بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
كان البحث حول المعرفة في اصول العقائد وحول التقليد والاجتهاد فيها وبدأنا بحثا هاما وهوانه هل يصح الاستدلال والاستناد الى النقل في البحوث العقلية كمباحث اصول الدين ام لا؟ وهل يصح الاستناد الى النقل او لا يصح؟ هل هو لغو او ليس بلغو ؟ مفيد او غير مفيد؟ اذ قد يقال انه لغو غير مفيد (كما سبق بيانه)
وذكرنا ان هناك اجوبة عديدة قد تصل الى ست: الاول: ما تقدم وهو ان النقل المتضمن للاستدلال العقلي لا يرد عليه هذا الاشكال بوجه ؛ اذ لا لغوية ، لفرض ان هذا النقل تضمّن استدلالا فلا وجه للغوية بعد تضمن النقل للاستدلال العقلي ولا ضير في ان يكون الطريق الى هذا الاستدلال هو النقل , هذا ما مضى
الجواب الثاني: يظهر بعد التوقف قليلا عند موضوع الفلسفة وموضوع علم الكلام والعلة الغائية منهما حيث سيظهر ان هذا الاشكال ليس بوارد وان الاعتماد والاستناد للنقل هو مجدٍ في الفلسفة وعلم الكلام .
بيان ذلك ان موضوع الفلسفة هو الموجود من حيث هو موجود بعكس سائر العلوم حيث ان موضوعها الوجودات المقيدة مثلا علم الرياضيات موضوعه ليس الموجود المطلق بل هو الموجود المقيد بكونه كمّا متصلا في علم الهندسة او كمّا منفصلا كما في علم الحساب , اما موضوع علم الكلام فهو المبدأ والمعاد ، واما العلة الغائية من هذين العلمين فهي الوصول الى الواقع والوصول الى الحقيقة والحق , الا ان الفرق بين العلمين ان الفلسفة موضوعها الوجود المطلق اما علم الكلام فموضوعه اخص من ذلك اي موضوعه المبدأ بالذات الذي هو وجود واجب الوجود وليس الوجود بما هوهو و خصائصه العامة ، فالعلة الغائية للعلمين هي الوصول للحقيقة والواقع والحق واذا كانت هذه هي العلة الغائية فلا فرق فيها بين ان نستند للعقل او الى النقل اذ كما يكون العقل كاشفا موصلا كذلك النقل وكما ان النقل الصادر من المحيط بالحقائق او مبعوثه او رسوله موصل حتما ، اما غيره فيحتمل الوجهين ، كذلك العقل فان العقل المجرد عن سبق شبهة وعن لوث الهوى وما اشبه ذلك فهو مصيب دائما اما غيره فقد يصيب وقد لا يصيب ، اذن العقل كالنقل من هذه الجهة يمكن ان يكون مصيبا دائما ان كان خاليا عن الشبهة ونحوها ويمكن ان يكون النقل مصيبا دائما ان كان من المحيط
ان قلت:ان العلة الغائية من الفلسفة هي (اقامة الحجة على الخصم) وليس ما ذكر من (الوصول الى الواقع) ولا تقام الحجة على الخصم بنقلٍ ينكره؟ قلت:كلا,فالغاية من الفلسفة ومن علم الكلام هي الوصول الى الحقيقة والواقع ككل العلوم الا المنطق فان العلوم كلها تهدف الوصول الى الواقع كالفيزياء والكيمياء والفلك وكذلك الفلسفة تهدف ان تصل الى الاحكام العامة للموجود بما هو موجود والعلم الوحيد الذي يتحدث عن الحجية بما هي هي ، هو المنطق ، فموضوعه (المعرّف والحجة) والصناعات الخمس محورها البرهان وتتحدث عن نفس البرهان وشروطه وخصائصه وموانع انتاجه وتتحدث عن ما هو بمنزلة البرهان بحق او باطل كالشعر والمغالطة والجدل والخطابة ، اذن ما عدا المنطق الذي يتحدث عن (الحجة) كموضوع لا كطريق،فان فالعلوم الاخرى تهدف ايصالك الى الواقع والحجة انما هي طريق لا غير وليس فيها جانب موضوعي وعلى هذا فلا فرق ان يكون الطريق الموصل هو العقل او النقل. سلمنا ،لكن نقول ان العلة الغائية من الفلسفة وعلم الكلام امران:
الاول: الوصول للواقع اذ لا يوجد فيلسوف يقول ليس هدفي الوصول للواقع فهذا هدف مسلم ، لكن نقول لو سلمنا بذلك الاشكال ، فانه عليه سيكون فيكون لعلم الفلسفة هدفان الاول الوصول للحقيقة والواقع, (والنقل يحقق الهدف الاول وكفى به فائدة)
والهدف الثاني هو اقامة الحجة عليها وهنا نسأل ما هو المراد بالحجة ؟ فان فسرت الحجة بالكاشفية عن الواقع فلا فرق في ذلك بين الدليل النقلي والدليل العقلي كما سبق لان كليهما ان خلا من الشبهة والملابسات موصل( المصدر النقي للدليل العقلي هو نفس العقل والمصدر النقي للنقل هو الله ورسله واوصيائهم والمعصوم عليه السلام) والحاصل انه اذا فسرت الحجة بالكاشف فلا فرق في ذلك بين النقل والعقل فكلاهما يصلح ان يكون كاشفا عن الواقع وكلاهما قد يكون مصيبا دائما ان اجتمعت الشرائط وقد لا يكون ان تخلفت ، واما لو فسرت الحجة بمعنى المنجز والمعذر او فسرت بلزوم الاتباع او فسرت بمعنى ما يصح الاحتجاج به فقد يشكل على هذا وان النقل مما لا يصح الاحتجاج به على الخصم المنكر لحجية النقل ، والنقل مما لا يلزم الخصم باتباعه اذ هو لايعتقد به فالخصم لا يتنجز عليه مؤدى النقل بعد ان لم يكن مؤمنا به.
نقول حتى على هذه التفسيرات الثلاث الاخيرة فانه يمكن الاستناد الى النقل بلحاظ العلة الغائية الثانية لهذين العلمين ببيان ان هذا النقل يورث بلا شك في ذهن الخصم انقداحا للشبهة وانقداحا للاحتمال ومع انقداح الاحتمال فالمعاني الثلاث الاخيرة تترتب بحكم العقل لان العقل يحكم حينئذ بانه وان لم يكن هذا النقل حجة قطعية عليك اذ لم تثبت لديك حجيته الا انه يحتمل ان يكون صحيحا والاحتمال في الشؤون الخطيرة منجز عند العقل والعقل يلزم فيها بالاحتياط ولا يكون المجرى مجرى البراءة في لزوم الاتباع وكذلك العقل يرى ان هذه الحجة الاحتمالية مما يمكن ان يحتج بها المولى عليك لو فرض ان هناك مولى اذن اعدنا النقل بهذه الطريقة الى العقل فالاحتجاج بالنقل لا ضير فيه لانه اثار شبهة او احتمالا اوجب تدخل العقل وحكمه بالاحتياط او الفحص والتحقيق .
الجواب الثالث:ان هذا الاستدلال اخص من المدعى بوجه اخر غير الوجه الاول لان المستشكل ذكر ( ان الاستناد للنقل في البحوث العقلية لغو) ونحن نقول ان اريد النفي مطلقا فباطل او مطلق النفي فلا يستلزم اللغوية المطلقة هذا اخص من المدعى لان الكتب الفلسفية والكلامية لم تؤلف للاحتجاج على الخصم فقط بل الغاية من الكتب الفسفية والكلامية هي الاحتجاج على المعتقد ايضا ، كما نشاهد ذلك خارجا فان الذين يدرسون كتبا معينة في الفلسفة وعلم الكلام عادة هم المعتقدون بتلك الكتب وبتلك العقائد بل يعتقدون بالمؤلف نفسه ، اذن ليس الاستدلال بالنقل لغوا على اطلاقه وان فرض انه لغو بحق الخصم ، وبعبارة اخرى : الكتب الفلسفية لم يقل احد انها الّفت للخصم فقط بل الفت للموافق والمخالف ، وذلك يعني ان لها فائدتان الاولى للموافق والاخرى للمخالف بل نقول في كل الاديان فان فائدتها للموافق هي الغالبة ، فاشكال اللغوية في حق الموافق مندفع بلا شك وعلى هذا فانه عندما يستدل في الكتاب الفلسفي او الكلامي بالقران الكريم مثلا فان الموافق يقتنع بهذا الكلام ويجده على القاعدة وان لم يتضمن النقل دليلا عقليا ، بل الغريب ان بعض العرفاء والفلاسفة حيث فهموا هذه المعادلة فانهم صاروا الى التمسك حتى بالنقل الضعيف كالمرسل المقطوع العامي حيث نجدهم احيانا قد تمسكوا به في ادق البحوث العقلية وليس المقصود ان استدلالهم صحيح ، بل المقصود ان عملهم هذا يكشف عن انهم يعرفون ان قراء كتبهم ودارسوها ، قسم كبير منهم من المعتقدين وله ان يستدل عليه بالنقل ، فمثلا ان من اهم البحوث بحث الخلود في النار والعذاب دائم للمشرك والكافر والايات دلالتها واضحة على ان العذاب سرمدي في النار وهذا بحث من ادق البحوث العقلية لكن نجد ان البعض من كبار الفلاسفة والعرفاء تمسكوا في هذا البحث العقلي الدقيق برواية مرسلة عامية (يأتي على جهنم زمان ينبت في قعرها الجرجير) هي رواية مرسلة مقطوعة عامية استدلوا بها على اهم واحد من البحوث العقلية بل هي مخالفة لضرورة كافة الاديان وكلامنا ليس في نفس هذا الاستدلال فانه خطأ دون ريب لكن كلامنا ان هذا العارف ادرك ان قارئ كتابه ليس هو الخصم فقط بل هو عادة الموافق, والموافق يكون النقل بالنسبة له مفيدا لا الغوية له ،بل ينفع اما لاصل الايمان او لمزيد الاطمئنان.
ولا بأس ان نشير الي ما ورد من ان الامام الكاظم عليه السلام كان يقول لخادمه (موفق) اشترِ لنا البقل واكثر من شراء الجرجير ثم يقول (ما احمق بعض الناس يقولون انه ينبت في وادى جهنم والله عزوجل يقول وقودها الناس والحجارة فكيف تنبت البقل) ؟
الجواب الرابع: وهو جواب دقيق ويقبله –جل ان لم يكن كل-الفلاسفة والعرفاء وهو ان البراهين العقلية في اصول العقائد الرئيسية ليست ببراهين انما هي صورة برهان وانه لا يوجد برهان على الاطلاق في البحوث العقلية الاولية كالبحث عن وجود الله سبحانه ووحدانيته وكسائر البديهيات، وكل استدلال وبرهان يوجد فيها هو صورة برهان وبتعبير ادق هي منبهات وليست ادلة فاذا كان ذلك كذلك فلا فرق اذن بين العقل والنقل اذ كما ان العقل يصلح كمنبه ومثير لما اودع في العقل من دفائن كذلك النقل يصلح كمنبه ومحفز ومثير انما الشبهة تكون قوية لو قلنا ان الدليل العقلي هو دليل اما الدليل النقلي في البحوث العقلية ليس بدليل والحاصل ان الدليل العقلي في مثل معرفة الله سبحانه وفي المسائل العقلية الاولية ليس بدليل بالمرة باعتراف الفيلسوف بل هو صورة دليل فلا يزيد على النقل ولا وجه للاقتصار عليه , وستأتي تتمة الكلام مع اجوبة اخرى ان شاء الله تعالى .
وهذا البحث لانه بحث منهجي ويرتبط بمنهجية المتكلم والفيلسوف في كتبه من اولها الى اخرها وانه هل له –بل هل عليه- ان يستدل بالنقل اضافة للعقل ام لا؟لذلك فان هذا البحث يحتاج الى مزيد من البحث والتفكير والتامل ، وهذا البحث لم اجد من طرحه بحسب الاستقراء الناقص والاستفادة من النقل في العلوم العقلية ، لذا المرجوا من الافاضل اثراء هذا البحث اكثر فاكثر وصلى الله على محمد واله الطاهرين... |