• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 217- بقية مرجحات باب التزاحم .

217- بقية مرجحات باب التزاحم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(217)

 

سبق ان المحتملات أو الأقوال في ضابط القدرة الشرعية المقابلة للعقلية هي أربعة:

 

الأصل عدم مدخلية العلم والقدرة في الملاك

الأول: (ما كان للقدرة مدخل في ملاك الحكم) ومزيد توضيحه: ان القاعدة في العلم والقدرة عدم مدخليتهما في ملاكات الأحكام إذ الفعل في مثل الصلاة ذو مصلحة في حد نفسه أو هو ذو مفسدة في مثل سفك الدماء، سواء أعلم المكلف بذلك أو لا وسواء أقدر على الفعل والترك أم أُلجأ إليه، ولذا لو سقط بلا اختيار على شخص فكسر عنقه أو قتله تحققت المفسدة من كسر عنقه أو قتله وإن لم يكن قادراً على كفّ نفسه ولم يكن معاقباً تبعاً لذلك مادام غير مقصر في المقدمات، فهذا هو الأصل العام ولكن قد يستثنى منه بعض الصور مما كان للعلم أو القدرة مدخلية في الملاك لكنه نادر أو قليل وهو خلاف الأصل، ويحتاج للدليل، ومن ذلك مدخلية الاستطاعة في مصلحة الحج كما سبق ومدخلية العلم في المصلحة السلوكية. فتأمل.

 

الشرعية: ما منع وجوبُه وجوبَ أمر آخر

كما سبق: (الثالث: ان الشرعية: ما يكون المكلف بالفعل مشغول الذمة بواجب آخر والعقلية عكس ذلك)([1]) وبعبارة أخرى: كلما منع وجوب أحد الأمرين وجوب الآخر أو جوازه كان الآخر مشروطاً بالقدرة الشرعية، وذلك كالدَّين والحج فان وجوب أداء الدين يمنع تعلق وجوب الحج بذمة الإنسان، عكس وجوب أداء هذا الدين وأداء ذاك، أو وجوب أداء الخمس([2]) وأداء الدين فانه لا شيء منهما يدفع وجوب الآخر ولو عجز عن الجمع فالمرجع قاعدة العدل والإنصاف ولو لم نقل بها أو لم يمكن العمل بها فالتخيير.

ومن الأمثلة على تدافع الحكمين: وجوب التمكين فانه دافع لاستحباب الصيام ومانع عنه، فلا يكون الصوم المستحب مستحباً في حقها إذا حال دون التمكين بالمعروف، وكذلك من كان في ذمته صوم واجب فانه لا يصح منه الصوم المستحب.

 

الشرعية: ما تصرف الشارع فيها بالتوسعة أو التضييق

الرابع: ان القدرة الشرعية هي: كلما تصرف فيها الشارع بالتوسعة أو التضييق، فمثلاً مستثنيات الدين فانها لا تباع في الدَّين، فمن كان مديوناً وكان لا يملك إلا منزله التي يسكن فيها فانه لا يباع في دَينه وإن كان حالّاً وكان الدائن مطالباً بل حتى إن كان أحوج إليه من حاجة المدين لداره فمع انه قادر عرفاً على أداء دينه ببيع داره إلا انه غير قادر شرعاً فالقدرة الشرعية أخص من العرفية ههنا والعجز الشرعي أوسع من العجز العرفي.

بعبارة أشمل: القدرة اما عقلية أو عرفية أو شرعية، والمعهود ان تكون القدرة العرفية هي الشرط في تنجز الأحكام، ولكن قد يخرج عن ذلك إلى القدرة الشرعية أو العقلية، بدليل.

والاستطاعة للحج من مصاديق ما تصرف فيه الشارع، إذ اعتبر الاستطاعة على الحج مرتهنة بالزاد والراحلة، مع انه قد لا تكون حتى القدرة العرفية مرتهنة بهما وذلك كمن لا يشق عليه المشي، فقد ذهب المشهور إلى انه غير مستطيع وقال بعض بانه ان كان المشي غير شاق عليه فمستطيع بدعوى انصراف أدلة الزاد والراحلة إلى المتعارف ممن يشق عليه الحج بدونهما([3]) – وتحقيقه في محله.

 

ترجيح المتعلِّق بالعين على المتعلِّق بالذمة

المرجِّح العاشر: ترجيح المتعلِّق بالعين على المتعلِّق بالذمة، توضيحه: انه إذا تعلق أمران، كدينين مثلاً، بالذمة وتزاحما كان المرجع قاعدة العدل والإنصاف في الماليات وإلا فالأهم منهما لو أحرز أو احتملت أهميته وإلا فالتخيير، ولكن إذا تعلق أحدهما بالعين والآخر بالذمة كان المقدم ما تعلق بالعين وإن كان مرجوحاً وكان المتعلق بالذمة أهم، ولنمثل له بمثالين:

الأول: ما لو اشترى نسيئةً سيارةً مثلاً وبقي عينها لديه ثم أتلف مالاً  للغير فصار في ذمته أو استدان طعاماً وأكله فانتقل إلى ذمته، ثم أفلس ولم يستطع إلا تسديد أحدهما فان صاحب السيارة أولى بها لأنه قد تعلق حقه بعين المال، فيقدم على الدائن الآخر وإن كان أحوج وكان صاحب السيارة مستغنياً.

الثاني: ما لو وجب عليه الخمس ووجب عليه أداء دين بذمته، وتزاحما، فان الخمس مقدم إذا كان عين ما تعلق به الخمس موجوداً؛ نظراً لتعلق الخمس بالعين لقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)([4]) وظاهر مرجع ضمير (خُمُسَهُ) هو ان خُمس نفس العين هو للأصناف الستة أو هو متعلَّق حقهم.

وقد عمّم السيد العم ذلك إلى صور مختلفة فقال: (سادسها: تعلّق أحد الحقّين بالعين، فإنّه مقدّم على تعلّق الآخر بالذمة، سواء كان أي منهما (حقّ الله أم حقّ الناس) متقدّماً زماناً أم متأخراً، متقدّماً في تعلق الوجوب أم متأخراً، له بدل أم لا، مشروطاً بالقدرة العقلية أم الشرعية؟

وسواء كان تعلّق الحقّ بالعين من غير اختيار المكلّف، كما إذا تعلّق الخمس أو الزكاة بمال، أو اشترى أرضاً دَيناً، ثم استدان شيئاً آخر وصرفه، وصار مفلّساً والأرض باقية، فإنّ حقّ البائع متعلّق بالأرض، وغير ذلك. أم كان التعلّق بالعين اختياراً، كالنذر إذا نذر عيناً لله، أو لزيد.

وهذا التعميم وإن لم يرد في دليل خاصّ – إلا إنّ التسالم ظاهراً عليه، مع إلغاء خصوصية المورد الذي ورد فيه: إنّ صاحب العين أولى بعينه، لفهم عدمها...)([5])

ولكن الأمر في ديون الميت غير ذلك أي انه لو بقيت عنده عين سيارة الغير التي اشتراها نسيئة وكانت عليه، ديون أخرى بالذمة، ثم مات، ولم يكن عنده غير السيارة، فان حق كل الغرماء يتعلق بها نظراً لأنه بالموت تنعدم ذمة الميت وتنتقل ديونه إلى أعيان ماله فيشترك سائر الدُّيّان مع مالك السيارة في الحق فيها، إلا ان يناقش بان حقه سابق التعلق ومعه لا مجال لأن يتعلق بها حق آخر وفيه: ان ذلك للنص الخاص إذ (يستثنى من ذلك: الميت الذي تركته أقل من ديونه، فإنّه لا ترجيح لصاحب العين في تزاحم الديّان، وذلك للنص الخاص الصحيح والمعمول به، وهو: صحيح أبي ولّاد قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ رَجُلٍ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعاً إِلَى سَنَةٍ فَمَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مَالُهُ وَأَصَابَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ أَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إِذَا حُقِّقَ لَهُ؟ قَالَ فَقَالَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَتَرَكَ نَحْواً مِمَّا عَلَيْهِ فَلْيَأْخُذْ إِنْ حُقِّقَ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ نَحْواً مِنْ دَيْنِهِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ كَوَاحِدٍ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ يَأْخُذُ بِحِصَّتِهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَتَاعِ))([6]))([7])

 

ترجيح حق الله على حق الناس أو العكس

المرجِّح الحادي عشر: ترجيح حق الله على حق الناس أو العكس او التفصيل، على الآراء في المسألة وقد سبق بحثه مفصلاً وإجماله:

ان من قال بترجيح حق الله تعالى استند إلى أدلة منها انه ولي الأولياء، وانه منشأ الحقوق ومنه تتفرع، ولما ورد من ((فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ))([8]).

ومن قال بترجيح حق الناس استند إلى أدلة، منها: ان حق الناس هو مجمع حقي الله والناس، ولدعوى الشهرة والارتكاز بل والتسالم في بعض الصور، ولقاعدة الدوران، وانه من محتمل الأهمية لرواية المفضل بن صالح عن سعد بن طريف عن الإمام الباقر عليه السلام: ((الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ: ظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لَا يَدَعُهُ اللَّهُ:

فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ: فَالشِّرْكُ.

وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ: فَظُلْمُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.

وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَدَعُهُ: فَالْمُدَايَنَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ))([9])

(بتقريب: إنّه ظاهر في إنّ المداينة بين العباد أهمّ من ظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، لأنّ الثاني يغفر، والأوّل لا يدعه الله. وفيه أولاً: ....)([10])

والسبب في كونه محتمل الأهمية إرسال الرواية أو مجهوليتها على رأي، وعدم وضوح دلالتها لدى البعض، وهما كافيان لاحتمال الأهمية إلا لمن أحرز العدم، وقد مضى التفصيل فراجع.

ومن قال بالتفصيل فلعدم دليل عامٍّ تامٍّ على ترجيح هذا على ذاك أو العكس، فالمرجع في كل مورد أدلته الخاصة، وهو الأظهر كما سبق بيانه.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال الإمام الحسن عليه السلام: ((وَاللَّهِ لَا يُحِبُّنَا عَبْدٌ أَبَداً وَلَوْ كَانَ أَسِيراً فِي الدَّيْلَمِ إِلَّا نَفَعَهُ حُبُّنَا، وَإِنَّ حُبَّنَا لَيُسَاقِطُ الذُّنُوبَ مِنْ بَنِي آدَمَ كَمَا يُسَاقِطُ الرِّيحُ الْوَرَقَ مِنَ الشَّجَرِ‏))

(الاختصاص: ص82).

 

 

------------------------------------------------

([1]) الدرس (216).

([2]) إذا تعلق بالذمة؛ لإتلافه مثلاً العين المتعلق بها الخمس أو لتلفها.

([3]) العروة الوثقى ج4 ص363: (مسألة 1): لا خلاف ولا إشكال في عدم كفاية القدرة العقلية في وجوب الحج، بل يشترط فيه الاستطاعة الشرعية، وهي كما في جملة من الأخبار الزاد والراحلة، فمع عدمهما لا يجب وإن كان قادرا عليه عقلا بالاكتساب ونحوه، وهل يكون اشتراط وجود الراحلة مختصا بصورة الحاجة إليها لعدم قدرته على المشي، أو كونه مشقة عليه أو منافيا لشرفه، أو يشترط مطلقا ولو مع عدم الحاجة إليه، مقتضى إطلاق الأخبار والإجماعات المنقولة الثاني، وذهب جماعة من المتأخرين إلى الأول لجملة من الأخبار المصرحة بالوجوب إن أطاق المشي بعضا أو كلا، بدعوى أن مقتضى الجمع بينها وبين الأخبار الأولة حملها على صورة الحاجة، مع أنها منزلة على الغالب، بل انصرافها إليها، والأقوى هو القول الثاني، لإعراض المشهور عن هذه الأخبار مع كونها بمرأى منهم ومسمع...)

([4]) سورة الأنفال: آية 42.

([5]) السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول / التعادل والترجيح، دار الأنصار – قم، ج9 ص44.

([6]) الشيخ الطوسي، تهذيب ‏الأحكام، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص193.

([7]) السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول / التعادل والترجيح، دار الأنصار – قم، ج9 ص46.

([8]) ابن ابي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام – قم، 1405هـ، ج1 ص216.

([9]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص330.

([10]) السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول / التعادل والترجيح، دار الأنصار – قم، ج9 ص21.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3557
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاربعاء 8 شوال 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28