• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 436- تتمة: الاستثناء المنفصل متصل وشهادة كلام الرضي وسيبويه .

436- تتمة: الاستثناء المنفصل متصل وشهادة كلام الرضي وسيبويه

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(436)

 

شواهد أخرى على الاستثناء من المقدّر

ومنها: ورد من قولهم:

وكلُّ أخٍ مُفارقُهُ أخوهُ                لَعَمْرُ أَبيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ

فانه لو أُبقِي المنفصل على ظاهر قولهم من انه منفصل حقيقة، لكان مثل هذا الكلام ركيكاً وليس مجرد انه لم يكن بليغاً فقط؛ إذ يكون معناه وكل أخ يفارق أخاه، ولكن الفرقدان (وهما نجمان في السماء متلازمان) لا يفارق أحدهما الآخر! وإنما الجمال والبلاغة في ان يكون منفصلاً في عين كونه متصلاً وبالعكس: فالانفصال ظاهري وحسب المستثنى منه المذكور في الكلام والاتصال واقعي وحسب المقدر في الكلام، والمقدّر هو أمر نظير: وكل أخ مفارقه أخوه الحقيقي والمجازي إلا الفرقدان فانهما لا يفترقان، ويؤكده: ان هذا التعميم والتقدير هو الأقوى في إفادة الحصر إذ إذا كان كل أخ مفارقاً أخاه، سواء أكان أخاً حقيقةً أم مجازاً، إلا الفرقدان، فان فراق زيد لأخيه يكون حتمياً لعموم قاعدة المفارقة حتى للاخوة المجازية.

ومنها: قوله تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْني‏ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتي‏ عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)([1]).

فقد اختلف في (حُجَّةٌ) وعلى حسب تفسيرها يكون الاستثناء متصلاً أو منفصلاً: فان فسرت بمطلق ما يحتج به أحد الطرفين على الآخر الأعم من كونه حقاً أو باطلاً، أو شبه ذلك، فالاستثناء متصل لأن حجة الذين ظلموا منهم باطلة وقد خرجت من المستثنى منه الأعم، وإن فسرت الحجة بالكاشف عن الواقع أو الحجة الصحيحة كما هو مقتضى القاعدة لأن غيرها (شُبْهة) أو (شبيهة بالحجة) وليست حجة إلا مجازاً، فالاستثناء منفصلٌ كأنه قيل لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا أي، حسب تفسير المشهور لمعنى المنفصل، لكن الذين ظلموا منهم لهم عليكم شُبهة لا حجة، ولكن الظاهر انه على الانفصال فان المستثنى منه في الظاهر هو (الحجة) بمعناه الواقعي (الحجة الصحيحة أو الكاشف أو المطابق للواقع) واما في الباطن فان المستثنى منه مقدر هو مثلاً (مستمسَك) أي ما يستمسكون به من حُجة أو شُبهة، فالمذكور (حُجَّةٌ) والمقدر (مستمسك) و( إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يعود إلى المذكور وهو (حُجَّةٌ) ظاهراً، وإلى المقدر وهو (مستمسك) واقعاً فهو إخراج منه. والله العالم.

ومنها: قولهم: "سلكتُ فلاةً ليس فيها أنيس إلا الذئاب"، فان الظاهر ان المراد (أنيس حقيقي ولا مجازي، بعلاقة الضد إلا الذئاب) فانها أنيس مجازاً وبعبارة أخرى: إلا الذئاب فانها أنيس بوجه مجازي. فتأمل

 

شبهة: هل المستثنى المتصل داخل أم خارج؟

ويوضح ما ذكرناه ويؤيده: الشبهة التي طرحها المحقق الرضي في شرح الكافية، في الاستثناء المتصل من انك عندما تقول (جائني القوم إلا زيداً) فهل زيد داخل في القوم أو خارج؟ فإن قلت انه داخل يلزم التناقض إذ يكون معناه انه جاءٍ غير جاءٍ!! وإن قلت انه خارج أي لم يكن داخلاً في الجائِين، لزم مخالفة الإجماع لإجماعهم على ان الاستثناء المتصل مخرج. أقول: وللزم عدم صحة التعبير بانه استثناء وانه متصل إذ المعنى على هذا جاء غير زيد من القوم.

قال: (ثم إن الاستثناء مشكل باعتبار معقوليته([2])، لأن زيداً في قولك جاءني القوم إلا زيداً، لو قلنا أنه غير داخل في القوم، فهو خلاف الإجماع، لأنهم أطبقوا على أن الاستثناء المتصل مخرج، ولا إخراج إلا بعد الدخول، فإن جاز الشك في مثله، لم يصح في نحو قوله: له عليَّ دينار إلا دانقاً، للعلم بأن «دانقاً» مخرج من الدينار، والباقي بعده هو المقرُّ به، وإن قلنا أنه داخل في القوم، و«إلّا» لإخراجه منهم بعد الدخول، كان المعنى: جاء زيد مع القوم، ولم يجيئ زيد، وهذا تناقض ظاهر ينبغي أن يُجنّب كلام العقلاء عن مثله، وقد ورد في الكتاب العزيز من الاستثناء شيء كثير، كقوله تعالى: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً)([3])، فيكون المعنى: لبث الخمسين في جملة الألف، ولم يلبث تلك الخمسين؛ تعالى الله عن مثله علوّا كبيرا)([4]).

 

الأجوبة: 1- داخلٌ مُخرَجٌ قبل الإسناد

ثم ذكر أجوبة عديدة ناقشها إلى ان اختار في الجواب: (فزبدة الكلام: أن دخول المستثنى في جنس المستثنى منه ثم إخراجه بالَّا وأخواتها: إنما كان قبل إسناد الفعل أو شبهه إليه، فلا يلزم التناقض في نحو: جاءني القوم إلا زيداً، لأنه بمنزلة قولك: القوم المخرج منهم زيد، جاءوني ، ولا في نحو: له عليَّ عشرة إلا درهماً، لأنه بمنزلة قولك: العشرة المخرج منها واحد، له عليَّ، وذلك لأن المنسوب إليه الفعل، وإن تأخر عنه لفظاً، لكنه لا بدَّ له من التقدم وجوداً على النسبة التي يدلّ عليها الفعل، إذ المنسوب إليه والمنسوب سابقان على النسبة بينهما ضرورة، ففي الاستثناء، لما كان المنسوب إليه هو المستثنى منه فلا بدّ، إذن، من حصول الدخول والإخراج قبل النسبة، فلا تناقض)([5]).

 

2- أو داخل في الموضوع خارج عن المحمول

وبعبارة أخرى: ان زيداً داخل في الموضوع خارج عن المحمول أي داخل في (القوم) خارج عن حكمهم وهو (المجيء) وتفسيره بهذا أولى مما هو ظاهر كلامه فتدبر في كلامنا وكلامه.

 

3- أو الإرادة الجدية منفكة عن الاستعمالية

وللأصوليين جواب آخر عن مثل ذلك وهو تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية فزيد داخل في القوم الجائين في مرحلة الإرادة الاستعمالية ومخرَج عنه في مرحلة الإرادة الجدية، وقد اشار إليه الرضي بوجهٍ ثم ردّه لكن ردّه غير تام، قال: (فقال بعضهم: نختار أنه غير داخل، بل القوم في قولك، جاء القوم، عام مخصوص، أي أن المتكلم أراد بالقوم جماعة ليس فيهم زيد، وقوله إلا زيداً، قرينة تدل السامع على مراد المتكلم، وأنه أراد بالقوم غير زيد)([6]) وأجاب: (وليس بشيء، لإجماع أهل اللغة على أن الاستثناء مخرج، ولا إخراج إلا مع الدخول، وأيضاً، يتعذّر دعوى عدم الدخول في قصد المتكلم في نحو: له عليَّ عشرة إلا واحداً، لأن «واحداً» داخل في العشرة بقصده، ثم أخرج، وإلا كان مريداً بلفظ العشرة: تسعة، وهو محال)([7]).

وجوابه واضح بعد تطويرنا له وهو انه من الصحيح قطعاً (ان الاستثناء مخرج، ولا إخراج إلا من الدخول) لكنه متحقق في المقام فانه داخل في الاستعمالية مخرَج عن الجدية.

ومحل الكلام نظير ذلك فان الاستثناء المنفصل، بلحاظ انه استثناء فلا بد من كون المستثنى داخلاً في المستثنى منه (وإلا لما كان استثناء) وبلحاظ انه منفصل فلا بد من كونه خارجاً، ولا تناقض؛ إذ الدخول إنما هو بلحاظ المستثنى منه المقدر والخروج إنما هو بلحاظ المستثنى منه المذكور.

 

سيبويه: نقدّر أعم من المستثنى منه، فيكون الاستثناء متصلاً

ثم ان للرضيّ عن سيبويه كلاماً يطابق مسلكنا فتدبر فيه جيداً قال: (قوله: «أو منقطعا في الأكثر» أي منقطعاً بعد «الّا» نحو: ما في الدار أحد إلا حماراً؛ أهل الحجاز يوجبون نصبه مطلقاً، لأنّ بدل الغلط غير موجود في الفصيح من كلام العرب.

وبنو تميم قسموا المنقطع قسمين: أحدهما ما يكون قبله اسم متعدد أو غير متعدد يصح حذفه، نحو: ما جاءني القوم إلّا حماراً وما جاءني زيد إلا عمراً، فههنا يجوِّزون البدل، ثم أن ذلك الاسم الذي يجوز حذفه، إمّا أن يكون مما يصح دخول المستثنى فيه مجازاً، أو، لا، فالأول نحو قولك: ما في الدار أحد إلا حماراً، يصح أن يجعل الحمار إنسان الدار، كما قال أبو ذؤيب:

 

٢١١ - فإن تُمسِ في دار برهوة ثاوياً            أنيسُك أصداءُ القبور تصيح 

 

ومثله: ما لي عتاب إلا السيفُ، فلسيبويه في مثل هذا وجهان إذا أبدلت.

أحدُهما: جعلُ المنقطع كالمتصل، لصحة دخول المبدل في المبدل منه.

والثاني: أن الأصل في نحو: لا أحد فيها إلا حماراً أن يقال: ما فيها إلا حمار، أي ما فيها شيء إلا حمار، لكنه([8]) خُصِّص بالذكر من جملة المستثنى منه([9]) المحذوف، المتعدد، ما ظُنَّ استبعاد المخاطب شمول المتعدد المقدّر له، كأنك تظن أن المخاطب يستبعد خلوّها من الآدميّ، فقلت لا أحد فيها، تأكيداً لنفي كون الآدمي بها، فلما ذكرت ذلك المستبعد([10])، أبقيت ذلك المستثنى([11]) على ما كان عليه في الأصل، من الإعراب، تنبيها على الأصل وجعلته بدلاً من ذلك المذكور([12])، فعلى هذا، لا يكون هذا من قبيل الاستثناء المتصل كما كان في الوجه الأول)([13]).

وقد نقلناه بطوله ليتضح مراده جيداً، وموضع الشاهد يبدأ من قوله (فلسيبويه في مثل هذا وجهان...) وموضع الشاهد وجهه الثاني فلاحظ قوله: (والثاني أن الأصل في نحو: لا أحد فيها إلا حماراً أن يقال: ما فيها إلا حمار، أي ما فيها شيء إلا حمار) حيث أرجع المنفصل (لا أحد فيها إلا حماراً) إلى المتصل (ما فيها شيء إلا حمار) فهو بنظره منفصل ظاهراً ومتصل واقعاً نظراً لتقدير (شيء) والنكتة في ذكر (أحد) بدل (شيء) هي ما ذكره، إذاً: ذَكَر (أحد) للنكتة تلك، وقَصَد (شيء) لأنه المستثنى منه الحقيقي. وهذا يطابق ما قلناه تماماً، فتدبر.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال الإمام الباقر عليه السلام: ((ثَلَاثٌ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتَحْلُمَ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْكَ)) (تحف العقول: ص293).

 

 

----------------------------------------------

([1]) سورة البقرة: آية 150.

([2]) أي من حيث انه لا يمكن تعقله.

([3]) سورة العنكبوت: آية 14.

([4]) رضي الدين الأسترابادي، شرح الرضيّ على الكافية، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام: ج2 ص76-77.

([5]) المصدر نفسه: ص78-79.

([6]) رضي الدين الأسترابادي، شرح الرضيّ على الكافية، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام: ج2 ص77.

([7]) رضي الدين الأسترابادي، شرح الرضيّ على الكافية، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام: ج2 ص77.

([8]) أي أحد.

([9]) أي شيء.

([10]) أحد.

([11]) حمار.

([12]) أحد.

([13]) رضي الدين الأسترابادي، شرح الرضيّ على الكافية، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام: ج2 ص85-86.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3715
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 18 ربيع الاخر 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28