• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 260- ضابط اخر لكشف العلة من الحكمة - محاكمة بين النائيني والعراقي في كون قاعدة التجاوز اصلا او امارة .

260- ضابط اخر لكشف العلة من الحكمة - محاكمة بين النائيني والعراقي في كون قاعدة التجاوز اصلا او امارة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(260)

 

ضابط آخر: اقوائية ظهور المعلَّل من العلة؟

والتدبر في الآيات الكريمة والروايات الشريفة يقودنا إلى وجود ضابط آخر به يكتشف كون الشيء علّة أو حِكمة، وهو ملاحظة مجموع العلّة والمعلَّل له ونسبة ظهور القاعدة المعللة بأمر إلى ذلك الأمر من حيث مدى قوة ظهور كل منهما، وتوضيحه: ان المعهود ملاحظة حال اللسان المذكور في الرواية وانه ظاهر في العِلِّية أو في كونه حِكمة، ولكن التدبر يقودنا إلى ضرورة ملاحظة حال القاعدة المذكورة في الرواية ولسانها ومدى قوة ظهورها مقيسة إلى ما عُلّلت به فقد يكون ظهورها أقوى من ظهور ما يبدو انه علّة فتصرفه إلى كونه حِكمة، وذلك إذا كان ظهوره في العموم قوياً بحيث أفاد ثبوت الحكم حتى للأفراد الفاقدة لتلك التي بدا انها عِلّة فيستكشف من ذلك انه حِكمة، وقد يكون العكس فيستكشف ان القاعدة لم تكن عامة بل تدور مدار تحقق العلّة سلباً وإيجاباً.

 

اقوائية ظهور لفظ قاعدة التجاوز والفراغ من ظهور (الأذكرية) في العِلّية

فهذه هي الكبرى الكلية، واما الصغرى، فالظاهر ان ظهور روايات قاعدة التجاوز والفراغ في العموم أقوى من ظهور (الأذكرية) المعللة بها، في كونها علّة، إن لم نقل بتطابقهما كما سيأتي.

توضيح ذلك ان قوله عليه السلام ((يَا زُرَارَةُ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ‏ءٍ)) بعد إثباته عليه السلام الحكم لصغريات متعددة بنفس البيان مؤكداً: ((قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ وَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِقَامَةِ؟ قَالَ: يَمْضِي، قُلْتُ: رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَقَدْ كَبَّرَ؟ قَالَ: يَمْضِي، قُلْتُ: رَجُلٌ شَكَّ فِي التَّكْبِيرِ وَقَدْ قَرَأَ؟ قَالَ: يَمْضِي، قُلْتُ: شَكَّ فِي الْقِرَاءَةِ وَقَدْ رَكَعَ؟ قَالَ: يَمْضِي، قُلْتُ: شَكَّ فِي الرُّكُوعِ وَقَدْ سَجَدَ؟ قَالَ: يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ،

ثُمَّ قَالَ: يَا زُرَارَةُ...)) صريح في عموم القاعدة لكل شيء وكل مورد فان ذلك هو ما يستفاد من التدرج في تثبيت الحكم لعددٍ من الصغريات ثم تتويج ذلك كله بذكر الكبرى الكلية، فمنه يظهر ان قوله عليه السلام ((هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ)) و((كَانَ حِينَ انْصَرَفَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ)) حِكمة لذلك الحكم الكلي، فيشمل الحكم حتى صورة ما لو أحرز انه كان مشتت الذهن مما لا يحرز انه كان أذكر حينها مما بعدها، فيكون ككل حِكمة أخرى غير ضارة بعموم العام لما تخلفت عنه، ولو كان علّة، لكان ينبغي في رواية زرارة: ((يَا زُرَارَةُ إِذَا خَرَجْتَ... ))التفصيل، فترك الاستفصال والتفصيل مع تكرار تأكيد قاعدة (يمضي) دليل على انه حِكمة.

ثم انه لو سلّمنا فلا أقل من التعارض والتحيّر وحينئذٍ فعلى مدّعي العِلّية الدليل؛ إذ لا يحتاج مدّعي عدم الاظهرية العموم إلى إثبات كونه حِكمة لأن المرجع عموم القاعدة في الرواية وهي عامة أو مطلقة بلا شك، والـمُخرِج إثبات عِلّية (الأذكرية) فإذا لم يثبت واجمل ولو للتعارض، كفى عموم لفظ المعلل له، إلّا ان يقال بان محتمل القرينية المتصل مخلّ بالعموم. فتأمل.

 

والحق: تطابق الظهورين

لكن هذا كله على فرض تسليم عدم تحقق الأذكرية في بعض من خرج من جزء ودخل في آخر، لكن الحق، كما سبق، ان الأذكرية متحققة دائماً حتى في المتشتت ذهنه تماماً، وذلك بالبيان اللطيف الذي نقلناه عن الميرزا النائيني، ولعل المحقق العراقي لم يلتفت إلى لطافة نكتة النائيني فتوهمها حِكمة مع ان بيانه يفيد كونها علّة فلا بد من ردّه ولم يفعل.

 

العراقي: الشك موضوع للقاعدتين

نعم استدل العراقي بان روايات قاعدة التجاوز والفراغ أخذت الشك موضوعاً، فعليه تكون القاعدة أصلاً ويكون الحكم تعبدياً إذ قد ألغى الشارع جهة الكشف الضعيفة التي فيه، فلا يمكن تعميم الحكم أو تخصيصه دائراً مدار الحِكمة بل المرجع لفظ الرواية، دون تحقق الحِكمة وعدمه.

قال: (أقول: على تقدير هذه الغلبة، ظهور اخباره المأخوذ في موضوعها الشك ينادي بإلغاء جهة كشفه؛ وما في بعض الأخبار من التعليل بالأذكرية، محمول على بيان حِكمة الجعل، لا انه موضوع الجعل تتميم([1]) كشفه، بقرينة الأخبار الاخر الظاهرة في كونها في مقام التعبّد بوجود المشكوك في ظرف الشك؛ كما لا يخفى)([2]).

 

الجواب: بل هو ظرف لا قيد

أقول: الظاهر عدم تمامية كلامه لأن الأخبار وإن أخذ في موضوعها الشك في لسان السائل ولسان الإمام عليه السلام (فلاحظ صحيحة زرارة السابقة ((فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ‏ءٍ)) وموثقة إسماعيل بن جابر ((كُلُّ شَيْ‏ءٍ شَكَّ فِيهِ...)) ) إلا ان الشك أخذ فيها ظرفاً لا قيداً نظير الشك في الاستصحاب، فان كونه أحد ركنيه لا يفيد كون الاستصحاب أصلاً، كيف وكونه مسبوقاً باليقين ملحوظةً حالته السابقة يجعله امارة على البقاء كاشفةً عنه، والمقام كذلك فان هذا الشك ظرف للحكم بـ(يمضي) لا قيد له وموضوع، وذلك لأنه شك من المكلف حين العمل وكونه حين العمل مرآة كاشفة عن إتيانه على وجهه، كما مضى تقريره في كلام الميرزا النائيني.

وبعبارة أخرى: إنّ تردد (الشك) بين كونه موضوعاً أو ظرفاً، على فرضه وتسليم عدم الظهور في كونه ظرفاً، يرتفع بضم روايات ((هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ)) و((كَانَ حِينَ انْصَرَفَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ)) فانها حاكمة على مثل صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل، لجريان ضابط الحكومة على العديد من المباني ومنها (ان يتطرق الدليل إلى ما لا يتطرق إليه الدليل الآخر من حالاته) وهو منطبق على روايات (أَذْكَرُ) و(أَقْرَبَ) تماماً، ومنها ما ذكره الشيخ وهو (ان يكون الدليل الحاكم بمدلوله اللفظي ناظراً للدليل المحكوم ومبيناً لحدوده سعةً وضيقاً) أو فقل انه كالتفسير لتلك وتعريف الشيخ هنا كما ذكرناه في بحث التعارض: (لقد عرّف الشيخ الحكومة بتعريفين مختلفين في جهات عديدة وجامعها هو ان التعريف الأول أشمل من الثاني من جهات عديدة والثاني أخص من الحكومة بالتعريف الأول في مناحي مختلفة.

فقد عرّفه في آخر مباحث الاستصحاب بـ: (ومعنى الحكومة - على ما سيجيء في باب التعادل والتراجيح -: أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لولا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في موردٍ بحكم لا يقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم، وسيجئ توضيحه)([3]).

وعرّفه في أول كتاب التعادل والترجيح بـ: (وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبينا لمقدار مدلوله، مسوقا لبيان حاله، متفرعا([4]) عليه.

وميزان ذلك: أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغوا خاليا عن المورد. نظير الدليل الدال على أنه لا حكم للشك في النافلة، أو مع كثرة الشك أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل، فإنه حاكم على الأدلة المتكفلة لأحكام الشكوك، فلو فرض أنه لم يرد من الشارع حكم الشكوك - لا عموما ولا خصوصا - لم يكن مورد للأدلة النافية لحكم الشك في هذه الصور)([5]))([6]) وقد فصّلنا المباني السبع للحكومة في كتاب (الحكومة والورود) ومنها هذان المبنيان فراجعها لتجد صدق الانطباق على المقام. وتدبر وتأمل والله العالم.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا عَالِماً بِشَرِيعَتِنَا، فَأَخْرَجَ ضُعَفَاءَ شِيعَتِنَا مِنْ ظُلْمَةِ جَهْلِهِمْ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ الَّذِي حَبَوْنَاهُ بِهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ... إِلَى أَنْ قَالَ أَلَا فَمَنْ أَخْرَجَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْرَةِ جَهْلِهِ فَلْيَتَشَبَّثْ بِنُورِهِ لِيُخْرِجَهُ مِنْ حَيْرَةِ ظُلْمَةِ هَذِهِ الْعَرَصَاتِ إِلَى نُزْهَةِ الْجِنَانِ فَيُخْرِجُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَّمَهُ فِي الدُّنْيَا خَيْراً أَوْ فَتَحَ عَنْ قَلْبِهِ مِنَ الْجَهْلِ قُفْلًا أَوْ أَوْضَحَ لَهُ عَنْ شُبْهَةٍ)) (الاحتجاج: ج1 ص16).

 

 

------------------------------------------------

([1]) الصحيح ظاهراً هو (بتتميم).

([2]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي: ج4 ص618.

([3]) فرائد الأصول: ج3 ص314.

([4]) وفي نسخة (متعرّضاً).

([5]) فرائد الأصول: ج4 ص13- 14.

([6]) الدرس (119/679)

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3689
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاربعاء 29 ربيع الاول 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19