بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
كان الكلام حول ان الاحتياط المذكور في الرسائل العملية وغيرها قد يكون استحبابيا وهو ذلك الاحتياط المسبوق او الملحوق بالفتوى وقد طرحنا سؤالا وهو ماذا يعني الاحتياط الاستحبابي وهل الاستحباب شرعي ام عقلي ؟ وذكرنا انه قد يقال انه شرعي لوجوه تقدم احدها وقبل ذكر باقي الوجوه نقول ان هذه الوجوه بالاضافة الى انها جواب عن السؤال المتقدم فهي تبين لنا فلسفة الاحتياط الاستحبابي اي انه لِمَ مع وجود فتوى للفقيه ومع ذلك يحتاط بالاستحباب فيقول (الاحوط استحبابا الاتيان بالتسبيحات الاربع ثلاث مرات او الاتيان بجلسة الاستراحة)مثلا وتقدم الوجه الاول وسيأتي ببيان اخر
الوجه الثاني : شمول قاعدة التسامح في ادلة السنن للمورد فان الرواية تقول(من بلغه ثواب من الله سبحانه على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه وان لم يكن كما بلغه)وهناك عدة روايات بهذا المضمون قد جرى فيها كلام طويل يترك لمحله وفيها اقوال منها انها تفيد مجرد حصول الثواب وكونها ارشادا من العقل لحسن الانقياد والبعض يرى انها تفيد الاستحباب الى جانب الثواب وهو احد الاحكام التكليفية الخمسة اي تفيد استحباب العمل بالعنوان الثانوي الطارئ ومنها انها تفيد اسقاط شرائط حجية الخبر في باب المستحبات وفي ما نحن فيه : لو افتى الفقيه بحسب ما توصل اليه من استظهار ولكنه مع ذلك قال (الاحوط استحبابا الدعاء عند رؤية الهلال مثلا) او افتي بكفاية احدى التسبيحات في الركعة الثالثة والرابعة ثم قال (الاحوط استحبابا الاتيان بثلاث تسبيحات)وذلك لوجود
أ- رواية ضعيفة سندا ب- او دلالة فتشملها قاعدة التسامح في ادلة السنن (بناءا على دلالة القاعدة على الاستحباب) ج- او لوجود رواية قوية سندا ودلالة لكنه تركها لوجود روايات صراح صحاح اكثر منها تخالفها لكن مع ذلك يحتاط رعاية لتلك الرواية المعارضة بالاقوى منها مثلا : في مسـألة بلوغ الفتاة فان الرأي المشهور هو بلوغها باتمام تسع سنين والدخول في العاشرة لكن لو ان فقيها كان يرى ان البلوغ باتمامها السنة الثانية عشرة والدخول في الثالثة عشرة لوجود رواية او روايتين -لعلهما تام السند والدلالة عنده- فافتى بذلك لكن مع ذلك يحتاط استحبابا بان تراعي الفتاة التكاليف الشرعية في ما بين التاسعة والثالثة عشرة وذلك لوجود روايات هي التي استند اليها المشهور وقد تجاوزت العشرين ، سندها اتم وقد يقال بانها متواترة ودلالتها اقوى تدل على ان البلوغ في سن العاشرة ، لكنه استظهر خلاف ذلك ، فيحتاط لا لضعف سندها او دلالتها عنده بل يحتاط مع تمامية روايات الثالثة عشرة بنحو المقتضي رعاية لتلك الروايات التي يحملها على الافضلية مثلا ، فهذا هو الوجه الثاني للاستحباب الشرعي ولقول الفقيه بالاستحباب
الوجه الثالث:هو مخالفة فتواه للمشهور فيفتي بحسب ما توصل اليه الا انه يقول (الاحوط استحبابا العمل برأي المشهور)المخالف لرأيه مع انه خطأه والوجه في ذلك قد يكون مثل قوله تعالى(ويتبع غير سبيل المؤمنين)على تفصيل في تفسير الاية او قوله عليه السلام(خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر فان المجمع عليه لا ريب فيه)فياخذ برأي المشهور من باب الاحتياط
ان قلت: هذه الرواية ظاهرة في وجوب الاخذ بقول المشهور ، فاذا قامت عنده الحجة الشرعية على الخلاف فلا يشلمله الامر الوجوبي بالاخذ ، فكيف يستدل بها على الاستحباب ؟
قلنا: ان الاقوال في حقيقة الوجوب والندب ثلاثة على قولين منها يتم الاستدلال دون الثالث:
القول الاول :ان الوجوب والندب مرتبتان من مراتب الطلب فان الطلب من الحقائق التشكيكية فاذا كانا كذلك وقامت الحجة على عدم الوجوب انتفت هذه المرتبة وتبقى المرتبة الثانية وهي الندب ، فحيث كانت فتواه على عدم الوجوب لا يلزم من ذلك طرح الرواية (خذ بما اشتهر بين اصحابك)مطلقا بل نطرحها بمقدار التعارض اي بمقدار قيام الحجة على خلافها والحجة قامت على خلاف بعض مدلول (خذ بما اشتهر) وهو الوجوب فتبقى المرتبة اللاحقة
القول الثاني في حقيقة الوجوب والندب: ان الوجوب مركب من امرين الامر بالفعل مع المنع من الترك ، ومع قيام الحجة لدى الفقيه بعدم وجود منع من الترك(اي الوجوب) فيطرح هذا الجزء من المركب فتبقى دلالة الامر(خذ بما اشتهر) على مطلق الرجحان
وبناءا على هذين القولين فحتى لو لم نأخذ بمدلول(خذ بما اشتهر )الاول وهو (الوجوب) لكن يجب ان نأخذ بمدلولها الثاني وهو (الندب)
القول الثالث في حقيقة الوجوب والندب :انهما حقيقتان متباينتان فعلى هذا القول لا يتم الاستدلال لأنه لا يكون وجه للاحتياط الاستحبابي فان(خذ بما اشتهر)تدل على الوجوب فاذا قامت الحجة لدى الفقيه على عدم الوجوب فيتركه ، اما الندب فحقيقة اخرى لا دال عليها
اللهم الا ان يقال في اصل المبحث المبنائي السابق رتبة على هذا المبحث بان الامر يدل مطلق الطلب او نقول في المبحث المبنائي ان الامر يدل على الاستحباب كما ذهب اليه البعض ، والا لو التزمنا بان الامر يدل على الوجوب فلا مناص لتصحيح الاستحباب من الالتزام باحد الوجهين الاولين ,اذن على تلك المباني سوف يختلف الحال, وهذا هو الجواب عن الشبهة في(ان قلت)
والخلاصة: ان الفقيه اذا لاحظ ان فتواه مخالفة لفتوى المشهور فيحتاط استحبابا بالعمل برأي المشهور لقوله عليه السلام(خذ بما اشتهر ) وحيث ان (خذ بما اشتهر)على ما بيناه بعد رفع اليد عن دلالتها على الوجوب تدل على الندب فالاستحباب شرعي لأنه مقتضى الامر المولوي (خذ بما اشتهر)
لكن هل يمكن ان يقال لتصحيح الاحتياط الاستحبابي استنادا لرواية(خذ بما اشتهر)ان يقال:ان الاخذ ب(خذ بما اشتهر) يتبع المتعلق فان كان المتعلق الوجوب فيجب الاخذ برأي المشهور وان كان المتعلق الندب فيستحب الاخذ بالمندوب ؟
وبتعبير اخر:تارة تنعقد الشهرة على وجوب شيء وتارة تنعقد على استحباب شيء ف(خذ بما اشتهر)ان كان متعلقها الوجوب فيجب الاخذ به اما ان كان متعلقها الندب فيستحب الاخذ به ؟ (هذه الكبرى) واما الصغرى حيث ان رأي المشهور كان مخالفا لرأي هذا الفقيه لذا يحتاط استحبابا فتشمله(خذ بما اشتهر) استحبابا لا وجوبا , فهل هذا الوجه تام ام لا؟
الظاهر انه لا يتم ذلك لحدوث خلط بين (المؤدى) و(الحكم) كلامنا في الحكم وليس في المؤدى اي (ما انعقدت عليه الشهرة وهو المتعلَّق),توضيح ذلك:تارة يكون الكلام في مؤدى(خذ بما اشتهر)فما ادت اليه الشهرة ان كان هو الوجوب فخذ به وجوبا وان كان ما ادت اليه الشهرة هو الاستحباب فالاخذ به مندوبا
لكن الكلام في المقام ليس في المؤدى وانما الكلام في الحكم , فان هذا الفقيه الذي ذهب الى خلاف راي المشهور كفتوى لكنه رعاية لرأي المشهور يقول بالاستحباب (اي كانت فتواه عدم الوجوب وفتوى المشهور هو الوجوب )اذن الاستحباب ليس مؤدى رأي المشهور حتى تشمله (خذ بما اشتهر) ولو استحبابا بل انه رعاية لفتوى المشهور احتاط استحبابا فهل هذا الاحتياط الاستحبابي مؤدى رأي المشهور؟
والجواب : كلا ، اذن لا تشمله دلالة(خذ بما اشتهر)
هذا هو الوجه الثالث للقول بالاحتياط الاستحبابي
وعند التدقيق في الرسائل العملية (كتجربة عملية) وبمراجعة ادلة الفقهاء ووجه قولهم بالاحتياط الاستحبابي سنجد ان الوجه في ذلك هو احد الوجوه الثلاثة المتقدمة اما الاول وهو رعاية احراز الواقع او الوجه الثاني وهو شمول قاعدة التسامح في ادلة السنن لها او الوجه الثالث وهو ان المشهور افتى على خلاف رأيه فيحتاط بالعمل برأي المشهور استحبابا
وهناك وجه رابع للقول بالاستحباب الشرعي يأتي الكلام عنه ان شاء الله تعالى وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين ..... |