• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 282- تزاحم الضررين في فقه المجتمع .

282- تزاحم الضررين في فقه المجتمع

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(282)

 

أربع صور لتزاحم الضررين في فقه المجتمع

سبق ان لتزاحم الضررين صوراً أربع بتشقيقاتها، ويجب ان نضيف: ان هنالك صوراً أربع أخرى من تزاحم الضررين ترتبط بالنوع و(فقه المجتمع)، فان الفقهاء اقتصروا على طرح تزاحم الضررين في (الفقه الفردي) كضرري شخص واحد أو تزاحم ضرري شخصين، لكن التزاحم النوعي لا يقل أهمية عن التزاحم الشخصي، فانه كثير الابتلاء جداً بل لعله أكثر أثراً وأبعد غوراً وأوسع نطاقاً من التزاحم الشخصي. وموجز القول:

 

الصور الأربع للتزاحم للنوعي

ان التزاحم النوعي له صور أربع:

أ- فقد يكون التزاحم بين ضررين يتعلقان بأمة واحدة أو بشعب واحد أو بجماعة واحدة أو بحكومة واحدة.

ب- وقد يقع التزاحم بين ضررين يتعلقان بشعبين أو عشيرتين أو جماعتين أو حكومتين أو بالاختلاف، فيدور أمر الضرر بينهما.

ج- وقد يكون التزاحم بين تحمّل هذا الشعب أو هذه الحكومة الضرر وبين إضراره أو إضرارها بالشعب أو بالحكومة الأخرى.

د- وقد يقع التزاحم بين تحمله الضرر أو توجيهه الضرر للشعب الآخر.

والفرق بين الأخيرين ان الإضرار في الأول فعل الطرف الأول (الشعب أو الحكومة) بدون واسطة، والإضرار في الصورة الثانية فعل الغير (الثالث) وإن كان الدال عليه الطرف الأول فقد توسط الفاعل بالاختيار أو فقل هو فعل الطرف الأول مع الواسطة.

والمسائل والأمثلة التالية توضح مدى أهمية هذه الصور وشدة الابتلاء بها مما يستدعي ان يوليها الفقهاء اهتماماً بالغاً وان يشبعوها بالبحث الأصولي والفقهي:

 

تزاحم ضرر دولتين في نصب السدود على الأنهار

1- لو تزاحم ضررا دولة، كتركيا بتركها نصب السدود على نهري الفرات ودجلة، مع ضرر دولة كالعراق إذا نصبت تركيا السدود على النهرين، فايهما المقدم؟ وهذا المثال من الصورة الثالثة إذا لاحظنا تركيا حيث يدور أمرها بين ان يتضرر شعبها بعدم نصب السدود حسبما يدعون (وعلى أي فالقضية فرضية أي لو فرض انه كذلك) وبين ان يتضرر شعب العراق بنصبها السدود، فهل يقال بالتخيير؟ أو بالترجيح بأكثرية العدد؟ أو الترجيح بأشدية الضرر؟ أو بتعارض الضررين والرجوع إلى الأصول والقواعد الأخرى؟ أو بالقرعة؟ أو بقاعدة العدل والإنصاف؟ أو يقال بما قاله المشهور في الصورة الثالثة وهي ان لكلٍّ ان يتصرف في ملكه أو فيما تحت سلطنته بما يدفع الضرر عنه وإن كان يضر بغيره؟ أو يقال بغير ذلك من مدارية (المتعارف والأشدّية) كما هو المنصور الآتي؟

2- لو تزاحم ضررا شعب واحد بان دار الأمر بين اتخاذ الحكومة أو مجلس الأمة أو شورى الفقهاء قراراً معيناً يضر بالملايين من أفراد الشعب أو اتخاذهم قراراً آخر مناقضاً أو مضاداً له يُضِرّ بملايين آخرين فما المقدم؟

ونمثل لذلك بمثالين:

 

التزاحم بين ضرري خفض العملة ورفعها

الأول: خفض قيمة العملة أو رفعها، فإن خفض قيمة العملة([1]) يكون لصالح المصدّرين (وهم بالملايين) لكنه مضرّ بالمستوردين (وعكسه بالعكس)، إذ لو صارت العملة ضعيفة فان الدول الأخرى سيكون من الرخيص جداً لها الشراء منها (إذ قيمة الدينار الضعيفة لصالحهم إذ يشترون ما قيمته عشرة دنانير مثلاً بعشرة دولارات مثلاً عكس ما لو كانت قيمة الدينار ضِعفا ذلك مثلاً فان عليهم ان يدفعوا عشرين دولاراً كي يحصلوا على بضاعة قيمتها عشرة دنانير في بلدنا) ولذلك فان المصدّرين سيجدون طلباً كبيراً على بضائعهم ومنتجاتهم لتصديرها للخارج فيحصلون على أرباح كبيرة تبعاً لذلك.

واما المستوردون فحيث ضعفت عملة بلادهم (وحيث بقيت رواتبهم ثابتة أو مقاربة) فان شراء البضائع من الدول الأخرى سيكون مُكلفاً جداً، فيتضررون بشرائها بسعر غال وكثيراً ما يتضررون بترك شرائها.

وعلى العكس من ذلك رفع قيمة العملة، فانه لصالح المستوردين وبضرر المصدِّرين.

 

التزاحم بين ضرري البطالة والغلاء

الثاني: الدوران بين ضرر الغلاء وضرر البطالة؛ فان الاقتصاديين المعاصرين عموماً عجزوا عن علاج أحدهما إلا بما يضر بالآخر، أي انهم لم يجدوا طريقة اقتصادية للقضاء على التضخم وعلى البطالة معاً (إلا في حدود معينة أي إلى درجة معينة كـ5% من البطالة مثلاً) فانهم إذا قضوا على البطالة ازداد الغلاء وإذا ارخصوا الأشياء ازدادت البطالة.

وتوضيحه: ان المصرف المركزي إذا قام بسياسة توسعية بان ضخ أموالاً كثيرة في الأسواق (كما لو خفض قيمة الفائدة لديهم، أو ضخها في الأسواق بالمضاربة لدينا) فان المستثمرين سينهالون على الاقتراض (أو المضاربة) بتلك الفائدة المنخفضة (إذ يجدون عائدهم من الأرباح أكبر مما يخسرونه من الفوائد السنوية بمقدار 2% إلى 5% مثلاً) وسيشيدون عشرات الألوف([2]) من المعامل والمصانع والشركات و... فتتوفر بذلك فرصة العمل لمئات الألوف من العمال أو للملايين، فتنخفض البطالة كثيراً جداً، لكن لذلك أثر سلبي على الاسعار ورخصها؛ إذ مع ضخ تلك الأموال الكبرى في الأسواق يزداد الطلب على الأرض مثلاً (إذ يتقدم الكثيرون لشرائها أو استئجارها لتكون معملاً أو متجراً أو مزرعة) فترتفع قيمة الأراضي جداً، فيتضرر الكثير من الناس (العاديين الذين يريدون شراء أرض لبناء دار لهم أو شبه ذلك) كما ان الملايين من العمال لو حصلوا على وظائف واشتغلوا فانهم سيحصلون على السيولة والرواتب الشهرية فيزداد بذلك الطلب على كافة البضائع مما ينجم عنه التضخم، فالغلاء مضر بالملايين وتشغيل العاطلين نافع للملايين فايهما المقدم؟

وبالعكس من ذلك ما لو قام البنك المركزي بسياسة إنكماشية بان سحب الأموال من الأسواق (عبر رفع قيمة الفائدة إلى 10% أو أكثر) فان الناس سوف لا يقترضون غالباً، فتتعطل الكثير من المشاريع الموجودة كما لا يجري تأسيس كثير منها، فيفقد الملايين فرصة العمل لكن الأشياء تكون رخيصة حينئذٍ إذ يقلّ الطلب عليها جداً.

وهكذا نجد ان الأمر دائر بين ضررين كبيرين لطرفين عظيمين.

وقد توصل العبد الفقير إلى حل علمي لمعضلة التضاد بين حل مشكلة البطالة وحل مشكلة التضخم، وقد استفدت ذلك من التدبر في الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وبتصوري القاصر فانه يقدم لعلماء الاقتصاد حلاً علمياً سماوياً مذهلاً لما عجزوا عن حلّه: بحيث يزداد التوظيف والعمل ويزداد الرخص في الوقت نفسه.. وهذا البحث يشكّل احد محاور كتابنا القادم (الاقتصاد الفطري) بإذن الله تعالى.

 

أمثلة أخرى

ومن الأمثلة على التزاحم بين ضرري شعبين: التزاحم في (الهجرة) فان الدولة إذا أغلقت أبواب هجرة الناس (الذين هاجروا إليها من بلاد الحروب) إلى البلاد الأخرى مثلاً تضررت إذ يقع على كاهلها إدارتهم وإعالتهم، وإذا فتحت الباب تضررت تلك البلاد؟

ومن الأمثلة على تزاحم ضرري مدينتين: ما لو كان هناك نقص في الأدوية الضرورية لعلاج بعض الأمراض الخطرة مثلاً، فدار الأمر بين إرسالها إلى كربلاء أو النجف؟ أو البصرة أو السماوة؟ أو كان هناك جهاز طبي واحد فقط وكانت كلتا البلدتين محتاجتين إليه بحيث يتضرر كل منهما لو لم يرسل لها، فما العمل؟

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقَّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُرَخِّصِ النَّاسَ فِي مَعَاصِي اللَّهِ وَلَمْ يُقَنِّطْهُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَدَعِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَلَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ وَلَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَكُّرٌ وَلَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ)) (تحف العقول: ص204)

 

 

 

------------------------------------------------

([1]) كما تفعله الصين الآن.

([2]) أو أكثر أو أقل بحسب البلاد.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3758
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 9 جمادي الاولى 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29