• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 350- الفوائد الاصولية: بجث الترتب (1) .

350- الفوائد الاصولية: بجث الترتب (1)

الفوائد الأصولية
(الترتب)


اعداد وجمع: الشيخ عطاء شاهين[1]
الفائدة الأولى : أن بحث الترتب من المباحث الأصولية المعمقة والدقيقة، وقد ذهب جمع إلى إمكانه فيما ذهب آخرون إلى استحالته ؛ بدعوى أن الأمر بالمهم - على القول بالترتب-  يلزم منه أمر المولى بالمستحيل وهو الجمع بين الضدين؛ وكان ينبغي الرجوع فيه أولاً إلى الأدلة والبراهين الشرعية ثم الخوض في الأدلة العقلية ؛ لأن الرجوع فيه أولاً إلى تدقيقات الفلاسفة والأصوليين ثم الرجوع للآيات أو الروايات قد تدفع المستدل لصرفها عن ظاهرها أو تأويلها أو طرحها- حتى وإن كانت نصوصاً-  لقطعه بما توصل إليه في بحثه الفلسفي؛ بالإضافة إلى أن كلام الفيلسوف والأصولي يحتمل اللامطابقة للواقع سنداً ومتناً من جهات عديدة ، وأما كلام المعصوم فلا يحتمل اللامطابقة إلا سنداً ؛ فلهذه الأسباب وغيرها كان الأولى  الرجوع إليه أولاً.

بحث تطبيقي:
من الأدلة على أن الأعلم في الأصول هو الأعلم في الفقه: أن علم الأصول علم آلي كالمنطق، وعلم الفقه علم استقلالي فالأصول ما يقصد به غيره والفقه ما يقصد بنفسه ؛لذا فإن معرفة الحكم الشرعي والأدلة عليه هو المقصود الأصلي فإن وجد[2] ما يدل عليه كان هو الموصل إلى معرفة القاعدة الأصولية[3]، ولأنه استناد إلى البرهان الأني والبرهان الأني قطعي الإنتاج؛  فإن ثبوت المعلول- بدليل من الشارع-  يكشف بالقطع عن ثبوت العلة لديه، وبه يندفع استبعاد المبنى أو عدم عرفيته لو كان كذلك فعلاً.
وأما احتمال الاستحالة في المبنى - بل صورةُ أيِّ برهان أقيم عليها-  فإنها مندفعة بعد ثبوت الحكم في المعلول بما تندفع به كافة شبهات الامتناع في مقابل البديهة.
لا يقال: حجية القطع ذاتية؟
إذ يقال: ينقض أولاً : بكل ما أجيب به الاستناد لردّ دعاوى الاستحالة، إلى انه شبهه مقابل البديهة[4].
ويجاب حلاً أولاً: بأن الاطلاع على كلام الإمام  (عليه السلام)    أولاً دافع للقطع مانع من تحققه، كما هو المشاهد كثيراً عكس ما لو بدأ بالبحوث العقلية الدقية في الأصول – وهو مورد الكلام – أو في الفلسفة كذلك فإنه سيقطع عادة بأحد الطرفين، ثم إذا وصل إلى الأدلة الشرعية وجدها ظواهر فاضطر لصرفها عن ظاهرها أو تأويلها أو طرحها- حتى لو كانت نصوصاً-  لقطعه بالاستحالة.

من جهات تميز الأدلة الشرعية على الأدلة العقلية
ومنه يظهر لزوم مراجعة الأدلة والبراهين الشرعية أولاً - في الكلام والفلسفة والأصول والمنطق وغيرها- إن وجدت ، ثم الخوض في الأدلة العقلية.
لا يقال: قسم منها مراسيل ، والمسانيد منها ظواهر على الأغلب.
إذ يقال نقضاً: بأن ما ينسب إلى أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وغيرهم هي مراسيل عادة، فِلم يُبتدَأ بمراجعتها ثم يُثنَّى – لو ثُنِّي والأغلب لا يُثنِّى! – بمراجعة أمثال الاحتجاج وتحف العقول ونهج البلاغة!
ويجاب نقضاً ثانياً : بأن كثير من كلماتهم  ظواهر أيضاً، بل حتى النصوص منها تعاني من أكبر الإشكال وهو احتمال – وهو احتمال قوي تدل عليه الدراسات التاريخية – قصور الترجمة أو خطأها أو تعمد خطأها، وهذا ما لا تعاني منه رواياتنا ؛ فإنها وردت باللغة العربية ولم تنلها يد الترجمة ليشك في سلامتها وعدمه. هذا.
إضافة إلى أن كلمات مدققي الأصوليين- كالفلاسفة- لا تعدو كونها حدساً اجتهادياً، عكس كلام المعصوم ؛ فإنه وإن احتمل إرساله إلا أنه على تقدير صحة صدوره[5] لا يعاني من سائر الإشكالات التي ترد على استظهار الفيلسوف أو الأصولي أو قطعه.

والحاصل: أن كلام الأصولي يحتمل اللامطابقة للواقع، سنداً ومتناً من جهات عديدة[6]، وأما كلام المعصوم[7] فلا يحتمل اللامطابقة إلا سنداً فكان الأولى الرجوع إليه أولاً، استرشاداً ثم تحكيم العقل في دوائر الاستحالة وعدمها[8]، لا الرجوع إلى تدقيقات الفلاسفة والأصوليين – أي العقلية منها – ثم الرجوع للآيات أو الروايات، فتدبر جيداً.
ثم إن من الواضح أن المعلِّم الأول هو الذي يصوغ فكر الإنسان ويبنيه عليه ، فإن كان هو الروايات كانت هي معلِّمه ومربّيه وإن كانت هو أقوال الفلاسفة وتدقيقات الأصوليين كان هي المعلم والصائغ، فأيهما أولى بالرجوع إليه أولاً مادام كل منهما يحتمل الخطأ، لكن احتمال الخطأ في الرواية إنما هو من جهة واحدة - أي السند فقط – اما احتماله في كلمات الأصوليين فهو من جهات عديدة.
والحاصل: أنها إن كانت لا حجة قبل الرجوع إليها فكلها تشترك في اللاحجية ، لكن تمتاز الروايات المحتملة باقربية إيصالها للواقع وحاجتها إلى سد باب عدم مطابقتها من جهة واحدة ،عكس غيرها إذ تحتاج إلى سد باب عدم المطابقة من جهات عديدة وإن كانت حجة إذ قطع بها، فكلها تشترك في ذلك أيضاً، فتدبر.

الجواب عن إشكال عدم قصور البرهان اللمي عن الأني
لا يقال: الاستناد في الأصول استناد إلى البرهان اللمي فلا يقصر عن البرهان الأني؟.
إذ يقال: الفرق بينهما في المقام هو أن البرهان اللمي – أي الوارد في المسألة الأصولية التي يتفرع عليها الحكم الفرعي الفقهي – يحتمل في إنتاجه الخطأ من جهتين:
الأولى: خفاء بعض المقدمات لدقّتها على المستدل، فيكون إنتاج ما مهده من المقدمات خاطئاً لذلك.
الثانية: أنه وإن كان تاماً لاحاطته بكافة المقدمات وكل ما له المدخلية إلا أن الخطأ قد يكون في تطبيق تلك الكبرى الكلية على المصداق الفقهي الجزئي.
وذلك عكس البرهان الأني؛ فإنه لو دل على وقوع المعلول أمرٌ، لدل على تحقق علتها قطعاً، ولا يعقل أحد الخطئين وإلا لما تحقق ذلك المعلول، فتأمل[9].
ولنستشهد على ما ذكرناه بشواهد حقيقية من الأصول والفقه؛ إذ بها يتضح ما ذكرناه أكثر؛ وكي لا يبقى البحث دائراً في فلك الكليات ، فنقول:

الشاهد الأول: الترتب
والترتب هو تعلق الحكم بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم أو على تقدير العزم عليه ، وقد تناوله الأصوليون بالبحث الدقيق المعمق ، فذهب قوم كالشيخ الانصاري والاخوند والسيد الوالد إلى استحالته، وذهب آخرون كالميرزا الشيرازي الكبير والميرزا النائيني إلى إمكانه.
وقد استدل القائلون بالامتناع بأدلة ؛ منها ما ذكره الآخوند من أن الأمر بالمهم وإن لم يزاحم الأمر بالأهم- إذ لا يرقى إلى رتبته فلا مجال لتوهم التضاد بين الأمرين هنالك - إلا أن الأمر بالمهم[10] على القول بالترتب يلزم منه أمر المولى بالمستحيل وهو الجمع بين الضدين؛ فإن الأمر بالأهم مطلق فهو موجود في رتبة الأمر بالمهم وعند فعليته، إذ لا يسقط الأمر بالأهم على تقدير العزم على عصيانه أو على تقدير عصيانه، بل لا يسقط الأمر- سقوطاً مزيحاً للعقاب- إلا بامتثاله، وعلى كل فقد اجتمع الأمران بمرتبة فعليتهما على تقدير العصيان أو العزم عليه، وحيث أنهما ضدان استحال الأمر بهما معاً في رتبة الأمر بالمهم؛ فالترتب محال.
وقد أطال القوم في سرد أدلة الاستحالة والجواب عنها أو تأكيدها، ثم إذ وصلوا إلى بعض الروايات- كروايات الثواب على المشي لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام)   - اضطروا إلى توجيهها.

ولكن الحق الأولى هو:
أولا:الرجوع للروايات في المسألة الفقهية قد يكشف حال الأصولية
الرجوع إلى الروايات أولاً في المسألة الفقهية الجزئية قد يكشف عن وجه الصواب في المسألة الأصولية أيضاً ؛ فمثلاً قوله صلوات الله عليه (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَكُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ...) ؛ فإنه مصداق واضح للترتب؛ إذ هو عبارة أخرى عن: إن لم تنبعثوا عن الدين[11] فانبعثوا عن (الحرية) ومقتضى الفتوة والرجولة.
ولو كان الترتب مستحيلاً لاستحال مثل هذا القول أو للزم توجيهه بالتعسف، مع أنه لدى ملاحظته نجده مطابقاً للفطرة السليمة ، بل أن جرْي كافة الموالي في أوامرهم على ذلك.
وبعبارة أخرى: أن مسائل الفقه ورواياته أقرب للفهم والإصابة، نظراً لبساطتها ووضوحها وعدم تعقيدها عادة[12] فكان الوصول منها إلى الأصول هو الأقرب للإصابة، والأقرب للفطرة وللحكمة، عكس مباحث الأصول العقلية؛ فإنها لتعقدّها وعمقها –اللازم أو المتبرع به! –وتشابكها لهي مما يتيه فيها العقل عادة أو يشط ويكثر خطؤه، ولذا نجد شدة اختلاف الأصوليين في بحوث الأصول العقلية بين مدع للاستحالة ومدع للوجوب على نقيضه! فكان اتخاذها سُلّماً-  بمعزل عن الروايات في المقام- للوصول إلى الأحكام الفقهية مما يزيد الطين بلة ويبعد الفقيه عن الإصابة.
ولعل لذلك قيل كأنهم نسوا في الفقه ما أسسوه في الأصول! وذلك لأنهم حيث وصلوا للفقه وجدوا عدم انسجام ما توصلوا إليه في الأصول مع مقتضى الذوق الفقهي السليم أو الإجماع – الذي اعتبروه غير حجة وغير كاسر ولا جابر–أو شبه ذلك.

ثانياً: الرجوع للمسائل الفقهية كذلك قد يكشف حال الأصولية
كما أنه من الممكن الاستدلال على المسألة الأصولية –وهي في مثالنا إمكان الترتب –بما افتى به الفقهاء –على تناقض مبانيهم في الترتب –من فتاوى لا تبتني إلا على جوازه!
فمن ذلك ما ذكره صاحب العروة وتبعه جمع من الأعاظم[13]، من وجوب رد السلام في الصلاة ؛ فإنه أهم لكنه لو لم يردّ وأكمل قراءته صحت صلاته مع أنه على استحالة الترتب ينبغي القول ببطلانها ؛ إذ لا أمر بها–أي بقراءة هذا المقطع المزاحِم للسلام –وحيث لا أمر به لم يجزئ ؛ فتبطل صلاته لعمده بترك الجزء[14].


------------
[1] هذه سلسلة فوائد وبحوث جمعها واعدها فضيلة الشيخ عطاء شاهين حفظه الله من مختلف كتب و دروس سماحة السيد .
([2]) أي من الأدلة الخاصة بل والعامة أيضاً.
([3]) في كثير من المسائل إن لم يكن في معظمها.
([4]) إذ القاطع بها، لا يراها في مقابل البديهة بل يؤول البديهة أو ينكرها رأساً.
([5])  وكثير منها صادر قطعاً ثبوتاً، وأما إثباتاً فلأدلة أخرى غير وثاقة المخبر أو جبره مستندة إلى وثاقة الخبر والقرائن عليه ومنها قوة مضمونه كما في نهج البلاغة وغيره .
([6]) ومنها قدرته على التعبير السليم عما جال بخاطره. ومنها: التفاته لدلالات كلامه الالتزامية والتضمنية وما تفيده دلالة الاقتضاء وغيرها، إضافة إلى ما سبق من انه حدس من غيرِ معصومٍ واحتمال خطأ الترجمة في المترجَم منها.
([7]) المنسوب إليه.
([8]) كي لا يقال بعدم نهوض الظواهر أمام دوائر الاستحالة والوجوب.
([9]) لإمكان الخطأ الثاني لكن بعكس وجهه.
([10]) إذا عصى أو عزم.
([11]) وواجب عليكم أن تنبعثوا عنه لنصرتي والدفاع عني.
([12]) والمعقّد منها عادة ناشئ من تعارض الروايات كما في الكر.
([13]) ومنهم السيد الوالد ، والسيد الكلبايكاني ، والسيد الخوئي ،  والسيد حسن القمي،  والسيد المرعشي.
([14]) مبادئ الاستنباط : الدرس 40.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3615
  • تاريخ إضافة الموضوع : 1 محرم الحرام 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29