• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 281- تزاحم الضررين وصوره الكثيرة .

281- تزاحم الضررين وصوره الكثيرة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(281)

 

تزاحم الضررين

البحث يدور بإذن الله تعالى حول تزاحم الضررين، والذي عبّر عنه العديد من الأعلام بما فيهم الشيخ الأعظم قدس سره بتعارض الضررين لوجهٍ سيأتي بيانه مع بيان وجه عدِّنا له من التزاحم لا التعارض، فنقول مستعينين بالله تعالى:

ان لتزاحم الضررين صوراً كثيرة جداً، لكن مرجعها إلى خمس صور، ذكر عدد من الأعلام أربعة منها ونضيف لها الخامس الذي لا يقل أهميته عنها كما سنذكر بعض الفروع والتشقيقات لتلك الصور الأربع مما لم نجده مجموعاً في كتاب أو مبحث واحد:

 

تزاحم ضرري الشخص الواحد وصُوَرِهِ

الصورة الأولى: تزاحم الضررين في الشخص الواحد، بان يدور أمره بين اختيار هذا أو ذاك، ولهذه الصورة تقسيمات وأقسام:

فمنها: من حيث المنشأ، إذ قد يكون منشأ التزاحم والدوران، فعلُهُ هو، أي ان يكون هو المسبِّب له، وقد يكون المنشأ فعل غيره وحينئذٍ قد يكون الثالث المنشأ للدوران شخصاً يمكن إلزامه بالحكم وقد لا يمكن كالحاكم الظالم، وقد يكون المنشأ عامل طبيعي كزلزلة أو شبهها مما يدخل في دائرة القَدَر غير الاختياري.

ومنها: من حيث الضرر نفسه، فقد يكون ضرراً مادياً وقد يكون ضرراً جسدياً وقد يكون ضرراً معنوياً، وقد يكون مركباً من عدد منها، كما ان الضرر قد يكون كبيراً وهو بين ما يُتُحمّل عادةً وما لا يُتُحمّل، أو متوسطاً أو قليلاً.

ويكفي التمثيل الآن لبعض الصور([1])، وذلك كما لو دار أمره، بسببه أو بسبب شخص آخر أو بعامل طبيعي، بين ان يهدم أحد منزليه، أو ان يخسر احدى تجارتيه، أو بين قطع أصبعه أو بذل مبلغ ضخم مضر بحالِهِ للعلاج، أو بين إراقة ماء وجهه أو بذل مبلغ كبير لصونه، فما هي المرجحات وما هو الأرجح؟ أو انه مخيّر مطلقاً؟ أو غير ذلك مما سيأتي؟

وعمدة الكلام في هذه الصورة سيكون من حيث الحكم التكليفي، ويمكن تصوير البحث من حيث الحكم الوضعي في بعض أقسامه.

 

تزاحم ضرري شخصين وصُوَرِهِ

الصورة الثانية: تزاحم ضرري شخصين بان دار الأمر بين أن يتضرر هو أو صاحبه، والمثال المعروف لذلك ما لو علق رأس دابة أحدهما في قدر الآخر.

ولهذه الصورة أيضاً تقسيمات وأقسام:

منها: من حيث المنشأ كما سبق: فقد يكون الوقوع في التزاحم، بفعل أحد المالِكين، وقد يكون بفعلهما معاً، وقد يكون بفعل ثالث وهو اما خاضع للحكم الشرعي أو لا، وفي كل الصور قد يكون ذلك بحقٍ أو بباطل أو بتفريط من أحدهما أو كليهما أو لا، وقد لا يكون بفعل فاعل بل بقضاء وقدر إلهي.

ومنها: من حيث الضرر، فقد يكون ضرراهما متساويين أو متقاربين، وقد يكون أحدهما أشدّ فاما إلى درجةٍ بالغة أو لا، والضرران قد يكونان ماديين أو بدنيين أو معنويين أو بالاختلاف.

ويكفي التمثيل لذلك بما لو دار الأمر بين دفع أحدهما الضريبة للظالم، أو بين قتل أحدهما أو ضربه أو سجنه، أو دار الأمر بين هتك عرضه أو عرض جاره.

والكلام في هذه الصور تارة يكون من حيث التكليف وأخرى من حيث الوضع.

 

التزاحم بين تضرره وبين الإضرار بغيره وصُوَرِهِ

الصورة الثالثة: ما لو دار أمره بين تحمّل الضرر وبين الإضرار بالغير، ولهذه الصورة تقسيمات وأقسام:

فمنها: ان يدور الأمر بين تحمله الضرر بعدم تصرفه في ملكه وبين إضراره بالغير بتصرفه فيه، وذلك كما لو كان تصرفه في داره بدق مسمار أو تأجيج نارٍ يضر بالجار وكان تركه مما يضر به كما لو كانت النار لأجل تجفيف الجدران والأرض خوف تزعزعها أو لأجل دفع الحشرات الضارة، لكنها كانت تضر بالجيران كما لو كانوا مرضى يضرهم دخانها أو شبه ذلك.

ومنها: ان يدور أمره بين تحمل الضرر بعدم تصرفه في ملكه تارة وفي المباح أو المشترك تارة أخرى وبين إضراره بالغير بتصرفه فيه كإخراجه الروشن أو الطارمة (البالكون أو الشُرفة) إلى الشارع مما كان يضر بالجار.

ومنها: ان الضرر الذي يلحق به قد يكون بالغاً وقد يكون غير بالغ وكذلك الضرر الذي يلحق بالغير بسببه، وذلك كما لو كان بناؤه طوابق أعلى من مستوى الجيران مما يضر بهم إذ يحجبهم عن الهواء والشمس والمناظر الخلابة، ضرراً قليلاً أو كثيراً، وكان ترك بنائه الطوابق مضراً له قليلاً أو كثيراً.

وسنبدأ بإذن الله تعالى البحث حول هذه الصورة نظراً لأن محور كلام الشيخ في الرسائل وفي القواعد الفقهية حولها، ثم ننتقل بلطف الله تعالى إلى سائر الصورة وإلى سائر التقسيمات:

ومنها: ان يدور الأمر بين عدم انتفاعه وبين إضراره بغيره.

ومنها: ان يدور الأمر بين عدم انتفاعه وبين عدم انتفاع غيره.

بل ان (الإضرار بالغير) يمكن تصوره في صور أخرى ككونه بقصد الإضرار، أو عبثاً، أو لجلب نفع، أو لدفع ضرر، عالماً أو جاهلاً، بحق أو بباطل..

والكلام في هذه الصورة، كسوابقه، تارة يكون من حيث الحكم التكليفي وأخرى يكون من حيث الحكم الوضعي.

 

التزاحم بين تحمله الضرر وتوجيهه إلى غيره

الصورة الرابعة: ما لو دار أمره بين تحمّل الضرر وبين توجيه الضرر إلى الغير، كما لو أراد ظالم مصادرة أرضه فأشار عليه ليصادر أرض غيره، أو أراد الاعتداء عليها فارشدته إلى غيرها، والكلام يجري من حيث أشدية الضرر في أحد الطرفين وعدمه، كما لو كانت بِكراً فأراد الزنا بها فلم تر وسيلة للخلاص منه إلا إرشاده إلى ثيّب أو إلى فاجرةٍ ليكفّ عنها فهل يجوز؟ أو أراد الزنا باثنتين فأرشدتاه إلى ثالثة لينشغل بها؟

الصورة الخامسة: تزاحم الضررين في فقه المجتمع والحكومة، وستأتي الإشارة إليه غداً بإذن الله تعالى.

وكما سبق فسنبدأ الكلام بالصورة الثالثة على ضوء كلام الشيخ قدس سره:

 

كلام الشيخ في الرسائل

قال: (ثم إنه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين، فمع فقد المرجح يرجع إلى الأصول والقواعد الاخر، كما أنه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للإضرار على الناس، فإنه يرجع إلى قاعدة " نفي الحرج "، لأن إلزام الشخص بتحمل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج، وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولي من قبل الجائر من كتاب المكاسب([2]).

ومثله: إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه يرجع إلى عموم: "الناس مسلطون على أموالهم"([3])، ولو عُدّ مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا، لم يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه، فيرجع إلى عموم التسلط.

ويمكن الرجوع إلى قاعدة "نفي الحرج"، لأن منع المالك، لدفع ضرر الغير، حرج وضيق عليه، إما لحكومته ابتداء على نفي الضرر، وإما لتعارضهما والرجوع إلى الأصل)([4]).

 

وملخصّه:

وحاصله: 1- انه اعتبر ذلك من باب التعارض لا التزاحم.

2- انه في الصورة الأولى والثانية اعتبر المرجّح فان فقد فسائر الأصول والقواعد.

3- انه في الصورة الثالثة (ومثله...) لم يقيّد بفقد المرجّح لكن قوله (مثله) قد يشير إلى التقييد، لكن مجمل كلامه ومختاره ظاهراً عدمه.

4- انه اعتبر المرجع بعد تعارض الضررين قاعدة السلطنة.

5- كما اعتبره قاعدة نفي الحرج.. وسيأتي الكلام حول ذلك كله بإذن الله تعالى.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَكَمْ مِنْ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَمَا ابْتَلَى اللَّهُ عَبْداً بِمِثْلِ الْإِمْلَاءِ لَهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) )) (تحف العقول: ص203)

 

 

 

------------------------------------------------

([1]) إذ سيأتي التفصيل.

([2]) انظر المكاسب 2: 86.

([3]) عوالي اللآلي 1: 222، الحديث 9.

([4]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج2 ص467.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3753
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 8 جمادي الاولى 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28