• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 342- فائدة فقهية حكم العقل بقبح مطلق الكذب .

342- فائدة فقهية حكم العقل بقبح مطلق الكذب

حكم العقل بحرمة مطلق الكذب أو قبحه[1].
اعداد: الشيخ محمد علي الفدائي

إشكال بعض الأعلام على حرمة مطلق الكذب عقلاً
قد استدل بالعقل على حرمة الكذب بقول مطلق، وقد أورد عدد من الأعلام إشكالاً على ذلك عبر القدح بكلية الكبرى ـ أي في كبرى الملازمة بين حكم العقل والشرع، فإنه مع التسليم بالصغرى وبأن العقل يرى حرمة الكذب أو قبحه إلا أنه لا يعلم إن الشارع يحكم على وفقه ـ، وبعضهم كـ الميرزا الإيرواني والسيد الخوئي والشيخ التبريزي (رحمه الله) قد أشكلوا في صغرى الاستدلال ـ أي في حكم العقل بقبح مطلق الكذب ـ فإنّ الإشكال تارة من جهة عدم صحة الاستدلال بالعقل على حرمة الكذب كصغرى، وتارة أخرى من جهة أصل الكبرى، والكلام في المقام مع المستشكلين في صغرى المسألة.

إشكال المحقق الإيرواني ومن تبعه (رحمهم الله):
أشكل المحقق الايرواني (رحمه الله) في حاشيته على المكاسب على كلام الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بقوله: (ضرورة العقول مختصة بما ترتب على الكذب مفسدة)[2].
وظاهر كلامه: ضرورة العقول في حرمة الكذب مختصة بالكذب المقدمي، وهو فيما لو أفضى الكذب إلى مفسدة، دون غيره.
وهنا لابد من: تقييد المفسدة بخصوص المفسدة البالغة؛ إذ لا يحكم العقل بحرمة ما عداها ذاتاً، فحينئذ لو ترتبت المفسدة البالغة على الكذب فهو حرام، ولكنه لو خلا من أية مفسدة فإن العقل لا يحكم بحرمته، كما هو الحال في المزاح البريء وغيره مما لا مفسدة فيه أصلاً.
ثم يقول: (وبهذا العنوان يحرم كل شيء حتى الصدق لا خصوص الكذب)[3].
وحاصل كلامه (رحمه الله): إن الكذب والصدق متساويان، ولا فرق بينهما، فإن تَرتَّبَ عليهما فساد فالحرمة ثابتة وإلا فلا، ثم بعد ذلك يتنزل في كلامه فيقول: (ولو سلم فالعقل لا يرى الكذب إلا خلقاً ردياً لا محرماً)[4]ـ انتهى.
وفيه: إن هذا المدعى ـ إن كان مقصوداً له ـ مخالفٌ للوجدان والضرورة؛ فإن الصدق والكذب ـ بما هما عنوانان ـ مختلفان حسناً وقبحاً، وجداناً، وبصريح حكم العقل، كما هو الحال في الخيانة والأمانة، فإنّ الأمانة حسنة والخيانة قبيحة بما هما هما، والحاصل: إن طبع الكذب وذاته القبح، وليس قبحه لأمر منفصل عنه ـ وهو المفسدة ـ وقد قارنه أحياناً، فتدبر.
ثم إنه قد جرى السيد الخوئي (رحمه الله) على نفس مساق كلام المحقق الايرواني (رحمه الله) فقال: (وأما العقل؛ فإنه لا يحكم بحرمة الكذب بعنوانه الأولي مع قطع النظر عن ترتب المفسدة والمضرة عليه، وكيف يحكم العقل بقبح الإخبار بالأخبار الكاذبة التي لا يترتب عليها مفسدة دنيوية و أخروية)[5]ـ انتهى.
وقال الشيخ التبريزي (رحمه الله): (وأما العقل فلا استقلال له بقبح مطلق الكذب حتى مع عدم ترتب فساد عليه من تلف عرض أو مال أو غيره من المفاسد ليكون حكمه به كاشفاً بقاعدة الملازمة عن حرمته، نعم حرمته مطلقاً مستفادة من الكتاب العزيز والأخبار)[6]ـ انتهى.

مناقشات مع الأعلام الثلاثـة
و يمكن مناقشة ما ذكره الأعلام الثلاثة كبرى وصغرى، تارة: من حيث دعواهم عدم الحرمة، وتارة: من حيث دعواهم عدم ملازمة المفسدة للكذب بل يمكن الانفكاك بينهما، وثالثة: من حيث دعوى بعضهم عدم قبح الكذب العاري عن المفسدة، فههنا مناقشات ثلاثة:
أ ـ بناءً على أن مدار البحث هو حكم العقل بالحرمة:

المناقشة الأولى: عدم انحصار الحرمة بخصوص (ما لزمت منه المفسدة)
وهو إشكال كبروي، وحاصله: إن قبح الكذب وحرمته غير مرتهنين بترتب المفسدة؛ إذ إن الكذب حرام وقبيح مطلقاً حتى لو لم تكن هناك مفسدة في البين.
وبعبارة أخرى: إن الحرمة والوجوب ليستا منحصرتين بوجود المصلحة والمفسدة في متعلقهما، بل هناك أسباب أخرى تستدعي الحرمة أو الوجوب وتقتضيهما.
ومما يدل على ذلك: مبنى المتكلمين كافة من قبح الكذب على الله تعالى في وعده بالجنة ووعيده لنا بالنار، وإن لم تترتب على هذا الكذب مفسدة فرضاً. فلو رُفع اليد عن هذا الحكم العقلي للزم المحذور، وذلك: جواز نسبة الكذب إلى الله تعالى في وعده ووعيده، فتدبر.

صغرى المقام:
وفي المقام: الصدق له اقتضاء ذاتي للوجوب بغض النظر عن أي أمر آخر، وكذلك الكذب فإن الكذب بما هو هو حرام عقلاً؛ إذ العقل حاكم بالحسن والقبح، والدليل على ذلك الوجدان، وملاحظة مختلف الفضائل والرذائل كالشجاعة والجبن والكرم والبخل، فعندما تعرض على الوجدان ويُقابَل بينها فإننا نجد أنه يرى بدواً حسن هذا وقبح ذاك، وما ذلك إلا للاقتضاء الذاتي، نعم ليس ذلك على نحو العلية التامة كما في العدل والظلم؛ ولذا أمكن الانفكاك في المقام، هذا صغرىً.

وأما من جهة الكبرى:
فإنه إذا ثبت حسن أمر عقلاً فقد ثبت وجوبه شرعاً لقاعدة الملازمة المعروفة بين الأمرين فإنها على المشهور كذلك، خلافاً للمنصور؛ إذ حققنا في بعض الأبحاث[7] بأن الملازمة إنما هي بين الحسنين أو القبحين كما هي بين الوجوبين أو الحرمتين، أي ان قاعدة الملازمة تقتضي حسن ما حسنه العقل شرعاً وقبح ما قبحه شرعاً، لا بين القبح والحرمة أو الحسن والوجوب هذا.
كما يمكن تقرير الصغرى على المنشأ الثاني لحكم العقل بالحرمة أيضاً وهو: إن الصدق هو في حد ذاته شكر للنعمة، والمراد بها نعمة معرفة الحقيقة ونعمة القدرة على قول الصدق فيها، عكس الكذب تماماً فإنه نوع كفران نعمة.
كما يمكن تقريرها على المنشأ الثالث بأن الصدق مقتضٍ لجلب المنفعة البالغة، عكس الكذب، وفي ذلك تأمل.

المناقشة الثانية: عدم انفكاك الكذب عن المفسدة مطلقاً
أما المناقشة الثانية مع كلام الأعلام الثلاثة فهي: عدم تمامية ذلك صغرىً، بل قد يقال: إنه لا وجود لمورد ينفك فيه الكذب عن المفسدة؛ وذلك أن المفسدة لازمة للكذب من وجوه عديدة، نعم قد ينفك عن المفسدة الأولية إلا أن هناك وجوهَ فسادٍ أخرى تترتب على الكذب، وهي بقوة من المكان ما يمكن معها الحكم بالحرمة.
و يمكن توضيح ذلك في ضمن بيان حال الكذب مزاحاً: فإن الكذب حتى لو كان مزاحاً أو غيره، وقد أقيمت عليه قرينة، ولم تتصور فيه مفسدة في لازمه العرفي الظاهر، إلا أن هناك لوازم من المفاسد مترتبة على الكذب مطلقاً غير سنخ المفسدة الأولى.
منها: إن هذا الكذب المزاحي علة مُعِدَّة للجرأة على الكذب المُسلَّم حرمتُه.
فيفقد الكاذب مزاحاً مناعته اتجاه المحرم من الكذب؛ إذ تزول فداحته وقبحه من نفسه؛ لاعتياده الكذب ولو مزاحاً.
ومنها: إن الكذب وإن كان مع علم الطرف الآخر، مما قد يقال فيه بأنه ترتفع المفسدة بالعلم، إلا أنه سيجرّئ الآخرين على الكذب.
فالكذب تلزمه مفسدة أخرى، وإن لم تترتب عليه المفسدة الأولى المعهودة المبحوث عنها.
فإن السرقة محرمة دون شك، ولكن لو كان المسروق منه ممن ينتفع بالسرقة فرضاً، فلا تجوز السرقة لِصِرف أن المفسدة المعهودة ـ وهي تضرر المسروق منه ـ قد ارتفعت؛ فإن ارتفاع هذه المفسدة ليس بمانع من ثبوت مفسدة أخرى مترتبة طولياً.
وذلك مما لا ننفرد بقوله، بل ظاهر الشيخ الأنصاري (رحمه الله) البناء عليه أيضاً في مبحث الكذب حيث قال: (ولذلك كلِّه أطلق جماعة كالفاضلين والشهيد الثاني في ظاهر كلماتهم كونه من الكبائر، من غير فرق بين أن يترتّب على الخبر الكاذب مفسدة أو لا يترتب عليه شيء أصلاً، ويؤيّده ما روي عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلم) في وصيته لأبي ذر (رضوان الله عليه): "ويلٌ للذي يحدّث فيكذب، ليُضحِكَ القوم، ويلٌ له، ويلٌ له، ويلٌ له"[8]، فإنّ الأكاذيب المضحكة لا يترتّب عليها غالباً إيقاع في المفسدة)[9].
ووجهه: إن الشارع حرّمها لا من جهة المفسدة اللازمة لطبيعي الكذب، بل من جهة مفاسد أخرى كمفسدة التسبيب لاقتحام سائر أنواع الكذب المحرم.
والحاصل: إن الكذب مزاحاً كنظائره منشأ للمفسدة بالواسطة وإن لم يكن بالمباشرة، فتأمل.
ويمكن الاستناد إلى رواية مؤيدة للمدعى فعن الرسول (صلى الله عليه وآله):(وَاجْتَنِبُوا الْكَذِبَ وَإِنْ رَأَيْتُمْ فِيهِ النَّجَاةَ فَإِنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ)[10]، فإنه قد يكون وجه كلام النبي (صلى الله عليه وآله) ما سبق من الجهتين المذكورتين ونظائرهما؛ وذلك أن النجاة لا تجتمع مع الهلكة، فالمراد بالهلكة التي تترتب: هي الهلكة التي تترتب بالواسطة، وإن كان ما يترتب على الكذب هو النجاة بالمباشرة، ولم تكن مفسدة وهلكة في الكذب نفسه.
ولكن قد يقال: بأن الظاهر أن الرواية في مقام التشديد والحث على الاحتياط وعدم الاقتحام في الكذب بمجرد تصور النجاة فيه، بل لا بد من التثبت؛ لوضوح أن الكذب ـ كغيره ـ من المحرمات محكوم بقواعد باب التزاحم، فتأمل.
والمتحصل: إنه قد يناقش الأعلام الثلاثة بدوام ترتب المفسدة على الكذب إما بالمباشرة أو بالواسطة.
وقد يجاب المناقشة بـما حاصله: أن الكذب حتى مع فرض مفاسد أخرى، إنما يحرم لكونه مقدمة موصلة، فليس كل كذب موصلاً إلا بنحو الاقتضاء، فالمفسدة لا تترتب على الكذب بنحو الموجبة الكلية، وإنما تترتب فيما لو كان الكذب المزاحي مثلاً موصلاً للكذب ذي المفسدة.
بعبارة أخرى: لا دليل على حرمة ما يجرِّئ على الحرام مالم يكن مقدمة موصلة.
ب ـ بناءً على أن مدار البحث هو الحكم بالحسن والقبح:

المناقشة الثالثة: الكذب قبيح حسب معاني القبح الاتية
وأما بناء على أن مدار البحث هو الحسن والقبح فنقول:
إن ملاحظة المعاني المذكورة لكل من الحسن والقبح؛ وتطبيقها على الكذب، مما يوصلنا إلى أن الكذب قبيح حسب المعاني المتعددة.
فإن القول: بـ(كلما لم تكن هناك مفسدة فلا قبح للكذب) مناقش فيه، وذلك بتطبيق المعاني المذكورة للقبح[11] على الكذب، فنجدها منطبقة عليه وإن لم تكن ذات مفسدة، وتفصيله كالآتي:

المعنى الأول: المنافرة والملاءمة للنفس، وأيضاً العقل والروح والجسد، حيث إن طبيعِيَّ الكذب بما هو هو منافر للروح وللعقل، وأيضاً للنفس الزكية والروح الطيبة، فإن النفس على قسمين أشار إليها تعالى بقوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[12] فهما: نفس شريرة وهي التي تألف الكذب والخيانة والرذائل والفجور، ونفس زكية تقية وهذه بما هي هي ينافرها الكذب وينسجم معها الصدق وبقية الفضائل وتنسجم معه.
ولو فسرنا القبح والحسن بمعنى الملاءمة والمنافرة لم يصحّ عندئذ القول: بأنه لا قبح للكذب إلا مع المفسدة، إذ النفس الزكية تنفر من الكذب بما هو هو، حتى مع قطع النظر عن لحاظ المفسدة، وبضميمة قاعدة الملازمة يتم المطلوب، إلا أن يناقش بأن الملازمة بين القبح ببعض معانيه لا بما يشمل هذا المعنى، وهو الحق المنصور وإن خالف إطلاق كلماتهم، فتأمل وتدبر.
ومع أن البحث عقلي إلا أنه يمكن تأييده بروايات عديدة تنبيهاً له؛ منها: ما جاء عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) قوله: (لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه)[13]، فإنه يدل على وجود السنخية بين الكذب وبين مهانة نفس الكاذب ودناءتها، وأما النفس العزيزة فلباسها العزة والصدق فلا تقتحم الكذب.
ومن الواضح أن مدار البحث هو العنوان الأولي للكذب لا في صورة مزاحمة عنوان أهم، ولو تدخل المولى وجوز الكذب في بعض الصور كان ذلك كاشفاً عن وجود مزاحم أهم أو مانع عن تأثير الكذب في القبح فتأمل.
فمثلاً الكذب في الوعد، فإنه بلا شك منافر للنفس الزكية بما هي هي، وكذلك الكذب استهزاءً بالآخر وفي مقام السخرية به فإنه قبيح ومنافر للنفس التقية وملائم للنفس الشريرة الشقية.
إن قيل: الكذب مزاحاً، ليس من المعلوم منافرته للنفس الزكية.
فيقال: بل الظاهر إن الكذب مزاحاً من دون قرينة قبيحٌ منافر للنفس الزكية والروح، فقد يكذب الشخص مازحاً مزاحاً موهماً أن هذا الكلام صدق، فإن هذا منافر للذوق السليم والنفس الزكية، وكذا الحال في القصص المخترعة إذا كانت عبثية بقول مطلق لا فائدة فيها بالمرة، نعم لو كانت هادفة فهذه جهة مزاحمة لا بد أن يلاحظ الأهم منهما حسب اختلاف الوارد.
والمتحصل: إن طبيعة الكذب بما هي هي منافرة للنفس التقية إلا ما خرج بمزاحم أهم.
نعم يرد على ما ذكر: أن كون شيء رذيلةً أو كاشفاً عن دناءة النفس، أعم من الحرمة.

المعنى الثاني: مخالفة غرض المولى، حيث يمكن القول بـ: أنّ طبيعيَّ الكذب ـ لو جرّد من العناوين الثانوية ـ غيرُ موافق لغرض المولى، بل هو مخالف له.
وهذه دعوى يبتني إثباتها على معرفة غرض المولى، فالتحقيق: إن من أغراض المولى جل وعلا، الحائطة على الدين والتحفظ عن وقوع المكلف فيما لا ينبغي أن يقع فيه، والكذب مما يفوت هذا الغرض في الجملة، ويوقع المكلف فيما لا ينبغي أن يقع فيه.
كذلك يمكن الاستشهاد لذلك بما ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان علي بن     الحسين (عليهما السلام) يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جدّ وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير)[14].
فلو لوحظ غرض المولى ـ وهو الحيطة ـ فلا بد من ترك حتى الكذب الصغير والكذب مزاحاً ونظائرهما؛ فإن الإنسان لو تعود على الكذب مازحاً فقد يكذب جاداً أيضاً؛ لأن الطبيعة الإنسانية واحدة.

المعنى الثالث: النقص، فإن الكذب بما هو هو طبيعيُّه نقصٌ، والطبيعي يتمصدق بمصاديقه كلها، وفي قباله الصدق بما هو هو، فهو كمال.
ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) : (عليكم بالصدق وإياكم والكذب فإنه لا يصلح إلا لأهله)[15].
وظاهر الرواية: إن أهل الكذب هم المتسافلون من أهل النقص، وفي قبال ذلك أهل الصدق فإنهم أهل الكمال والعلو، ولا يخفى في المقام أن كلمة (لا يصلح) كما هي مناسبة للتعبير عن هذا المعنى وهو النقص، كذلك هي مناسبة للمعنى الآخر وهو الاقتضاء الذاتي للقبح؛ إذ قد يستظهر منها الصلاحية والذاتية.

المعنى الرابع: ما ينبغي تركه، فإن الكذب بذاته مما ينبغي تركه، وفيه الاقتضاء الذاتي للترك، ومما يرشد إلى ذلك الرواية السابقة، وكذلك ما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : (عليك بالصدق فانه مبارك والكذب شؤم)[16]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يصلح من الكذب جدّ ولا هزل)[17]، وعنه أيضاً: (لا سوأة أسوء من الكذب)[18]، وظاهرها كلها هو الاقتضاء الذاتي، كما أنها تدل على النقص أيضاً.

المعنى الخامس: تباني العقلاء، فلا شك في أن العقلاء بنوا على قبح أقسام من الكذب، بل يمكن دعوى تبانيهم على قبح جميع أقسامه كالكذب سخرية أو الكذب مزاحاً مع عدم القرينة، فإنهم يرون ذلك قبيحاً.
ومنها: الكذب مع الأهل؛ فان العقلاء يجدونه قبيحاً، إلا لمصلحة راجحة وهو خارج عن مفروض البحث، أو لأنهم من المتدينين وقد سمعوا الروايات على أن المولى قد أجاز ذلك بناءً على تماميتها سنداً ودلالة إلا أنّ هذا كلام آخر، والكلام في أنه لو خلي الكذب وطبعه وبدون مكتنفات فإن بناء العقلاء على قبحه، وعلى أي فإن تجويز المولى كاشف عن مصلحة أقوى مزاحمة أو ما أشبه.
ومنها: خلف الوعد، فإنهم يقبحونه أشد تقبيح، ومن أظهر مصاديقه هو: قبح خلف وعد الله تعالى، وهو من الأدلة التي يستدل بها المتكلمون على قبح خلف الوعد بقول مطلق؛ إذ لو لم نقل بذلك للزم أن يسقط الدليل الأهم لإثبات النبوّات عند المتشرعة، وللزم أيضاً عدم الوثوق بوعد الله تبارك وتعالى ووعيده؛ حيث لو لم يكن خلف الوعد قبيحاً لجاز لله تعالى أن يخلف وعده بإدخال المؤمن الجنة والكافر النار، فتأمل؛ إذ قد يفرق بين خلف الوعد في الأمر الخطير وبين غيره، كما يفرق بين الكذب في الوعد وبين خلف الوعد.          
كذلك الحال في أقسام الكذب الأخرى، فإن الكذب حتى في القصص المخترعة قبيح لولا الجهة الراجحة كما سبق، فلاحظ.

المعنى السادس: تبانى العرف العام أو الخاص على حسن شيء أو قبحه، فإن العرف يقبحون الكذب ويكرهون الكاذب من حيث هو كاذب، إلا لو علموا أنه كان في حالة استثنائية من حرج أو ضيق أو غيره، ويدل عليه: إن الكاذب بنفسه وهو من العرف لا يحب أن يعرف بهذه الصفة إلا إذا كان متسافلاً ومتدنياً خلقياً بصورة كبيرة، فقد تتحول المعصية والرذيلة عند بعض الناس إلى عمل يتجمل ويتفاخر به أمام الآخرين، لكنه ليس إلا انحرافاً شديداً عن مسار الفطرة السليمة والطبيعة الأولية للإنسان، قال تعالى:﴿وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾[19].
والحاصل: إن كل إنسان بطبعه يكره أن يُعرف بالكذب إنْ كذب، وينفر من أن يشتهر بين الناس بهذه الصفة.
كما يكشف عن تباني العرف على قبح الكذب: فقدان اعتماد الناس على الكاذب، وذهاب سمعته وصيته ووزنه الاجتماعي والعرفي.

المعنى السابع: وهو أن القبيح هو ما قبحه الشرع، ويرشد لقبح الكذب وتؤكد ذلك مجموعة من الروايات الكثيرة، منها خبر الحارث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: (ولا ان يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يَفِيَ لَهُ)[20] وهذه صغرى (إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ) وهذه بمنزلة العلة للحكم (الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى يُقَالَ: (كَذَبَ وَفَجَرَ) وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَوْضِعَ إِبْرَةٍ صِدْقٌ فَيُسَمَّى عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً)[21] فإن الإمام (عليه السلام) صرح بالحكم، كما ذكر علته أيضاً وهي معممة مخصصة، والعلة في كلامه (عليه السلام) هي: (إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ).

المعنى الثامن: عدم تطابق العوالم، نظير الإلحاق في النسب أو ادعاء الشهادة العلمية كاذباً، وفي المقام فإن الكذب قبيح؛ لعدم التطابق ما بين عالم الوجود اللفظي وعالم الوجود العيني الواقعي.

وحاصل الكلام في صغرى المقام:
بعد اتضاح الوجوه الثمانية للقبح وتطبيقها على الكذب، يظهر وجه المناقشة في كلام الأعلام الثلاثة؛ الشيخ الإيرواني والسيد الخوئي والشيخ التبريزي (قدس سرهم)، حيث لا يصح نفي القبح مع انتفاء المفسدة؛ لوجود ثماني جهات أخرى للتحسين والتقبيح العقليين، فوجه القبح لا ينحصر بالمفسدة، كي ينتفي بانتفائها، بل إن بعض هذه المناشئ هي أسبق رتبة من المصلحة والمفسدة كما هو الحال في الكمال والنقص والانبغاء والاقتضاء الذاتي.

كلام السيد الشيرازي (رحمه الله) في المقام
قال السيد الوالد (رحمه الله) في الفقه: (وأما العقل فهو مستقل بقبحه ـ أي بقبح الكذب بقول مطلق ـ وإن لم يكن له أثر سوء لأنه انحراف عن الواقع ولذا لا يريد الكاذب أن يظهر ذلك وبالملازمة يتم المطلوب)[22] انتهى، فقد صرّح السيد الشيرازي (رحمه الله) في عبارته بصغرى البحث وهي قبح الكذب مطلقاً، وبكبرى الملازمة، هذا وقد يراد من قوله (رحمه الله) (لأنه انحراف عن الواقع) ما سبق  من وجه قبح الكذب باعتبار عدم تطابق العوالم.

كلام العلامة الحلي (رحمه الله):
وقال العلامة الحلي (رحمه الله) في مبادئ الوصول:
(الحكم بالحسن والقبح قد يكون ضرورياً كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، ونظرياً كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع)[23].
وقوله: (نظرياً)؛نظراً لحاجته إلى الاستدلال بمثل:إن الصدق بلحاظ ذاته حسن وإن عرض عليه استتباعه للمضرة، فإن الذاتي لا ينقلب عمّا هو عليه، نعم إن زادت المضرة رَجُحت، للتزاحم مع بقاء الحسن الذاتي لكنه يكون مقهوراً ومغلوباً بالمضرة العارضة، لا أنه يزول من جوهر الذات، فتدبر.
وكذلك الأمر في الكذب النافع، فإنه كذلك، أي أنّ قبحه ذاتي ولا ينقلب عما هو عليه.
ثم قال: (وسمعياً كحسن صوم شهر رمضان وقبح صوم العيد).
ومراده من قوله (سمعياً) إنّما هو بلحاظ عالم الإثبات، أما في عالم الثبوت فهما كالصدق والكذب ذَوَي حُسن وقبح ذاتيين، فتدبر.


الدليل الأول لما ذكره: ما أشار إليه بقوله: (لأنا نعلم بالضرورة حسن الصدق وقبح الكذب مع تساويهما في المنافع)[24].
وما ذكره العلامة يُشكِّل رداً مسبقاً على كلام المحقق الإيرواني (رحمه الله) من المساواة بين الصدق والكذب، فيما هو مبنى كلامه ظاهراً.
بيان ذلك: شهادة الوجدان على ما لو كان هناك خياران: الحصول على منافع معينة مع الصدق، وآخر الحصول على تلك المنافع مع الكذب، فإن العقل ـ كذلك النفس والطبع ـ يدعو إلى الصدق، كما ينفر كلها عن الكذب، مع تساوي المنافع فيهما، وما ذلك إلا للميل الفطري والعقلي إلى الصدق؛ نظراً لذاتيّةِ حسنهِ وضرورته.
فهذا هو البرهان الأول على أن الحُسن ذاتي لكل منهما بذاتي باب البرهان.

الدليل الثاني: (وللفرق بين الصادق والكاذب في مدعي النبوة).
و توضيح ذلك: أنه لو وجد صادق في دعوى النبوة كالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإنه صادق دون ريب، و وجد كاذب في دعواه كمسيلمة أو سجاح مثلاً، فبملاحظة شأن الباري عز وجل يعرف بالوجدان أن من الحَسَن أن يجري تعالى المعجزة على يد الصادق كبرهانٍ على اتصاله بالسماء، ومن القبيح أن يجريها على يد الكاذب، وما ذلك إلا لصدق هذا وكذب ذاك، فالصدق بحد ذاته حَسَن، والعلامة (رحمه الله) قد علل به وحصّن به منشأ كل الشرائع مِن تطرق احتمال البطلان والكذب إليهما، وهو في محله وذلك: أن الإعجاز هو برهان على صدق الأنبياء في نبوتهم، ويعلم وجداناً أنه من القبيح قطعاً على الباري أن يجري المعجزة على يد الكاذب، ومن الحسن قطعاً أن يجريها على يد الصادق، وما ذلك إلا لصدق هذا وكذب ذاك.
وعليه: فلا يعقل أن يكون الصدق غيرَ حَسَنٍ ذاتاً، وإن يكون الكذب غير قبيح ذاتاً.
ولا يرد: أنه لعله لاستلزامهما المصلحة والمفسدة، لوضوح أن حكم العقل وقضاء الوجدان بحسن إجراء المعجزة على يد الصادق، وقبح إجرائها على يد الكاذب حتى مع قطع النظر عن المصلحة والمفسدة.

الدليل الثالث: حيث قال: (وللوثوق بوعده تعالى ووعيده).
توضيح كلامه: إننا لو التزمنا بأن الكذب ليس قبيحاً بذاته، وإنما قبحه بالوجوه والاعتبارات وبلحاظ ترتب المفسدة، للزم أن لا نثق بوعد الله بالجنة وثوابها لو أطعناه، وبالنار وعقوبتها لو عصيناه، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله.
فهذا مجمل القول، والمـحصل في البحث الصغروي هو: أن الكذب بذاته قبيح لا بلحاظ الوجوه والاعتبارات فلا يرد ما ذكره الأعلام الثلاثة.
إضافة مهمة: أن بحث الحسن والقبح ومعانيهما عامٌ وسيالٌ لمسائل كثيرة من المكاسب المحرمة؛ فإنه بتتبع المسائل التي طرحها الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في المكاسب المحرمة، وبملاحظة بعض كلماته في بعضها، وملاحظة جريان ما ذكره فيها في غيرها مما لم يستدل عليه بحكم العقل بالقبح، تأكد: أن ما مضى تحقيقه من تعدد مناشئ الحسن والقبح وتعدادها هو بحث سيال عام الفائدة، ولذا ينبغي التركيز عليه، فإن الاستدلال الذي ذكرناه والإيرادات والنقاش يمكن أن تجري في موارد أخرى:

منها: بيع هياكل العبادة
ولم يستدل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) على حرمة بيعها بالعقل، ولكن يمكن أن يستدل بحكم العقل بقبح بيعها، كما استدل به في المسائل المشابهة، وذلك لوجود سائر مناشئ القبح كالنقص أو عدم الانبغاء وغير ذلك مما ذكرناه فيه، هذا فيما لو لم تترتب المفسدة، وإلا فالأمر واضح.

ومنها: الولاية من قبل الحاكم الجائر
ولم يستند فيها الشيخ إلى العقل كدليل على الحرمة، مع أن مقتضى القاعدة كان ذلك.

ومنها: حفظ كتب الضلال
وقد استدل (رحمه الله) على الحرمة بالعقل ولكن بوجه خاص استناداً إلى وجوب قطع مادة الفساد حيث قال: (ويدل عليه مضافاً إلى حكم العقل بوجوب قطع مادة الفساد...)[25].
والحاصل: إنه استدل على الحرمة بالقبح العقلي الأخص؛ إذ وجوب قطعها إنما هو لقبحها، وقد سبق ذكر مناشئ مختلفة لذلك القبح. وفيه تأمل بيّن.
ومنها: بيع الدراهم المغشوشة
ولم يستدل الشيخ (رحمه الله) عليها بالعقل، لكن مجال الاستدلال به واسع كالكذب، فإن العقل يحكم بقبح بيع الدراهم المغشوشة لما ذكره في النجش[26] وغيره.
كما أنّ مجال الاستدلال به واسع في مسألة تدليس الماشطة والتطفيف والغش، وغيرها.

ومنها: الغيبة
قال الشيخ (رحمه الله): (حرام بالأدلة الأربعة)[27]، ووجه حكم العقل بحرمتها قبحها، فتأمل.

ومنها: النجش
فإنه قد يستدل على حرمة النجش بالأدلة الأربعة التي منها العقل، قال الشيخ (رحمه الله): (ويدل على قبحه العقل لأنه غش وتلبيس واضرار)[28].
أقول: وجه قبح الغش والتلبيس إذا كان قسيماً للإضرار، هو المناشئ الأخرى التي ذكرناها كالنقص واللاانبغاء ولا تطابق العوالم، إلى آخر المناشئ.
وحاصل الإضافة: إن البحث الذي أشرنا إليه هو بحث سيال وجار في كافة المحرمات الشرعية المذكورة في كتاب المكاسب وغيرها، سواء أقبلنا كبرى الملازمة أم رفضناها.

والمحصل النهائي: هو عدم صحة ما أورده الأعلام الثلاثة على الاستدلال بالعقل لاثبات حرمة مطلق الكذب؛ من جهة إن العقل لا يحكم بقبح مطلق الكذب بل حكمه بالقبح في خصوص بعض افراده، وهو إشكال في الصغرى حيث مضى الجواب عن الإيراد المزبور.
أما لإتمام الاستدلال بالعقل على حرمة مطلق الكذب شرعاً، لابد من ضم قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وهو بحث في الكبرى وهي قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع، والبحث فيه هنا منافٍ للاختصار المبني عليه؛ فتفصيله موكول إلى محله، فليراجع ثمة [29].

       
------------
[1] اقتباس من كتاب "حرمة الكذب ومستثنياته" لسماحة السيد مرتضى الشيرازي: ص٦٥ - ٩٤.
[2]حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: ج١ ص٣٩.
[3]حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: ج١ ص٣٩.
[4]حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: ج١ ص٣٩.
[5]مصباح الفقاهة: ج١ ص٣٨٥.
[6]إرشاد الطالب في شرح المكاسب: ج١ ص٢٢٦.
[7]يراجع كتاب "قاعدة الملازمة بين حكمي الشرع والعقل" لسماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي.
[8]وسائل الشيعة: ج٨ ص٥٧٧ باب ١٤٠ من أبواب أحكام العشرة ذيل الحديث ٤.
[9]كتاب المكاسب: ج٢ ص١٣.
[10]مستدرك الوسائل: ج٩ ص٨٨.
[11]راجع (بحث كلامي اصولي: المعاني العشرة للحسن والقبح) "موقع مؤسسة التقى الثقافية".
[12]سورة الشمس: الآيات ٧ - ١٠.
[13]الاختصاص: ص٢٣٢.
[14]الكافي: ج٢ ص٣٣٨.
[15]الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص٣٣٩.
[16]مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ج٩ ص٨٨.
[17]الأمالي للشيخ الصدوق: ص٤١٩.
[18]تحف العقول: ص٩٣.
[19]سورة النمل: ٢٤.
[20]الأمالي للشيخ الصدوق: ص٤١٩.
[21]الأمالي للشيخ الصدوق: ص٤١٩.
[22]الفقه المكاسب المحرمة: ص٢٨.
[23]مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ص٩٢.
[24]مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ص٩٢.
[25]كتاب المكاسب: ج١ ص٢٣٣.
[26]كتاب المكاسب: ج٢ ص٦١.
[27]كتاب المكاسب: ج١ ص٣١٥.
[28]كتاب المكاسب: ج٢ ص٦١.
[29]يراجع ( فائدة أصولية كلامية: تحقيق في قاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع) "موقع التقى"

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3495
  • تاريخ إضافة الموضوع : 18 رجب 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29