخرى في عموم العِلّة للمقام، وهي: (أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد) فانه لا شك في كون ترك دفع المنكر وجهاً من وجوه الفساد وكذا ترك النهي عن المنكر، ولا يتوهم ان القدر المتيقن هو رفع المنكر والنهي عن الحالي منه، فلا يعلم الشمول لدفعه وللنهي عن الاستقبالي؛ فانه لا مجال له مع ظهور (أو وجه من وجوه الفساد) بل مع كونه نصاً ولا مجال لدعوى القدر المتيقن مع وجود اللفظ الظاهر الدلالة بل النص عرفاً)([3]) ونضيف: ومن الواضح انه لا يحتمل في (شَيْءٍ) ان يراد به البيع والشراء خاصة إذ لا يعهد التعبير عنهما بـ(كل شيء) إضافة إلى لزوم لغوية هذا الشق فانه قد سبقه حكم البيع والشراء بقوله عليه السلام: وَأَمَّا وُجُوهُ الْحَرَامِ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ الْفَسَادُ مِمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ أَوْ كَسْبِهِ...)) فقوله: ((أَوْ شَيْ‏ءٍ يَكُونُ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ نَظِيرِ الْبَيْعِ بِالرِّبَا... فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ وَمُحَرَّمٌ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلُبْسِهِ وَمِلْكِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَالتَّقَلُّبِ فِيهِ فَجَمِيعُ تَقَلُّبِهِ فِي ذَلِكَ حَرَامٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْعٍ مَلْهُوٍّ بِهِ...)) فيكون تكراراً بل لغواً لأن ظاهر (أو) انه شق آخر وليس نفس الشق مكرراً ولا شقاً آخر إلا بالتعميم لغير البيع والشراء أو لغير تمحضه في الفساد. فتأمل.

 

الاستدلال بـ((أَوْ بَابٌ يُوهَنُ بِهِ الْحَقُّ))

ولئن شكك في ذلك كله فانه لا شك في الفقرة اللاحقة ((أَوْ بَابٌ يُوهَنُ بِهِ الْحَقُّ فَهُوَ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَإِمْسَاكُهُ وَمِلْكُهُ وَهِبَتُهُ وَعَارِيَّتُهُ وَجَمِيعُ التَّقَلُّبِ فِيهِ إِلَّا فِي حَالٍ تَدْعُو الضَّرُورَةُ فِيهِ إِلَى ذَلِكَ)) لبداهة ان ترك دفع المنكر مما يوهن به الحق بل هو من أبرز مصاديقه، وكذا ترك النهي عن المنكر المستقبلي.

 

الدليل الثامن: السيرة

وقد يستدل على وجوب دفع المنكر والنهي عن المنكر المستقبلي بالسيرة.

وههنا مطالب: الأول: ان السيرة مغايرة لبناء العقلاء.

الثاني: انه قد يعترض على الاستدلال بالسيرة انها لا جهة لها ولا لسان إذ ان ما تثبته الجواز لا الوجوب، بل لو ترقينا فان غاية ما تثبته الرجحان، والمدّعى وجوب دفع المنكر.

وسياتي البحث عن هذين الأمرين.

 

الاحتمالات الأربع في وجه حجية السيرة العقلائية

الثالث: ان الأقوال اختلفت في حجية السيرة إلى ثلاثة ونضيف لها رابعاً هو المختار:

الأول: ان السيرة بحاجة إلى إمضاء أي انها لا تكون حجة إلا بعد إمضاء الشارع.

الثاني: انها بحاجة إلى عدم الردع، ولا حاجة للإمضاء المباشر، بمعنى كون عدم الردع كاشفاً عنها.

الثالث: انها يُكتفى فيها بعدم إحراز الردع.

والفرق بين الثاني والثالث: ان الثاني ثبوتي والثالث إثباتي، بعبارة أخرى: ان الثالث عدم إحراز الردع والثاني إحراز عدم الردع فانه إذا كان شرط حجية السيرة (عدم الردع) أي عدم الردع الواقعي والثبوتي فلا بد من (إحرازه) فيكون مرجع القول بشرطية عدم الردع إلى شرطية إحرازه لأنه الطريق إليه.

 

المختار: عدم حاجتها للإمضاء ولا إلى إحراز عدم الردع([4])

الرابع: ان سيرة العقلاء بما هم عقلاء مستغنية عن الثلاثة السابقة، بل هي حجة بذاتها، وقد فصّلنا الكلام عن ذلك سابقاً بإسهاب، وإيجاز المدعى ان سيرة العقلاء بما هم عقلاء لا يعقل ان يكون منشأها إلا العقل([5]) وإلا لما كانت سيرة العقلاء بما هم عقلاء بل كانت سيرتهم بما هم شهوانيون أو عاطفيون أو ذووا عادة خاصة أو سليقة معينة، مما لا يعقل ان يتحول إلى سيرة عامة لكل العقلاء – كما فصّلناه سابقاً – فإذا كان منشأها العقل فان العقل حجة ذاتية فلا تتوقف حجيته على تأييد النقل والشرع الظاهر؛ إذ هو حجة من باطن كما ان النقل حجة من ظاهر، كما في رواية الإمام الكاظم عليه السلام ((إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ b وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ...))([6])، بل ان النقل يعتمد في حجيته على العقل فكيف تتوقف حجية العقل([7]) عليه؟ ألا ترى ان حجية كلام النبي صلى الله عليه واله وسلم موقوفة على إعجازه وان دلالة إعجازه على نبوته موقوفة على حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب ثم بقبح كذب النبي في إبلاغه أحكام الله تعالى وقبح ان يرسل الله تعالى كاذباً في بعض ما ينسبه إليه؟.

والحاصل: ان العقل حجة ذاتية وليست حجيته عرضية ولا حالة انتظارية لتتوقف على الإمضاء أو أخويه، وقد مثّلنا للتوضيح بحجية كلام الإمام الباقر عليه السلام فانها لا تتوقف على إمضاء الإمام الصادق عليه السلام أو عدم ردعه، وكذا العكس، وإن كان له الردع لأن (الأحدث) هو الحجة ولغير ذلك مما فصّلناه، فراجع ما سبق لتجد دفعنا لمختلف الإشكالات عليه.

 

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال الإمام الباقر عليه السلام: ((إِنَّ اللَّهَ قَضَى قَضَاءً حَتْماً أَلَّا يُنْعِمَ عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةٍ فَيَسْلُبَهَا إِيَّاهُ حَتَّى يُحْدِثَ الْعَبْدُ ذَنْباً يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ النَّقِمَةَ)) (الكافي: ج2 ص273).

 

 

-------------------------------------------------------

([1]) مضى (أولاً) في آخر الدرس (186).

([2]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1404هـ، ص332.

([3]) الدرس (187).

([4]) ولا إلى عدم إحراز الردع.

([5]) أو الفطرة.

([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص15.

([7]) أي فيما حكم به.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3466
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 27 جمادى الآخرة 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29